قبل أسابيع قليلة سألنا "هل تتزمت أميركا فتهزم نفسها؟"، ولا شك أن الجواب عن هذا السؤال يميل يوماً بعد يوم نحو الايجاب. فعلى رغم الحملة الإعلامية التي يخطط لها طاقم الرئيس الأميركي، والتي يتوقع لها أصحابها أن تكتسح العقول والقلوب في العالمين العربي والإسلامي، إذ أن العداء للولايات المتحدة، وفق رأيهم، ناتج وحسب عن سوء فهم وتضليل لا عن سياسات ومواقف، على رغم هذه الحملة وما تعتزم إظهاره من التزام أميركي بالمبادئ السامية التي قامت على أساسها الولاياتالمتحدة، فإن بعض أهم هذه المبادئ تتآكل تحت وطأة ردات الفعل المضطربة على ما تعرضت له البلاد. فقد أقدم الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش على اصدار قرار يتجاوز فعلياً المنظومة القضائية القائمة في الولاياتالمتحدة، ويجيز له، بصفته القائد الأعلى، أن يأمر بمحاكمة الأجنبي بتهمة الإرهاب في محكمة عسكرية سرية، من دون أن يكون للمتهم حق الاطلاع على تفاصيل التهمة، ومن دون أن يلتزم الادعاء شروط اثبات التهمة السارية المفعول في النظام العدلي الأميركي، والتي تفترض براءة المتهم حتى تثبت إدانته. ومن دون أن يكون لهذا المتهم حق الاستئناف. ولا يصدر الحكم عن هيئة محلفين، كما تقتضي الاصول الدستورية والممارسة العدلية في الولاياتالمتحدة، بل من هيئة عسكرية لا تحتاج إلى الاجماع لإصدار قرارها النهائي والنافذ المفعول فوراً. وفي حين لا يتوانى طاقم الرئيس عن التذكير بأن الحال التي تعيش فيها الولاياتالمتحدة هي حال استثنائية، وان خمسة آلاف من الأميركيين سقطوا ضحايا للإرهاب، ثم أن تطبيق هذا القرار يقتصر على الأجانب، والهدف منه أساساً احقاق العدالة بحق أسامة بن لادن وقادة تنظيم "القاعدة" وحرمانهم من منصة قد يحصلون عليها في حال جرت محاكمتهم وفق الاصول المعتادة، يطلقون منها تهديداتهم ويثيرون المزيد من الضغائن، فالأمر الواقع أن قرار بوش هذا ألحق لتوّه بالولاياتالمتحدة ضرراً خطيراً على مستويات عدة. ليس من المبالغة اعتبار النظام العدلي الأميركي قرّة عين الخطاب الفكري والسياسي في الولاياتالمتحدة. وأهم المقومات الأساسية للصورة الذاتية الأميركية، لا سيما عند المقارنة بسائر المجتمعات والثقافات. والولاياتالمتحدة، وفق هذه الصورة، ليست دولة قانون وحسب، بل دولة عدالة. ولا يقلق معظم الأميركيين أن تكون قد صدرت عن النظام القضائي في بلادهم أحكام فرّطت بحق المدعي أو افرطت في معاقبة المتهم البريء. فالتعليق على الأولى ان من الأصح درء عقاب المتهم المذنب بشبهة بدلاً من معاقبة المتهم البريء. والتعليق على الأخرى أن "النظام القضائي في الولاياتالمتحدة قد لا يكون أفضل بالمطلق، ولكنه أفضل من أي نظام آخر قائم". ولكن أية أفضلية لهذا النظام حين يطوى وتتجاوزه السلطة التنفيذية وفق المقتضى الآني؟ ولا ينفع أن يطمئن طاقم الرئيس الجمهور الأميركي إلى أن لهذا القرار الخطير سوابق تاريخية، بدءاً بالحرب الأهلية الأميركية في غياهب القرن التاسع عشر، وانتهاء بالحرب العالمية الثانية، حين ألقت السلطات القبض على ثمانية متسللين من الألمان دخلوا البلاد بغرض التخريب، فأحالهم الرئيس روزفلت إلى محكمة عسكرية سرية قضت بإعدام معظمهم. إذ على رغم اعتماد الرئيس بوش على الصلاحيات الموسعة التي منحه اياها الكونغرس في أعقاب الهجوم الإرهابي، فالقراءات الأولية لقراره تشير إلى أنه تجاوز الشرعية الدستورية، ذلك أن نص الدستور لا يجيز للسلطتين التنفيذية والتشريعية، مجتمعتين أو منفردتين، تعليق الحقوق القضائية. غير أنه في وسع الرئيس بوش، في إطار أجواء الخوف والالتفاف حوله بصفته قائد البلاد الأعلى، أن يطمئن إلى أنه لن يجد في الطبقة السياسية من يعترض على قراره. طبعاً، أصوات الاعتراض، أو على الأقل الامتعاض، لم تختف تماماً. فقد أشار عدد من المعلقين الصحافيين إلى محاذير هذا القرار. واتسم بعض التعليقات بحدة بارزة. فالمعلق المحافظ وليم سافاير وصف خطوة الرئيس بوش بأنها تمنحه سلطات استبدادية. وفيما يعبر سافير عن قلقه من أن يتأذى النظام العدلي في الولاياتالمتحدة نتيجة لهذا القرار، يبدي تفهمه لحاجة حكومة الرئيس بوش إلى ايجاد السبيل لتصريف محاكمات أعضاء نظام "طالبان" وتنظيم "القاعدة" من دون تكلف عناء التقيد بالشروط السارية المفعول ضمن النظام القضائي الأميركي. فيتقدم باقتراح يتردد كثيراً في مختلف الأوساط في الولاياتالمتحدة، وهو أن تتولى القوات المسلحة الأميركية تصفية هؤلاء، فلا تضطر المحاكم الأميركية إلى النظر في قضاياهم. ولا يجد سافاير ولا غيره تناقضاً في هذا الاقتراح. ذلك أن قتلهم يجري في إطار الحرب، فهو إذاً مشروع ولا غبار عليه. ولا يحرج سافاير وغيره ان يكون قتلهم في هذه الحرب يتم لاعتبارات لا علاقة لها بالمعركة، بل لتجنيب العدالة الغالية في الولاياتالمتحدة مشقة امتحان نفسها. والواقع أن ثمة امتحاناً آخر لهذه العدالة يجري اليوم في الولاياتالمتحدة، ونتائجه مقلقة فعلاً: 1100 شاب عربي مسلم رهن الاعتقال و5000 آخرون رهن الاستنطاق، في ظروف غامضة وتحت ستار من السرية الخانقة الأرقام قد تختلف، فالسلطات ترفض الافصاح حتى عن عدد المعتقلين. الافتراض السائد لدى مختلف الأوساط هو ان وسائل الإعلام لم تتردد فقط في نقل الروايات التي سربتها الأجهزة الأمنية، والتي تراوحت من خطة تهدف إلى استعمال طائرات رش المبيدات للاعتداء بالسموم القاتلة على المدن، إلى خطة تقتضي الهجوم بالشاحنات الملغومة على مختلف المرافق، مروراً بالحديث عن اعتقال الطيار تلو الطيار من الذين يفترض انضمامهم إلى المجموعة التي نفذت اعتداءات 11 أيلول سبتمبر. والواقع أن السلطات الأمنية تراجعت عن جميع هذه الاتهامات. والواقع الآخر الذي لا بد من التأكيد عليه حفاظاً على ما تبقى للنظام العدلي الأميركي من صدقية، أن جميع هؤلاء المتهمين ابرياء إلى أن تثبت ادانتهم. ولم يأتِ من ادعى عليهم لا ببينة ولا ببرهان. منظمات الدفاع عن الحقوق المدنية، كما منظمات الجاليتين العربية والإسلامية، تبذل قصارى جهدها لتلطيف مصاب المعتقلين وملاحقة قضاياهم في إطار الهامش الضيق جداً المتاح لها. لكن هذه المنظمات كافة محرجة في أجواء التعبئة المكثفة اليومية التي تشهدها البلاد، والتي ترفض أي تبرير أو دفاع أو اعتذار لصالح "العدو"، بعدما أناط الجمهور الأميركي مهمة تحديد هذا "العدو" بالسلطات الرسمية. فاستمرار اعتقال الموقوفين، بعد أسابيع على استجلابهم، دليل كافٍ في نظر الكثيرين على تورطهم بالإرهاب. وهنا تكمن خطورة القرار الرئاسي الجديد: ماذا إذا جرى توسيع نطاق تطبيق هذا القرار ليتعدى إطاره الأول، أي أعداء الولاياتالمتحدة في أفغانستان، فيشمل الشباب المسلمين والعرب الذين هم لتوّهم في السجون الأميركية؟ فهم من الأجانب، والشبهة التي انطلقت بالنسبة الى عديدهم من اعتبارات واهية أضحت اليوم تهمة ثابتة بنظر الجمهور. من صالح كل من الرئيس بوش ووزير عدله جون اشكروفت، وكذلك مختلف المدعين العامين في انحاء الولاياتالمتحدة، ايداع هؤلاء المتهمين كافة السجون بصورة دائمة، وذلك من باب الحيطة والحذر والحرص على الصالح العام. ولكن أيضاً من باب حفظ ماء الوجه والمحافظة على التأييد الشعبي والمثابرة بالتعبئة المطلوبة للمراحل العتيدة من "الحرب على الإرهاب". وقد لحظت الاصول الدستورية الأميركية، صراحة وضمناً، هذا الجانب الذاتي في الممارسة السياسية للسلطة التنفيذية، فجعلت من استقلالية السلطة القضائية والشفافية في المحاكمة والتقيد بالشروط والحقوق أسس عدم إقدام السلطة التنفيذية على ما يتجاوز الصالح العام. أما اليوم، وفي ما يتعلق بهؤلاء "الأجانب" في أفغانستان، كما في الولاياتالمتحدة نفسها، فإن قرار الرئيس بوش يسقط الشفافية بشطحة قلم، ويلغي الشروط ويحل الحقوق وينتهك الاستقلالية بإيلاء مهمة المقاضاة للعسكريين، وهو قائدهم الأعلى، ويزيل إذاً التوازن الدستوري ويفسح المجال أمام إساءة استعمال السلطة. للولايات المتحدة تراث دستوري ضخم في التشريع والممارسة ليس من المبالغة اعتباره إرثاً انسانياً عاماً وتجربة مهمة من شأن الدول كافة الاستفادة منها. وقرار بوش هذا لا يشرّف هذا التراث، ولكن لا بد من الملاحظة إلى أن المسألة لا تزال إلى اليوم نظرية وحسب. إذ أن وضع بوش قراره موضع التطبيق قد يؤدي إلى ردود فعل تسعى إلى تقييده أو إلغائه. فالعبرة، من وجهة النظر الأميركية الداخلية، هي في التنفيذ. أما على المستوى الدولي، فالضرر الفادح الناجم عن هذا القرار قد تحقق لحظة الصدور، إذ تراجعت حينها قدرة الولاياتالمتحدة على ادعاء الصدقية في توجيهها النقد والملامة إلى غيرها من الدول، سواء في تطبيقها لقوانين تعسفية، أو في تبديلها هذه القوانين وفق مقتضى الحال. نظام "طالبان" وتنظيم "القاعدة" من دون تكلف عناء التقيد بالشروط السارية المفعول ضمن النظام القضائي الأميركي. فيتقدم باقتراح يتردد كثيراً في مختلف الأوساط في الولاياتالمتحدة، وهو أن تتولى القوات المسلحة الأميركية تصفية هؤلاء، فلا تضطر المحاكم الأميركية إلى النظر في قضاياهم. ولا يجد سافاير ولا غيره تناقضاً في هذا الاقتراح. ذلك أن قتلهم يجري في إطار الحرب، فهو إذاً مشروع ولا غبار عليه. ولا يحرج سافاير وغيره ان يكون قتلهم في هذه الحرب يتم لاعتبارات لا علاقة لها بالمعركة، بل لتجنيب العدالة الغالية في الولاياتالمتحدة مشقة امتحان نفسها. والواقع أن ثمة امتحاناً آخر لهذه العدالة يجري اليوم في الولاياتالمتحدة، ونتائجه مقلقة فعلاً: 1100 شاب عربي مسلم رهن الاعتقال و5000 آخرون رهن الاستنطاق، في ظروف غامضة وتحت ستار من السرية الخانقة الأرقام قد تختلف، فالسلطات ترفض الافصاح حتى عن عدد المعتقلين. الافتراض السائد لدى مختلف الأوساط هو ان وسائل الإعلام لم تتردد فقط في نقل الروايات التي سربتها الأجهزة الأمنية، والتي تراوحت من خطة تهدف إلى استعمال طائرات رش المبيدات للاعتداء بالسموم القاتلة على المدن، إلى