رغم الاستهزاء الذي تمعن فيه بعض الصحافة العالمية، والعربية طبعاً، من باب الهذر أو التشفّي أو حتى الشماتة، ورغم النصائح والتوجيهات التي تفضل بها عدد من المسؤولين في أنظمة عماد السلطة فيها الأجهزة الأمنية والقمعية، فإن الوضع الناجم عن الانتخابات الرئاسية في الولاياتالمتحدة ليس دليل ضعف في النظام السياسي أو في الممارسة السياسية. بل ان العكس هو الصحيح، اذ قد أبانت هذه "الأزمة" مدى استعداد البنى السياسية الاميركية لاستيعاب الاحتمالات كافة، كما أكدت رسوخ التقيد بالمشروعية النظامية والدستورية في مختلف الأوساط والاتجاهات في المجتمع الاميركي. وفي الوقائع، فإن الأزمة المفترضة تعود الى تضافر مصادفات لم يكن في الامكان توقع حدوثها. ويذكر هنا مجدداً ان انتخاب الرئيس الاميركي ينطلق من اعتبار البلاد اتحاداً لا جمهورية آحادية. فالفائز بمنصب الرئيس ليس بالضرورة الحائز على أغلبية أصوات المقترعين وهو اليوم آل غور، بل الفائز بأكثرية أصوات المندوبين الانتخابيين والراجح انه اليوم جورج دبليو بوش. ويتوزع المندوبون الانتخابيون على الولايات بما يتناسب وعدد ممثلي كل ولاية في مجلسي النواب والشيوخ في الكونغرس. وبما ان توزيع مقاعد مجلس النواب يعكس الحصة السكانية لكل ولاية من مجموع سكان البلاد، في حين انه لكل ولاية ممثلين في مجلس الشيوخ الفائز بها، من دون ان تُقسم أصوات مندوبيها بما يتناسب مع توزيع الاقتراع الشعبي فيها للمرشحين المختلفين، فإن التفاوت بين توزع أصوات الناخبين وتوزيع أصوات المندوبين غالباً ما يتفاقم. وذلك ما يجري عادة في اتجاه تضخيم هامش الانتصار للفائز بأصوات الناخبين. وعلى سبيل المثال، فإن الرئيس السابق جورج بوش الأب حصل على قرابة 49 مليون صوت من أصوات الناخبين في انتخابات 1988، مقابل زهاء 42 مليوناً لمايكل دوكاكس أي 54 في المئة مقابل 46، ولكن توزيع أصوات المندوبين كان 426 لصالح بوش و111 لدوكاكس أي 79 في المئة مقابل 21. وباستثناء حالة واحدة في القرن التاسع عشر، فإن احتمال حدوث تعارض بين أصوات الناخبين وأصوات المندوبين كان قبل اليوم مسألة نظرية تعني الباحثين بدقائق القانون الدستوري الاميركي وحسب. والمصادفة الأولى في الانتخابات الرئاسية التي جرت هذا العام هي ان نتائج الاقتراع في كافة الولايات جاءت محسومة نوعاً ما لمصلحة أحد المرشحين الرئيسيين، الجمهوري جورج دبليو بوش والديموقراطي آل غور، الا في ولاية واحدة هي: ولاية فلوريدا. والمصادفة الثانية هي ان أصوات المندوبين لهذه الولاية ضرورية لكل من المرشحين للفوز بالرئاسة. أما لماذا لم يتمكن أي من المرشحين من الفوز الصريح بفلوريدا، فمسألة تمتزج فيها الاعتبارات الآنية والطويلة المدى والمسببات الذاتية والموضوعية. يمكن مثلاً الاشارة الى الوسطية التي تساوى فيها المرشحان وتشابها، أو الى الاطمئنان الى الاستقرار الاقتصادي الذي جعل تفضيل مرشح على آخر عرضة للتبدل بين ليلة وضحاها، وخطاب ونقيضه. وتجدر الإشارة بالطبع الى دور كل من جيب بوش، شقيق جورج دبليو وحاكم ولاية فلوريدا من جهة، والى دور جوزف ليبرمان المرشح الديموقراطي لمنصب نائب الرئيس من جهة اخرى: فالأول اجتهد في تعبئة جمهوره لصالح شقيقه. والثاني، لانتمائه اليهودي، بث الحماسة في أوساط الجالية اليهودية ذات النفوذ الانتخابي في جنوب الولاية. وتمكن الإشارة مثلاً، على مستوى الاعتبارات الآنية، الى ان غور تابع حملته الانتخابية في فلوريدا حتى الساعات القليلة قبل بدء التصويت. أما بوش فأنهى حملته قبل ذلك بيومين. والتحليلات، بعد ان جرى التصويت وصدرت النتائج، ما زالت تتوالى وتورد العوامل والدوافع المتفاوتة قدراً وحجماً. أما الواقع فهو ان الانتخابات، كأية عملية احصائية، تنطوي على هامش ضئيل من الابهام. ذلك ان الظروف والمعطيات تختلف حتماً بين دائرة انتخابية واخرى، سواء من حيث الآليات المستعملة أو من حيث تفاوت التركيبة الاجتماعية للجمهور الناخب وتأثيرها على نجاحه في الإدلاء بصوته. وفي حين