ترسم الشاعرة سلوى النعيمي في مجموعتها الشعرية الجديدة "أجدادي القتلة" صورة مشروخة لعلاقة الذات بالآخر المجتمعي. والحل، إن الشاعرة تقرأ شعرياً المرايا الانثوية الداخلية وانعكاس الموروث الثقافي والاجتماعي عليها، والذي يشكلها. هذا من جهة، ومن جهة اخرى فإنها تشق سبيلاً يفضي الى الانقلاب على هذا الموروث، بغية الانعتاق منه ومن قيمه البائدة. هذا السبيل تجده الشاعرة في العلاقة مع الآخر الحبيب وبمعنى من المعاني: الحب. وما حدة عنوان المجموعة وزخمه وحكمه الاخلاقي سوى اشارة الى منظومة القيم المتخلفة التي ترفضها الشاعرة. والقتل هنا ليس قتلاً حقيقياً بالطبع بل رمزي، قيمي. إن رفض الرواسب والأواليات الاجتماعية المطبوعة في الذاكرة لا يتبدى رفضاً ميكانيكياً يجيء على عواهنه، كيفما اتفق، كهيجان انثوي احادي يقصد منه التصريح والاشهار، بل نتيجة للحظة وعي الذات لعلاقتها بنفسها وبالمجتمع، في علاقتهما الطردية: "كما علموني/ ألون النهر بالأزرق والسهل بالأخضر/ كما علموني/ أرفع الفاعل وأنصب المفعول/ وأكسر الأسماء بعد حروف الجر/ كما علموني/ اتكلم بصوت خافت/ والأفضل ألا أتكلم أبداً/ كما علموني/ أبني حياتي للمجهول/ كما علمتني". تشيع الشاعرة في القصائد فضاءات الموت والعفن مؤسسة شعرياً لذلك من خلال قاموس ينفتح على رؤى صدامية مع الواقع، قاموس حدود مفرداته الدم والموتى والجثث، والعفن الذي يتكرر اكثر من مرة بوصفه رمزاً للثبات والتكرار والبؤس القيمي، فيما يغطي اللون الأحمر كثيراً من القصائد "الأحمر يليق بي". المنقلب الآخر لهذا الفضاء المصوغ والذي ينهض على الجثث والدم هو الذاكرة بما تختزن من صور وأصوات وروائح من المكان الأول والتي يمكن ان تمد الكائن بامكانات الحلم وترميه على حدود التوق والانطلاق. لكن هذا الجانب يبدو أكثر قتامة خصوصاً اذا كانت الذاكرة معطوبة وميتة: "الذاكرة جثة/ لا تسيل/ دماً/ مهما جرحتها". لذا ليس هناك سوى فضاء الموت والوحشة التي تندغم في ثنيات العمر مسربلة الجسد والروح معاً، ماحية الخط الفاصل بين الدخول الى الموت والخروج منه. انها الهاوية التي تتشربها لحظات او ثواني العمر: "أقفز في الهاوية ما بين النبضة والنبضة". "ما علي إلا ان ألقي برأسي/ الى الوراء/ كي تستقبلني الهاوية". ايضاً المتاهة التي لم يعد في الامكان تحديد او معرفة اسبابها والباب الذي ولجت منه: "من أين بدأت المتاهة يوماً". لا تضيء الشاعرة الصورة المشروخة للذات في علاقتها بالمؤثرات الاجتماعية فحسب، بل تبث اشارات كثيفة عن هذه المؤثرات ايضاً، اذ تتبدى صورة المجموع من خلال صورة الذات وبالعكس، في عملية انتقالية حركية ضمن فضاء لغوي متقطع، ينبتر دورانياً عبر جمله وعباراته مشكلاً من خلال الشبكة الدلالية ما يحيل على تمزق المعنى وانشراخه. وذلك بالتوازي مع التقطّع والتكسّر اللغوي، ويظهر فعل الكتابة بصفته فعلاً