صلاح في العشرين بعد رحيله الشجي، وفي السبعين من عمره المديد؟ عجباً! كيف إذاً تمضي القرون؟! والسؤال مطروح علينا نحن الفانين، وليس مطروحاً على الخالدين الذين خرجوا من الزمن. هذه فكرة طالما خطرت له! "صافية أراك يا حبيبتي كأنما كبرت خارج الزمن / وحينما التقينا يا حبيبتي أيقنت أننا مفترقان / وأنني سوف أظل واقفاً بلا مكان!". أرأيتم الى هذه اللعبة التي كان يجب أن يلعبها مع حبيبته؟ يفارقها فيفقد مكانه في هذا العالم، إذ لا يحس لنفسه وجوداً فيه من دونها، وهو إذ يفقد المكان يخرج من الزمان كما خرجت قبله فيلقاها في الأبدية! ولقد كان صلاح يحب أن يطعن الزجر بشيء من الهزج كما فعل في الأبيات السابقة! صلاح عبدالصبور بعد عشرين عاماً من رحيله أشب وأنضر وأطيب خاطراً وأهدأ بالاً مما كان يوم رحيله. ونحن الذين عشنا الحياة معه لا نزال نتألم لفقده، لأننا لا نزال فانين لا أدري لحسن حظنا أم لسوئه. أما هو الذي تحرر من فنائه فقد تحرر من ألمه، ولم يبق له إلا الشعر وفرحه المقيم بمولد قصيدته التي لا تفتأ تولد من جديد. "في الفجر يا صديقتي تولد نفسي من جديد كل صباح أحتفي بعيدها السعيد ما زلت حياً! فرحتي! ما زلت والكلام والسباب والسعال وشاطئ البحار ما يزال يقذف الأصداف واللآل والسحب ما تزال تسح، والمخاض يلجئ النساء للوساد!" ونحن إذ نحتفل اليوم بالشاعر الذي حمل لنا الشعلة هنا في مصر، نحتفل بالشعراء الذين سلموه اياها، وبالشعراء الذين حملوها معه، وبالشعراء الذين حملوها من بعده. صلاح عبدالصبور رائد في كوكبة من الرواد الذين تتابعوا تتابع العدائين العظام في الماراثون العظيم الحافل، وهل كان الشعر العربي يبلغ ما بلغه في هذا العصر الحديث لو لم يقيض له أمثال البارودي وشوقي في فجر النهضة، وشكري، والعقاد، وعلي محمود طه، وابراهيم ناجي، ومحمود حسن إسماعيل، وعبدالرحمن الشرقاوي، وصلاح عبدالصبور من بعد؟ اننا ننظر اليه، ونقتبس من روحه، ونستأنف المسير.