السؤال حقيقي ومطروح كأساس من صلب الحياة الفنية: هل يستطيع الفنان الذي يكوِّنُ حضوراً مؤكداً في الفن أن يستقيل أو أن يعتزل في ذروة شهرته وأضوائه؟! والى أي حدّ يمكن الظروف، أياً تكن، أن تمنع ذلك الفنان من العودة الى حيث له مكان وتصفيق ومحبة؟! هذا السؤال الذي يبدو للوهلة الأولى تقليدياً وعادياً، هو في الواقع واحد من أخطر الأسئلة التي يواجهها فنان ما اضطر الى التخلي عن عمله الفني حتى يبدو ان عودته الى ذلك العمل من ضروب المستحيل، فإذا بكل تلك الضرورات تنحني لمصلحة الهوى الأساس في أساس النفس. آخر الفنانات اللواتي عدن الى حيث لهن مكانة قبل المكان، الممثلة صفاء أبو السعود التي بدا أنها قررت تجاوز كل تفكير في العمل الفني عندما تزوجت، غير أن أبو السعود تراجعت عن هذا القرار للمرة الأولى حين قررت أن تقف من جديد أمام كاميرا التلفزيون مذيعة ومحاورة في برنامج "ساعة صفا" على محطة "آرت" في عدد كبير من الحلقات. ويبدو ان جاذبية الكاميرا قادت الفنانة الى أن تُقرِّر، مرة ثانية، العودة الى الوقوف أمام الكاميرا ولكن في مسلسل تلفزيوني، وهذه المرة ممثلة. "ملكة من الجنوب" أو "الخيزران" هو اسم المسلسل الذي يعرض خلال شهر رمضان وتلعب الممثلة "المعتزلة" صفاء أبو السعود أحد أبرز أدواره الى جانب ليلى طاهر وعبدالرحمن ابو زهرة وكريمة مختار ومن اخراج احمد طنطاوي، وقصة وسيناريو وحوار محمد النحاس. يروي المسلسل سيرة حياة الملكة "الخيزران" والدة الخليفة هارون الرشيد التي شاركت زوجها المهدي في الحكم، وساعدت في ارساء الدعائم القوية للدولة العباسية، وكانت ذات عقل راجح، وعلّمت ولديها هارون والهادي الايمان والفروسية والعلوم المتاحة في ذلك العصر. صفاء أبو السعود، على ما يبدو، أرادت أن تكون عودتها الى التمثيل، في مسلسل يحمل رسالة تاريخية، وتحديداً في واحدة من أشهر نساء الشرق، لتكون مسألة احياء النماذج النسائية في التاريخ العربي جزءاً من اصرارها الذي يفترض انه لا يقف عند حدود العودة الى التمثيل في شكل مجاني أو بلا هدف اجتماعي أو فنّي أو انساني، بقدر ما ينقل ذلك الاصرار نبضاً اجتماعياً عالياً جداً، اعتاد المشاهد العربي ان يشاهده ويتابعه ويعيش اجزاءه كاملة في أعمال تلفزيونية رمضانية تتعمد العودة الى التراث الكبير فتغرف منه وتمنح العيون متعة. وقد أصبحت هذه القواعد ثابتة، وتحديداً في الأعوام الأخيرة إذ خفّت حدّة التوجهات الانتاجية الرمضانية المائلة الى التسلية لمصلحة الانتاجات ذات المغزى الأدبي أو التاريخي الجميل. وعلى رغم ان الممثلة صفاء أبو السعود صاحبة رأي مطاع في "آرت"، يعني انه كان في استطاعتها تقديم برنامج رمضاني فني خفيف من النوع الذي يسهل عبوره الى المشاهد العربي اذا كان متقناً وجيداً في فكرته والتنفيذ، إلا أنها آثرت أن تذهب الى حيث الصعوبة، أي الى حيث لا يمكن للممثل ان يحضر بقوة وباقناع إلا إذا امتلك أدوات الاقناع الكبرى اداء وتجسيداً من جهة، ومن جهة أخرى النص الابداعي والاخراج المعبّر، وهذا ما ليس سهلاً، إذ ان المسلسلات التاريخية في العالم العربي تخضع حالياً لنوع من الاهتزاز في وجهات النظر الشعبية وحتى الانتاجية بين فئتين: الأولى تعتقد ان الشكل العام واحياناً التفصيلي للمسلسلات التاريخية بات ناقصاً في درجة التأثير بالمشاهد نظراً الى تكرار الصورة والموقف والديكور واللغة، والثانية تناقضها وتعتقد ان في الامكان انتاج مسلسلات قادرة على محاكاة العصر والتطور في معالجة الشخصيات التاريخية وفي ابتكار صورة وموقف وديكور ولغة جديدة لا تطاولها أيدي استجداء اعجاب بالزور هنا، أو استرخاص هناك، أو "تغريب" لا أصول طبيعية له من جانب آخر. ان تترك صفاء أبو السعود المهارة الادائية مذيعة تلفزيونية تحاور ببراعة مَن هو من أهل الدار، لتسترد ماضيها في الاداء التمثيلي، لهوَ أمرٌ يستحق العناء. ولكن ال"كيف" هي الميزان. ذلك ان المرأة التي اختارتها لترتدي شخصيتها هي، بين نساء العرب القديمات، أدركت "كيف" تبني و"كيف" تستمر واحدة من بُناة المجتمع والدولة.