يقيم التوازن مع الآخر عبر العلاقة مع اللغة المجيّرة لمصلحة ما هو ذكوري. فعبر الكتابة تعبّر الذات الانثوية عن معناها معمقة حضورها، وفارضة حيزها الانطولوجي. تنهض القصائد على بنية تركيبية موسومة بعمليات البتر والتقطيع والحذف، وفتح فجوات داخل الكلام، وعدم اكمال الجملة كأن ينقسم المعنى منشرخاً عمودياً، متلعثماً تاركاً للقارئ أمر لمِّ الخيوط وإكمال الجمل المبتورة: "فقاعة الهواء مستقرة في قلبي،/ تحتله شيئاً فشيئاً حتى./ الوخزة تلعب في اوردتي تنتظر اللحظة/ تعددت الاسباب؟". يشتغل السرد والقص في طبقات القول الشعري، لكنهما لا يتخصصان شعرياً في معظم الاحيان من خلال شعرنة الجملة والعبارة اعتماداً على الصورة وسائر الاجهزة البلاغية الاخرى، بل عبر المونتاجات المفاجئة والانعطافات المصوغة داخل الجهاز التركيبي للقصيدة، وعبر تلغيم الانقطاعات بالجمل المباغتة والاسئلة المفاجئة التي تأخذ وظيفة الامساك بجسد القصيدة، والقبض على هيكلها ورسم ملامحها الجمالية المتوخاة كما في قصائد: حوار من طرف واحد، الكذبة، أحابيك، هي. وعلى رغم انقطاع الخيط الدلالي الا انه يلتم في النهاية على بؤرة واحدة. تعتمد الشاعرة اسلوب المفارقات والتضادات، اذ تتكرر هذه الاخيرة بأشكال مختلفة ومتنوعة: كما علموني. كما علمتني، من سيموت عند الفجر... ولدت عند الفجر... الخ ايضاً ترد الشاعرة النهايات الى بداياتها كما في قصائد: ليلة، الوصايا، فيما قصائد اخرى تبنيها الشاعرة في شكل رتيب وهادئ دافعة اللغة نحو النمو التدريجي معتمدة اسلوب التموج الغنائي، بتكرار وحدات لغوية معينة الى ان تصل الى الذروة في نهاية القصيدة اذ تقفلها بضربة شعرية حادة، تختصر المعنى الدلالي كما في قصيدتي خلبيات، بعث يومي. هذه السمات الجمالية العامة تفترق عنها بعض القصائد القصيرة جداً، والتي تبدو كما لو انها كتبت بضربة واحدة حادة، تحيل الى مناخ شعري كثيف لا يخفي موقفاً يتم توخيه: "كل ذئب حلمت به/ أكلني". تغيب المباشرة الفجة عن القصائد، فثمة دائماً ما يؤسس لما هو تخييلي. كما ان هناك استبعاداً لكل ما له علاقة بالبهرجة اللغوية والتزيينية، وما الاعتماد على نمط الجملة المتقطعة وغير المكتملة الا للاشارة الى قوة القهر المسلّط واقعياً ولغوياً ايضاً. عموماً ان شعرية التساؤل لاضاءة المكابدات الانثوية سمة جمالية تميّز معظم قصائد المجموعة. قصائد "أجدادي القتلة" تفصح من خلال بنيتها الدلالية عن هم كشف أو فضح منظومة القيم البائدة التي ما زالت تشتغل في الذاكرة، وما كتابتها وبث اشارات كثيفة عنها سوى سبيل الى دحرها وهزمها. اما من الناحية الجمالية والاسلوبية فالتقطعات اللغوية والالتفاف والدوران على الجملة وترك العبارة والجملة مفتوحتين تحيل على هم كتابة المكابدات الداخلية التي تنفتح على الآخر، وايصال القصيدة الى الضفة الشعرية بأقل ما يمكن من البلل.