يحب الفرنسيون كثيراً الحرية والتحرر والتحرير، ويحبون اكثر من هذا بكثير التكلم والكتابة عن الحرية والتحرر والتحرير. الجورناليست، موفد التلفزيون، الذي كان يغطي الحرب الافغانية كان يلفظ كلمة مجاهدين "مودجائيدين"، بتأكيد خاص على الحروف ينمّ عن احترام كبير لهولاء المحررين الذين يستحقون الا يُلفظ لقبهم خطأً، وبموسقة خاصة تشي بالتبجيل الذي يجعل مقاتلي "تحالف الشمال" يذكرون بقوة بالمقاومين الفرنسيين في مواجهة ادولف هتلر وضباطه... كان الصحافي الفرنسي متحمساً جداً وهو يرافق تقدم "المجاهدين" نحو كابول و"فرار" طالبان منها. وهو دخلها مع عناصر التحالف، ثم وقف ينقل مشاهداته. قال ان رجالاً يقومون بحلاقة لحاهم وان هناك صوت امرأة ترافقه الموسيقى يلعلع من الاذاعة الكابولية. ظل الجورناليست فرحاناً بمشاهداته حتى بدأت قوافل نساء تعبر في الصورة. كانت النساء ما زلن يرتدين البوركا!! معقول؟! لم يكن ذلك متوقعاً او مفهوماً. ارتبكش الصحافي ولم يجد ما يقوله. بدا وكأنه يتوقع مشاهد من كابول كتلك التي يراها في الارشيف لحظة عبور الاميركيين جادة الشانزيليزيه برفقة الجنرال الديغولي لوكلير. نساء حاسرات طبعاً يلوّحن بباقات الزهر، ويقبّلن المحرّرين على الشفاه. بدا مرتبكاً حين رأى انه، ورغم "تحرير" كابول، ما زالت النساء "في منزلة ارفع بقليل من منزلة حمار يتكوّم تحت انهيار العصي"، كما كتب صحافي في "ليبراسيون". كان الصحافي بعد كل ما كُتب وقيل عن البوركا الطالبانية قد هيّأ نفسه لخطاب مختلف، لكن النساء الافغانيات فاجأنه كثيراً. كذلك فاجأه كثيراً ايضاً منظر المحرّرين، المناهضين لطالبان وهم، في هياج فرحتهم بالحرية، يعبّرون عن هذه الفرحة بركل الجثث في الشوارع بلا هوادة، وبجرّ القتلى من شعورهم الى ساحات العيد والاحتفالات بالنصر. الصحافي نفسه كان لم يهضم بعد صور الارشيف المخزية، حيث تُحلق رؤوس النساء اللواتي "سايرن" الالمان. وهو يتذكر جيداً امواج المجاعة التي ضربت اثيوبيا حين اجبرتها الاممالمتحدة على عتق العبيد من البيوت بيوت اسياد فقراء هم ايضاً بالنسبة الى دخل الفرد بحسب المقاييس الدولية من دون اي تحضيرات او بدائل، فامتلأت الشوارع بالجائعين الذين لا يجدون سقفاً يؤويهم آخر الليل. بدأ الجورناليست الشاب يخفّف من تشديده على الحروف حين يلفظ كلمة "مجاهدين". نصحته الادارة ان يبتعد عن ريبورتاجات معقّدة كهذه، وان يهتم الآن بمستقبل افغانستان السياسي كمسؤولية دولية... افغانستان ما بعد طالبان هو، اذاً، العنوان الجديد. احدى المناضلات النسويات المعروفات في فرنسا والعالم كتبت منذ ايام في "لوموند" ما فحواه ان عتباً كبيراً يرزح الآن على كاهل جورج بوش وايضاً كولن باول لأنهما لم يأخذا ابداً برأي النساء في مستقبل افغانستان. وتتحسّر المناضلة النسوية بلغة عتاب وجدانية وعاطفية على الوضع المتخلّف للقبائل الافغانية وتطرفها بالتساوي ازاء النساء. وهي تخلص الى ما يشبه الاعلان بأن النساء هنّ القبيلة الافغانية الوحيدة التي تستطيع انقاذ افغانستان، لولا ان هناك مشروعاً ذكورياً عالمياً ضد الافغانيات، ولإبقائهن تحت البوركا الخانقة!!! بعد فترة وجيزة سوف يضجر الجورناليست الفرنسي من خيباته المتكررة ازاء هذه البقعة ومظاهر تخلفها مما يبدو احياناً خارج كل التحليلات والتوقعات. والادهى انه يبقى خارج دروس الذاكرة ومقاييس الامثلة التي يقدمها التاريخ بعد التضحيات العظيمة الجليلة. بعد فترة وجيزة سيضجر الجميع هنا من سيرة القبائل المتناحرة في تلك البقعة من العالم. كأنهم سوف يموتون ضجراً اذا تم القبض على بن لادن حياً او ميتاً. بلا "سوسبنس" وبلا "ادرنالين" سوف تعود القارة العجوز الى هموم التهاب المفاصل والى يوميات كره الاجانب البطيئة العادية… فقط سيرتفع عدد دارسي الأوردو والعربية والديانات. ومن المتوقع جداً ان تتمحور الكولكسيون الجديدة لأزياء المصمّم جان بول غوتييه حول الوحي الافغاني كموضوع لكنْ بلمسات اوروبية كونية... خلاقة.