ان النظام الانتخابي، في الولاياتالمتحدة كما في غيرها، يحافظ على الشكل الحسابي الصارم في اعلانه النتائج، فإن صدقية الانتخابات تقوم على اقرار ضمني بهامش الإبهام وعلى قناعة ضمنية بأن الاختلافات المسببة له ليست مفتعلة. وانها في مجموعها لا تؤدي الى تحبيذ مرشح على آخر، فيما المرشح الفائز لا يعتمد لفوزه على انتظام بعض هذه الاختلافات لصالحه. وهنا موطن العلة في انتخابات فلوريدا، وهنا المصادفة الأخطر. ذلك ان جورج دبليو بوش وآل غور قد تساويا عملياً في النتائج، لوقوع الفارق بينهما ضمن هامش الابهام. وسواء ثبت فوز بوش بالولاية، أو تمكن غور من انتزاع الفوز منه، ففي الحالتين يكون الفائز قد نجح في ترتيب بعض الاختلافات التي تتسبب بالإبهام في النتائج لصالحه. اذن، فإن حفنة أصوات نتيجة تفاوت اجرائي هنا أو هناك، كفيلة بتجيير فلوريدا لهذا المرشح أو ذاك. ومع فلوريدا سائر الولاياتالمتحدة، وصولا الى تبوء أعظم منصب في العالم من حيث النفوذ. لكن، على رغم جسامة الوضع، فإن الولاياتالمتحدة ليست في حال استنفار، ولا في وضع أزمة، على عكس الصورة التي يوحي بها الإمعان الاعلامي بمتابعة دقائق التطورات. لا شك بالطبع، ان المرشحين وحزبيهما يسعون الى الفوز، ولهذا الغرض يعمد كل منهما الى تجنيد مختلف الطاقات. ومن هنا التظاهرات التي تشهدها تالاهاسي عاصمة ولاية فلوريدا، كل يوم تقريباً باستثناء أيام الأحد، اذ يتوجه معظم جمهور المتظاهرين الى الملاعب لمتابعة مباريات كرة القدم. لكن المرشحين ومعهما الحزبان وكافة القطاعات السياسية والشعبية المعنية بالأمر في الولاياتالمتحدة، لا يخرجون عن الالتزام بالأطر القانونية والدستورية القائمة. هذا ما يؤكده كل من بوش وغور، وهذا ما تثبته الخطوات التي يتخذها أنصارهما على التوالي. فالمواجهة بين الطرفين اقتصرت على المحاكم التي تعالج الأمور التفصيلية، وعلى المظاهرات التي لا تخرج عن أطر التعبير السليم عن الرأي دون شغب أو إكراه. إن ما يجري اليوم في الولاياتالمتحدة هو نموذج ناصع لمعالجة وضع فريد طارئ عن تضافر مصادفات مستبعدة ضمن اطار التسليم المطلق بسيادة الدستور على النظام السياسي، والإقرار بالتوزيع الواضح للسلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، والانطلاق من الاطار المحلي للسلطة الشعبية، عبر اللجوء أولاً الى المحاكم الابتدائية في الولاية، مع التدرج منها الى المحكمة العليا للولاية، والمحكمة الدستورية العليا في الولاياتالمتحدة. والنظام الانتخابي في الولاياتالمتحدة يشكو دون شك من علل كثيرة، من استفراد الحزبين الرئيسيين بتداول السلطة في البلاد مع التنبيه الى ان اعتبار هذا الاستفراد علة لا يحظى بالاجماع، اذ يعتبره البعض ضماناً للاستقرار السياسي، وصولاً الى قوانين التمويل الانتخابي التي تمنح اصحاب المصالح صوتاً مالياً مؤثراً أو حتى مُفسداً برأي البعض، مروراً بالطابع الشخصاني غير البرنامجي للعملية الانتخابية، وبغياب البدائل السياسية الفعلية نتيجة لاستفحال الوسطية. لكن "أزمة" انتخابات فلوريدا والرئاسة الاميركية تكشف بوضوح ان مشروعية النظام السياسي الأميركي راسخة في مجتمعه، وان قدرته على التفاعل مع الظروف المعقدة واسعة. يمكن اذن توقع استمرار الاجراءات القانونية الى حد استنزافها، اذ ان ذلك تقتضيه مصلحة كل من المرشحين في سعيهما للفوز بالرئاسة، ويقتضيه كذلك واجبهما ازاء الناخبين الذين اقترعوا لصالح كل منهما. ويمكن بعد استنزاف هذه الاجراءات، توقع اقرار أحد المرشحين بفوز منافسه وانضوائه تحت لواء رئاسته، دون ابتداع حلول إرضائية أو اللجوء الى صيغة تتجاوز الأطر الدستورية والقانونية. والطبقة السياسية الاميركية تستحق الكثير من النقد، لا سيما في تعاميها بل نفاقها إزاء ما لا يتناسب مع مصالحها، خصوصاً في ما يعنينا على نحو مباشر: قضية فلسطين. لكن لهذه الطبقة السياسية خطاً أحمر لا تتجاوزه، هو خط الانصياع للدستور والقوانين. فهي بذلك الأجدر ان تكون قدوة لا موضع استهزاء.