خطة تقتضي الهجوم بالشاحنات الملغومة على مختلف المرافق، مروراً بالحديث عن اعتقال الطيار تلو الطيار من الذين يفترض انضمامهم إلى المجموعة التي نفذت اعتداءات 11 أيلول سبتمبر. والواقع أن السلطات الأمنية تراجعت عن جميع هذه الاتهامات. والواقع الآخر الذي لا بد من التأكيد عليه حفاظاً على ما تبقى للنظام العدلي الأميركي من صدقية، أن جميع هؤلاء المتهمين ابرياء إلى أن تثبت ادانتهم. ولم يأتِ من ادعى عليهم لا ببينة ولا ببرهان. منظمات الدفاع عن الحقوق المدنية، كما منظمات الجاليتين العربية والإسلامية، تبذل قصارى جهدها لتلطيف مصاب المعتقلين وملاحقة قضاياهم في إطار الهامش الضيق جداً المتاح لها. لكن هذه المنظمات كافة محرجة في أجواء التعبئة المكثفة اليومية التي تشهدها البلاد، والتي ترفض أي تبرير أو دفاع أو اعتذار لصالح "العدو"، بعدما أناط الجمهور الأميركي مهمة تحديد هذا "العدو" بالسلطات الرسمية. فاستمرار اعتقال الموقوفين، بعد أسابيع على استجلابهم، دليل كافٍ في نظر الكثيرين على تورطهم بالإرهاب. وهنا تكمن خطورة القرار الرئاسي الجديد: ماذا إذا جرى توسيع نطاق تطبيق هذا القرار ليتعدى إطاره الأول، أي أعداء الولاياتالمتحدة في أفغانستان، فيشمل الشباب المسلمين والعرب الذين هم لتوّهم في السجون الأميركية؟ فهم من الأجانب، والشبهة التي انطلقت بالنسبة الى عديدهم من اعتبارات واهية أضحت اليوم تهمة ثابتة بنظر الجمهور. من صالح كل من الرئيس بوش ووزير عدله جون اشكروفت، وكذلك مختلف المدعين العامين في انحاء الولاياتالمتحدة، ايداع هؤلاء المتهمين كافة السجون بصورة دائمة، وذلك من باب الحيطة والحذر والحرص على الصالح العام. ولكن أيضاً من باب حفظ ماء الوجه والمحافظة على التأييد الشعبي والمثابرة بالتعبئة المطلوبة للمراحل العتيدة من "الحرب على الإرهاب". وقد لحظت الاصول الدستورية الأميركية، صراحة وضمناً، هذا الجانب الذاتي في الممارسة السياسية للسلطة التنفيذية، فجعلت من استقلالية السلطة القضائية والشفافية في المحاكمة والتقيد بالشروط والحقوق أسس عدم إقدام السلطة التنفيذية على ما يتجاوز الصالح العام. أما اليوم، وفي ما يتعلق بهؤلاء "الأجانب" في أفغانستان، كما في الولاياتالمتحدة نفسها، فإن قرار الرئيس بوش يسقط الشفافية بشطحة قلم، ويلغي الشروط ويحل الحقوق وينتهك الاستقلالية بإيلاء مهمة المقاضاة للعسكريين، وهو قائدهم الأعلى، ويزيل إذاً التوازن الدستوري ويفسح المجال أمام إساءة استعمال السلطة. للولايات المتحدة تراث دستوري ضخم في التشريع والممارسة ليس من المبالغة اعتباره إرثاً انسانياً عاماً وتجربة مهمة من شأن الدول كافة الاستفادة منها. وقرار بوش هذا لا يشرّف هذا التراث، ولكن لا بد من الملاحظة إلى أن المسألة لا تزال إلى اليوم نظرية وحسب. إذ أن وضع بوش قراره موضع التطبيق قد يؤدي إلى ردود فعل تسعى إلى تقييده أو إلغائه. فالعبرة، من وجهة النظر الأميركية الداخلية، هي في التنفيذ. أما على المستوى الدولي، فالضرر الفادح الناجم عن هذا القرار قد تحقق لحظة الصدور، إذ تراجعت حينها قدرة الولاياتالمتحدة على ادعاء الصدقية في توجيهها النقد والملامة إلى غيرها من الدول، سواء في تطبيقها لقوانين تعسفية، أو في تبديلها هذه القوانين وفق مقتضى الحال. حسن منيمنه