حدد نائب الرئيس الأمريكي جون بايدن في خطابه الذي ألقاه أمام المؤتمر الدولي بشأن الأمن الذي عقد في مدينة ميونيخ الألمانية في السابع من شهر فبراير الجاري معالم السياسة الخارجية الأمريكيةالجديدة في عهد الرئيس باراك أوباما, حيث تطرق إلي معظم الملفات الشائكة التي تشغل العالم ومنها ملف الصراع العربي الإسرائيلي. ولحسن الحظ حمل حديث بايدن بعض مؤشرات التجديد أو التغيير التي وعد بها الرئيس أوباما ناخبيه الأمريكيين, عندما أكد أن الوقت قد حان لبذل الجهد من أجل التوصل إلي حل عادل وآمن للصراع بين إسرائيل والفلسطينيين علي أساس قيام دولتين متجاورتين, لكن الأهم من ذلك أنه جعل مهمة التوصل إلي هذا الحل حيوية بقوله: لقد تأخر الحل العادل والآمن لاقامة دولتين.. سنعمل علي تحقيق ذلك, والتغلب علي المتطرفين الذين يعملون علي استمرار الصراع. ولكن الحديث علي النحو الذي أوردنا نصه جاء مليئا بالمعاني التي يمكن أن تحوله من دائرة الطموح والتفاؤل إلي دائرة أخري كفيلة بتبديد كل ماهو مأمول أو منتظر من هذه الادارة الأمريكيةالجديدة, برغم أن حديث بايدن لم يتجاوز حدود إعلان النوايا ولم يحمل أي معالم حقيقية لمشروع سياسي متكامل يمكن التفاعل معه. فالقضية المثارة الآن هي قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية المعترف بها عالميا, بل المعترف بها من الجهة نفسها التي اعترفت بقيام دولة اسرائيل وهي الأممالمتحدة, الأمر الذي يعطيها( الحقوق الفلسطينية) درجة الأهمية نفسها التي جعلت من إسرائيل دولة, ويجعل أي تشكيك في هذه الحقوق قابلا للامتداد إلي التشكيك في شرعية الدولة العبرية, لكن بايدن يتحدث عن قضية الدولتين, فماذا يعني بذلك؟ السؤال مهم فعلا لأن الدولة الإسرائيلية قائمة منذ صدور قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ1947/11/29 ويحمل الرقم181, وهي موجودة فعليا بانتهاء الحرب عام1948 وبتوقيع الدول العربية( التي كانت موجودة حينذاك) علي بروتوكول لوزان الذي تضمن قبولها لقرار التقسيم, أما الدولة الفلسطينية فلم تقم حتي الآن برغم أن قرار قيامها صدر في اللحظة نفسها التي صدر فيها قرار قيام دولة إسرائيل, بل إن قرار قيام هاتين الدولتين كان قرارا واحدا وهو قرار التقسيم رقم181 الذي نص علي قيام دولة يهودية علي56,47% من مساحة فلسطين ودولة عربية علي42,88%, وهو القرار نفسه الذي نص علي تدويل مدينة القدس. إذا كان الأمر كذلك فلماذا الحديث عن قيام الدولتين إذا كانت إحداهما قد قامت بالفعل منذ ستين عاما؟ هل المطلوب هو إبقاء ملف حدود الدولة الإسرائيلية مفتوحا بحيث تكون هناك فرص جديدة للتوسع علي حساب أراضي الدولة الفلسطينية المأمولة, أو بحيث تكون هناك فرص لتبادل الأراضي بين الدولتين؟ فمن المعروف أن اسرائيل التي اعترف بها العالم عام1948 ليست هي اسرائيل الحالية, لكن لا أحد يتحدث بعمق وجدية عن ذلك, فقرار التقسيم رقم181 الصادر عام1947 اعطي اسرائيل كما أشرنا56.48% فقط من أرض فلسطين, لكن حرب48 أسفرت عن سيطرة اسرائيل علي77,4% من الأراضي الفلسطينية, ولم يبق للفلسطينيين غير21,96% من مساحة فلسطين, وهذه المساحة تقلصت إلي ما دون18% من مساحة فلسطين بعد حرب1967 وانتهاك اسرائيل سياسة التوسع والتهويد وإقامة المستوطنات, وبناء الجدار العنصري العازل الذي انتزع مساحات واسعة من أراضي الضفة الغربية وضمها إلي الدولة الاسرائيلية. بناء علي ذلك, فربما يكون حديث بايدن عن قيام الدولتين الفلسطينية والاسرائيلية يستهدف مسألة الحدود الاسرائيلية المفتوحة, فاسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم مجهولة الحدود من الناحية الفعلية, لكنها واضحة ومحددة الحدود من الناحية القانونية, وهي حدود الدولة الواردة في قرار التقسيم وبذلك يكون بايدن يصب في اتجاه مراجعة حدود اسرائيل الحالية بحيث يمكن أن تضم ما تريده من أراض فلسطينية بدواعي الأمن, وربما يكون حديث بايدن عن قيام الدولتين الفلسطينية والاسرائيلية نابعا من إدراكه بأن دولة اسرائيل القائمة الآن دولة معدومة الشرعية الدولية, وأن ما يقصده حاليا بالحديث عن قيامها يستهدف الحصول علي الشرعية القانونية الدولية المحجوبة عن هذه الدولة لأسباب كثيرة يجري تجهيلها بشكل متعمد عن العالم. فاسرائيل التي أوجدت بموجب قرار التقسيم رقم181 لسنة1947 قبلت عضوا بالأممالمتحدة بموجب القرار رقم273 لسنة1949 بشروط أربعة هي: أن تنفذ قرار التقسيم رقم181 لسنة1947, وأن تنفذ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم194 لسنة1949 والخاص بعودة اللاجئين, وأن تحترم الوضع الخاص لمدينة القدس والموضح بالملحق الخاص بقرار التقسيم, وأن تحترم ميثاق الأممالمتحدة, لكن اسرائيل لم تلتزم بهذه الشروط جميعها, ومن ثم تكون قد نقضت صفة الدولة العضو, وأصبحت في منزلة الدولة المراقب, ولهذا فانها لم تتمتع بالعضوية الكاملة في الأممالمتحدة منذ عام1949 وحتي اليوم, وإنما كانت في وضع وسط بين الدولة العضو والدولة المراقب, أي أنها بقيت مهددة من ناحية القانون الدولي بأنها دولة ناقصة العضوية في الأممالمتحدة لأنها لم تلتزم بتنفيذ الشروط المتطلبة في العضوية. الأهم من ذلك ان اسرائيل نقضت شرعيتها القانونية كدولة منذ صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم1514 لسنة1960 والذي يحمل عنوانه( اعلان تصفية الاستعمار) وهو القرار الذي اعترف صراحة بتجريم الاستعمار, واعتبره ضد حقوق الانسان, وأقر بحق الدولة المستعمرة في مقاومة الاستعمار, والدفاع عن نفسها وأراضيها ضد المحتل, وبصدور هذا القرار فقدت اسرائيل أهم شرط من شروط قيام الدولة, وهو أن تتمتع بالحق في الوجود القانوني, ولأنها دولة قامت علي أساس استعمار استيطاني, فانها بصدور ذلك القرار فقدت الحق في أن تكون دولة, علاوة علي توصيف كونها تقوم علي أساس من ايديولوجية وصفت بأنها عنصرية بموجب القرار رقم3379 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثامن من نوفمبر عام1975 الذي نص علي أن الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري, وهو القرار الذي استند إلي العديد من القرارات الدولية في مقدمتها الاعلان العالمي لحقوق الإنسان, وسلسلة من القرارات التي استهدفت القضاء علي كل أشكال التمييز العنصري. وإذا كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد اضطرت إلي الغاء القرار3379 المشار إليه بضغوط امريكية واوروبية في16 ديسمبر1991 في غمرة الدعاية لمؤتمر مدريد للسلام, فإن المدلول القيمي والأخلاقي والأدبي لهذا القرار مازال قائما ومازال يهدد الشرعية القانونية للدولة الاسرائيلية. وهكذا يمكن فهم خلفية حديث بايدن عن أهمية قيام الدولتين الفلسطينية والاسرائيلية, وهو فهم ان صح, يجب أن يفتح للعرب آفاقا مهمة للعودة بالحديث مجددا عن حدود اسرائيل وقرار التقسيم, وأن تكون حدود الدولتين الفلسطينية والاسرائيلية هي الحدود المنصوص عليها في قرار التقسيم رقم181 لسنة1947, وإلا فلن تحصل اسرائيل علي الاعتراف الشرعي بها كدولة. لكن الذي يصعب فهمه هو حديث بايدن عن الحل العادل والحل الآمن, والاشكالية التي يمكن أن تنتج عن إقران الأمن بالعدل, والدافع الحقيقي لذلك, فالمعروف أن الحلول العادلة للأزمات والمشاكل هي التي تحقق الأمن والاستقرار, وهي أيضا الحلول التي ترتكز علي قواعد القانون الدولي والشرعية الدولية, لكن يبدو أن جون بايدن يريد أن يهرب من هذه القواعد لأنها ستفتح مجددا ضرورة الحديث عن قرار التقسيم كشرط لترسيم حدود الدولتين, لذلك فإنه يهرب إلي مفهوم الحل الآمن, أي الذي يحقق الأمن لاسرائيل, وهنا يكون أمن اسرائيل هو الشرط الموضوعي للسلام الآمن, ومن ثم للسلام العادل بكل ما يعنيه من إخلال فاضح بقواعد القانون الدولي والشرعية الدولية. حديث جون بايدن حديث مغلوط ويناقض قواعد القانون الدولي,فضلا عن أنه لايحمل إلا مجرد مؤشرات بوعود أمريكية, لم تقبل اسرائيليا, خاصة في ظل نتائج الانتخابات الاسرائيلية التي حتما ستؤجل أي حديث عن الحل العادل, أو حتي الآمن لأجل غير مسمي, لأن الفريق المرشح للحكم أيا كان لن يقبل بأقل من فلسطين كلها دولة لليهود. الأهرام المصرية