خلال سنوات الازدهار الاقتصادي في التسعينات، وحينما كانت أسواق البورصة تحلق في الأعالي، ومعدلات النمو في الاقتصاد الأميركي ترتفع في وتيرة لا يمكن ايقافها عند حد، كان حلم كل شاب اميركي طموح هو ان يعمل في الصيرفة الاستثمارية. اما اليوم، فإن المهنة التي تستأثر بمجامع القلوب فهي مهنة الجاسوسية. لقد اندفع الآلاف من الشباب، بعد أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر للانخراط في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية سي. آي. اي وفي وكالات الاستخبارات الاثنتي عشرة الأخرى، واتسعت الحملة للتوظيف في هذا السلك بشكل يدعو الى الذهول. هناك طلب محموم على الشباب الذين يتحدثون بالعربية أو التركية أو الفارسية أو البشتونية والدارية والاوردية، في حين يعتبر الملمون بالروسية والصينية من أصحاب الكفاءات المتميزة والمطلوبة في سلك التجسس، وفجأة طفا على السطح "الاستخبار عن طريق العلاقات الانسانية المباشرة" أو ما يسمى ب"هيومانت" humint، وثبتت جدارته، فتفوق على الاستخبار عن طريق الأقمار الاصطناعية أو استراق السمع الالكتروني. على ان اجهزة الاستخبارات ليست وحدها التي تتوسع وتزدهر في مجابهة التهديد غير المتكافئ الذي يجسد الارهاب الدولي، اذ بدأت "الوحدات الخاصة" بتوظيف أعداد متزايدة من الشباب الأقوياء ممن يتذوقون روح المغامرة. قدمت الوحدات الخاصة الأميركية والبريطانية في افغانستان خدمات ضخمة - لم يرافقها ضجيج اعلامي - ساهمت في تحقيق تقدم "تحالف الشمال" الذي شهدناه هذا الاسبوع. ولم يعد سراً ان السبب في سقوط كابول بهذه السهولة ومن دون مقاومة تذكر، هو أن فرقاً صغيرة من الوحدات الخاصة نجحت، وهي موجودة على الأرض، في توجيه ضربات جوية دقيقة وموجعة لقوات "طالبان" بعدما أرغمتها على التشرذم والتفرق، مما أفقدها القدرة على التجمع والمواجهة. واعترفت الولاياتالمتحدةوبريطانيا بأن وحداتهما الخاصة نجحت في تحقيق تنسيق تام بين هجوم قوات "تحالف الشمال" مع القصف الجوي المستمر لأماكن تجمع قوات "طالبان". أضف الى هذا ان احتلال مطارات داخل افغانستان، مثل القاعدة الجوية في باغرام، شمال كابول، أصاب حركة "طالبان" في الصميم، اذ بدأ سلاح الجو الأميركي يعمل، انطلاقاً من قواعده على الأرض الأفغانية، وتمكن بمساعدة الوحدات الخاصة المنتشرة أن يقدم المزيد من الدعم والمساندة للقوات المحلية المعادية ل"طالبان". وهكذا أصبح لا مفر أمام قوات "طالبان"، بعدما فقدت التغطية الجوية وعجزت عن تجميع قواتها للقيام بهجوم مضاد، من ان تلجأ الى حرب العصابات في الجبال اذا ما زالت مصممة على الاستمرار في القتال، ومهما يكن من أمر فإن الحرب التقليدية في افغانستان، أصبحت، بعد التطورات الأخيرة، في حكم المنتهية فعلاً. ولا يزال أمام عملاء المخابرات والوحدات الخاصة الكثير من المهمات الجوهرية، عليهم، بادئ ذي بدء، ان يجدوا الاجوبة عن بعض الأسئلة الملحة: أين هو اسامة بن لادن؟ ما هي مخططاته المستقبلية؟ هل يستعد تنظيم "القاعدة" لهجوم مضاد؟ أين الملا محمد عمر؟ واذا ما تمت تصفية بن لادن والملا عمر، فمن سيخلفهما؟ هل ما زال أنصار بن لادن يختبئون في جبال افغانستان؟ أضحت المخابرات عاملاً أساسياً في السياسات الدولية، أكثر من أي وقت مضى. ان التحالف الذي أنشأه الرئيس جورج بوش "ضد الارهاب" يعتمد كثيراً على تقاسم المعلومات المخابراتية حول الجماعات الارهابية المنتشرة في كل مكان، بين الولاياتالمتحدةوبريطانيا اولا، ثم بينها وبين روسياوباكستان اللذين يعرفان أفغانستان جيداً. وواقع الأمر ان الدول الكبرى تعقد اليوم اتفاقات مخابراتية على أعلى المستويات. يقال مثلا ان الرئيس الروسي بوتين قد "اقتنع" باغلاق "محطة الاعتراض" الالكترونية الروسية الكبيرة في كوبا، الموجهة ضد الولاياتالمتحدة، بعد التوصل الى اتفاق حول تبادل المعلومات المخابراتية بين واشنطن وموسكو عن الارهابيين. واستيقظ القادة السياسيون، القلقون على الأمن في بلادهم، والحريصون على تهدئة مخاوف شعوبهم، وبدأوا يدركون أهمية المخابرات. أكبر مثال ما يجري حالياً في الولاياتالمتحدة ستعطى صلاحيات واسعة لجورج تينيت رئيس وكالة الاستخبارات المركزية وسيرتقي الى مرتبة وزير، اذا ما تقرر ان يحتفظ بمنصبه. أما الرئيس جاك شيراك فقد اختار فيليب ماسوني ليكون مستشاره لشؤون الأمن، وهو رجل له خبرة وتجربة طويلة في اجهزة الأمن والمخابرات، اذ كان رئيس شرطة باريس لمدة ثمانية اعوام. كما ان رئيس باكستان برويز مشرف أزاح الجنرال محمود أحمد من منصبه رئيساً لاجهزة الاستخبارات الباكستانية قبل قراره بالوقوف الى جانب الولاياتالمتحدة ضد "طالبان"، وكان الجنرال أحمد من أكبر مؤيدي "طالبان" داخل المؤسسة الحاكمة الباكستانية. كما عيّن وزير الخارجية الأميركي كولن باول الأميرال انطوني زيني، في منصب مستشاره لشؤون الأمن والمخابرات. اما الجنرال محمد فهيم، وزير دفاع قوات "تحالف الشمال" الافغاني، والذي ترأس القوات التي دخلت العاصمة كابول، فقد كان رئيس جهاز المخابرات في عهد احمد شاه مسعود، حينما كان يقاتل ضد الاحتلال السوفياتي لأفغانستان. المخطط ذاته يتكرر في كل مكان. اجهزة المخابرات تحتل الصدارة، والقادة السياسيون وصناع القرار السياسي في كل مكان يسعون الى توطيد علاقاتهم مع اجهزة الاستخبارات حفاظاً على مراكزهم ونفوذهم. خلاصة القول ان اجهزة المخابرات حيوية ولا غنى عنها في تأييد ودعم العمليات العسكرية في الخارج، كما هو الحال في الحرب التي تدور حالياً ضد "طالبان"، ولكنها حيوية ولا غنى عنها بنفس المقدار، لحماية البلد من الداخل ضد الاعتداءات الارهابية. ما زالت المطاردات مستمرة، والسكاكين مشحوذة، في الولاياتالمتحدة لمعرفة هوية الجهة التي يقع عليها اللوم، وتحمل مسؤولية الاخفاق في حماية البلاد من اعتداءات أيلول. لقد اطلق على ما جرى "بيرل هاربر اجهزة المخابرات"، ودعا الكونغرس الى اجراء تحقيق حول الموضوع فيما استمرت اجهزة المخابرات في تقاذف الاتهامات في ما بينها. ان "مجتمع المخابرات الاميركية" العملاق يكلف دافعي الضرائب الاميركيين 30 بليون دولار سنوياً اي ما يعادل 10 في المئة من اجمالي موازنة وزارة الدفاع التي تبلغ 300 بليون دولار. ولا توجد دولة أخرى في العالم تخصص لاجهزة مخابراتها مثل هذه الموازنة. وللمقارنة فإن موازنة المخابرات الاميركية تعادل 12 الى 15 مرة موازنات بريطانيا وفرنسا. فكيف تنفق هذه الموازنة ومن يستفيد منها؟ تبلغ موازنة وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية 3.5 بليون دولار سنويا، وتستخدم ما لا يقل عن 17 ألف موظف من جمع وتحليل المعلومات. وقرر الكونغرس أخيراً زيادة 700 مليون دولار لتغطية "النفقات الطارئة". تحتسب موازنة ال"سي. آي. اي" من موازنة وكالة استخبارات وزارة الدفاع التي تبلغ 14 بليون دولار لتغطية جميع المعلومات الاستراتيجية والتكتيكية. وأضيف الى هذه الموازنة اخيراً مبلغ 1.2 بليون دولار. ادارة الاستطلاع القومي، ومهمتها بناء وتطوير وتشغيل الأقمار الاصطناعية التجسسية وموازنتها تتجاوز 6 بلايين دولار. الوكالة القومية للصور والخرائط، وهذه الوكالة - كما يدل اسمها - تعنى باعداد الصور والخرائط التي تعتمد عليها المخابرات. وكالة الأمن القومي، وهي مسؤولة عن مراقبة واعتراض الاتصالات على امتداد الكرة الأرضية، ويعمل فيها ما لا يقل عن 38000 موظف، وتبلغ موازنتها نحو 4 بلايين دولار. مكتب التحقيقات الفيديرالي اف. بي. آي، وهو أهم مؤسسة لمحاربة الجريمة المنظمة. مهمة هذا المكتب محاربة المافيا والمخدرات والمجرمين وقطاع الطرق، بالاضافة الى حماية القانون والدفاع عنه. وقد تم فرز سبعة آلاف من العاملين فيه والعملاء للعمل في التحقيقات الجارية بشأن احداث 11 أيلول، وانتشار وباء الجمرة الخبيثة. من أهم النتائج التي ترتبت على الهجوم الارهابي على واشنطن ونيويورك في أيلول زوال الحدود الفاصلة بين المخابرات الخارجية ومؤسسات الدفاع عن القانون في الداخل. لقد تم التداخل بين الاثنين واندماجهما في المعركة ضد الارهاب. لكن هذا الدمج يتطلب تجاوز التنافس بين مختلف وكالات واجهزة المخابرات، التي طالما كان يعامل بعضها البعض الآخر كمنافس أو كعدو. سيتلقى الرئيس بوش هذا الشهر تقريراً من الجنرال برانت سكوكروفت، رئيس المجلس الاستشاري للمخابرات الخارجية، يوصي باجراء تغيير جذري في مجتمع المخابرات الاميركية. وقد أعدت هذا التقرير لجنة خاصة شكلها الرئيس بوش نفسه في أيار مايو الماضي، ولكن عملها أعطي صفة "الاستعجال الأقصى" بعد هجوم الحادي عشر من أيلول. وتشير تقارير صحافية الى انه من المنتظر ان يطالب الجنرال سكوكروفت، رئيس اللجنة، بدعم دور المدير العام للاستخبارات العامة وسلطته، وباعطاء المزيد من الصلاحيات للمسؤول عن الأمن القومي في رئاسة الجمهورية، باعتباره "المسؤول الأول عن المجتمع المخابراتي". كما سيطالبه برفع موازنة وكالة الاستخبارات المركزية، وبترقية رئيسها الى رتبة وزير، ومن المرجح ان يكون تعيينه لمدة عشر سنوات لضمان الاستمرار في عمله، اذ ان جورج تينت، الرئيس الحالي، سيعفى من منصبه، كما ذكرنا آنفاً، وسيحل محله شخص قوي مشهود له بالكفاءة المهنية، ويتمتع بتأييدالحزبين الديموقراطي والجمهوري. ويطرح التقرير اقتراحات مثيرة للجدل، مثل ان يعهد الى جهاز الاستخبارات المركزية الاشراف على مكتب الاستطلاع القومي، ووكالة الصور والخرائط، وادارة الأمن القومي. ويبدو انه لن تتم الموافقة على هذه التغييرات الا بعد معركة قاسية، فوزير الدفاع دونالد رامسفيلد يعارضها، كما يعارضها مجلس الشيوخ، ولجان الخدمات المسلحة في الكونغرس ومجلس الشيوخ. ومعروف انه حينما يتعلق الأمر بالسلطة، بموازنة تتجاوز بلايين الدولارات، فإن التغيير لن يجري بسهولة في واشنطن. ويواجه مكتب التحقيقات الفيدرالي تغييرات ضخمة ايضا، ذلك ان النائب العام جون اشكروفت، والمدير العام روبرت مولر قد ادخلا ادارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي في اجواء الحرب ضد الارهاب، وبهذا نجحا في نقل الاهتمام من الجرائم المحلية الى التهديدات الارهابية. هناك حقيقة لا مجال في دحضها وتجاهلها، ان الحرب ضد الارهاب تحتل المرتبة الأولى في الأولويات في الولاياتالمتحدة، ويحق للجواسيس ان يحتفلوا لحدوث هذا التطور، ذلك ان المال والنفوذ في طريقهما اليهم. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط