مرت هذا الأسبوع الذكرى الثانية عشرة لإصدار الرئيس السابق جورج دبليو بوش مرسومه الذي شرّع تحويل قاعدة غوانتانامو، هذه الرقعة الصغيرة من جزيرة كوبا والواقعة تحت السيطرة العسكرية الأميركية، إلى معتقل للمشتبه بضلوعهم في نشاط إرهابي معادٍ للولايات المتحدة. وخلال هذه الأعوام، إذ شهد المعتقل توافد قرابة ثمانمئة معتقل، فإنه، وفق أية قراءة مجردة، لم يحقق من النتائج ما يبرر إقامته، بل شكل وحسب وصمة تستنزف صدقية الولاياتالمتحدة في ادعاء حرصها على حقوق الإنسان وانصياعها للقانون الدولي. بل في ما يتعدى الجوانب المؤسساتية، فإن استمرار غوانتانامو، دون اعتراض جدي من المجتمع الأميركي، يكشف عن قصور وتقصير لدى هذا المجتمع في التعامل مع «الآخر» المسلم والعربي. لا شك يمكن تفهم فعل تأسيس معتقل غوانتانامو. فالولاياتالمتحدة، في أعقاب اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) شهدت على أكثر من صعيد محاولة استيعاب مقتضيات المرحلة الجديدة. والطرح الأبرز يومئذ كان عدم مناسبة الأدوات القانونية المتوافرة، سواءً منها الأميركية أو الدولية للواقع المتحقق، حيث العدو ليس دولة أو جيشاً نظامياً كي يجري تطبيق الاتفاقيات الدولية بشأن طبيعة المواجهة وأسرى الحرب، بل العدو في الحالة الجديدة، يرفض هذه الاتفاقيات جهاراً، وإذ يعتبر نفسه ملزَماً بأصول معينة للقتال، فإنه، من حيث الممارسة، بل المبدأ، يتيح لنفسه الإقدام على ما يفترض أن يكون من المحرمات، من قتل المدنيين إلى الاختطاف والذبح والتشهير. غير أن الانتقال من هذه المخاوف إلى تطبيق يعالج تداعياتها لم يتحقق، بل جاء تشكيل معتقل غوانتانامو مشوباً بالنواقص. فالإبهام التشريعي الذي أحاط بالمعتقل، والتفضيل المتكرر في حالات الموقوفين ذوي الأهمية لاستعمال سبل أخرى للتحقيق معهم (سواء منها ما هو أكثر وضوحاً في صلاحياته، أي النظام القضائي الاتحادي القائم، أو ما هو أكثر «فعالية» في وسائل تحقيقه، أي السجون السرية لوكالة الاستخبارات المركزية) جعل من معتقل غوانتانامو مستودعاً للموقوفين الأقل خطورة أو أهمية. بل إن وسائل الاستحصال على سجناء غوانتانامو جاءت لتكرس دور هذا السجن في احتواء المعتقلين من غير ذوي الأولوية، من الذين صدّرتهم سجون أفغانستان، وهؤلاء بدورهم في الكثير من الحالات كانوا «حصاداً» جمعته عشائر متعاونة مع القوات الأميركية من العرب المتواجدين في أفغانستان، من دون اعتبار لانتماءاتهم الدعوية أو الخدماتية أو الجهادية. ولكن، في حين أن غوانتانامو لم يكن يحوي «أخطر الإرهابيين»، فإن التعامل معه، رسمياً وشعبياً، كان في البدء على أساس أن وجوده ضرورة أمنية، بل كانت الدعوة في الغالب إلى التشديد في الإجراءات التي قام على أساسها. فالكلام عن ضرورة احترام حقوق المعتقلين كان يجابه بالاتهام بالسذاجة أو حتى العمالة. ولإثبات خطورة المعتقلين، غالباً ما كانت ترد الإشارة إلى عدد من الذين أطلق سراحهم والذين انضموا إلى منظمات معادية. المفارقة هنا هي أن رجحان ثبوت التهمة على بعضهم كان يطرح على أنه حجة كافية لضرورة الاستمرار بإنكار الحقوق للجميع وبالاستمرار باعتقالهم، وهي معادلة تناقض المفهوم الأميركي للعدالة، والتي تعتمد مبدأ أن إفلات المذنب من العقاب خير من احتمال معاقبة البريء. فغوانتانامو كان إحدى أهم التجارب في تشكيل منظومة عدالة بمكيالين. ولم تنفع تحذيرات بعض الناشطين في مجال حقوق الإنسان من أن هذا التمييز قد ينسحب بالتدريج على ما يتعدى التعريف المحدود للآخر الذي يجري التغاضي عن حقوقه، أي المشتبه بانخراطهم بالإرهاب من غير المواطنين. وبالفعل، كما جرى في استهداف بعض المواطنين الأميركيين المرتبطين بتنظيم القاعدة فإن توسيع نطاق المشمول بالاستثناء قد تعرض للتوسيع. غير أن أخطر ما خلفته تجربة غوانتانامو هو تطبيع التعذيب، وإن تحت مسميات تطمس حقيقته. فلا شك في أن ظروف اعتقال سجناء غوانتانانو تشكل على حد سواء إنكاراً لإنسانيتهم، من خلال تدابير بشأنهم أشبه بتلك المعتمدة مع الحيوانات المفترسة، من تكميم وتكبيل وإيداع في الأقفاص، وذلك باسم ضمان الأمن للسجانين وللسجناء أنفسهم. وفي حين أن الإضراب عن الطعام قد يكون آخر ما تبقى لهؤلاء السجناء لتأكيد سيادتهم على أنفسهم، فإن سلطات المعتقل، تحت مسمى المحافظة على حياتهم، تنكر لهم هذا الحق، بل تلجأ إلى أساليب تغذية إلزامية بالأنابيب تتسبب بالألم لدفعهم إلى التخلي عن إضرابهم. وذلك دون أن تلقى هذه الممارسات أي اعتراض فعلي من عموم المجتمع الأميركي. عدد ضئيل من معتقلي غوانتانامو جرت محاكمته، والتهم، حين ثبتت، كادت أن تقتصر على تهمة خفيفة هي تقديم الدعم للمنظمات المعادية، أي أنه لا تناسب بين التهمة وبين إجراءات الاعتقال، وحتى هذه التهم في بعض الحالات جرى نقضها، أما الغالبية العظمى من المعتقلين، فقد أمضوا الأعوام الطويلة، دون تهمة ودون محاكمة، في فراغ قانوني ليس ما يبرره على الإطلاق. وفي حين أن معظم المعتقلين قد خرج من المعتقل، من خلال تسليمه لسلطات بلاده بعد سنوات طويلة من الاعتقال، فإن من تبقى، وعدده مئة ونيف، ليس من أفق واقعي لإخراجه. أي أنه معتقل إلى أجل غير مسمّى دون اتهام ودون محاكمة. وإذا كان الرئيس أوباما، في إطار مواقفه الخطابية التقدمية، قد أعلن العزم عن إغلاق هذا المعتقل، فإن ولايته الثانية تكاد أن تنقضي دون أن يتحقق الوعد، وإن كان مؤيدو الرئيس يلقون تبعة ذلك، باعتذارية تتكرر في أكثر من موقف، على خصومه الجمهوريين. واقع الأمر أن المؤسف ليس تلكؤ الرئيس، وهو أمر معتاد في سياساته عامة، ولا تعنت خصومه، وهي حالة دائمة إزاءه، إنما بغياب الحرج لدى الجمهور الأميركي من ممارسات شاذة ومخالفة للقيم الأميركية على مدى أكثر من عقد. ففي هذا الغياب نقض صريح لاستثنائية تنسبها الثقافة الأميركية لنفسها.