انتهت فاعليات مهرجان دمشق السينمائي الثاني عشر الذي اقيم تحت شعار السينما تجدد شبابها، في خطوة هي الأولى من نوعها في سورية، تمثلت في اتخاذ المهرجان صفته الدولية، وعرضت فيه مختلف انواع الأفلام من انحاء العالم كافة، وعلى مستويات عدة في صالات العروض الدمشقية. وعلى مدار اسبوع كامل، حفلت دمشق بنشاط ملحوظ في "فندق الشام"، مركز تجمع الوفود وضيوف المهرجان من فنانين عرب وأجانب ونقاد وصحافيين. وعقدت هذه الدورة في ظروف سياسية وإدارية جديدة، تمثلت بقوانين منفتحة متعلقة باستيراد الأفلام ودخول القطاع الخاص مجال الإنتاج السينمائي بقوة، اضافة الى الإدارة الشابة للمؤسسة العامة للسينما المتمثلة بمديرها الناقد محمد الأحمد. كل ذلك جعل لهذه الدورة طعماً خاصاً ومميزاً، خصوصاً أن الأحمد راهن بثقة على جعلها "بداية جديدة نحو سينما سورية اكثر شباباً وحضوراً وتجدداً وانفتاحاً على العالم". بدأت فاعليات المهرجان في الثالث من تشرين الأول اكتوبر بحفل افتتاح هادئ، اخرجه وأداره الفنان جمال سليمان، وبعروض راقصة رافقها تكريم عدد من الفنانين منهم بيتر باتساك، سهيل عرفة، حسين فهمي، أديب عبدالحي، وسمر سامي. وتعرف الجمهور السوري اثناء حفل الافتتاح الى لجنة التحكيم لكنه حرم من مشاهدة فيلم الافتتاح "غرفة الابن" للإيطالي ناني موريتي. التظاهرات السينمائية كان اللافت للانتباه في المهرجان كثافة الأفلام وتنوعها عبر التظاهرات الضخمة التي حاولت ان تكون شاملة من انحاء العالم كافة وعلى مستويات عدة. ففي تظاهرة السينما الأميركية في السوق الدولي، عرض الكثير من الأفلام التي لم يكن متاحاً للجمهور السوري رؤيتها، على رغم ان احداً لا يستطيع ان ينكر ان اسم السينما في العالم ارتبط بهوليوود صانعة النجوم، وكانت السباقة الى تقديم المجتمع الأميركي بجوانبه المختلفة، ولا بد من الاعتراف بأنه كان لأفلام الغرب الأميركي دور بالغ في انتشار السينما شعبياً، بغض النظر عما تقدمه تلك الأفلام من قراءة للتاريخ، وخصوصاً ما يتعلق منها بصورة الهنود الحمر. إضافة الى أفلام "الويسترن" كان هناك افلام الخيال العلمي والأفلام التاريخية والحربية التي تميزت بتقنياتها العالية التي اعتمدت آخر المكتشفات العلمية لإنجازها. وهذا ما رأيناه في الأفلام المشاركة مثل فيلم "كوكب القردة" للمخرج تيم بيرتون، وفيلم "ذكاء مصطنع" للمخرج ستيفن سبيلبيرغ، و"ماندولين الكابتن كوريلي" وهو فيلم رومانسي حربي للمخرج جون مادن، و"الطاحونة الحمراء" للمخرج باز لورمان، وهو فيلم استعراضي عن راقصة وشاعر مغرم تنتهي علاقة حبهما بالموت وسط اغنيات حزينة. كما أقيمت تظاهرة للسينما اليابانية شاركت فيها افلام مهمة قديمة وحديثة اهمها فيلم "الساموراي السبعة" للمخرج الشهير اكيرا كيروساوا، وكانت هناك ايضاً تظاهرات السينما الروسية والفرنسية، والسورية والمغربية والمصرية. وقدمت افلام مهمة تابعها الجمهور بشغف، مثل "نجوم النهار" لأسامة محمد، و"قدر اميلي بولان" الفرنسي، و"ورشة جريئة" و"أسرار البنات" المصريين. كانت هناك ايضاً تظاهرات اخرى تكريماً للويس بونويل وتظاهرة "مهرجان المهرجانات"... واحتلت الندوات والمؤتمرات حيزاً مهماً من فاعليات المهرجان، وتزامنت مع عرض الأفلام، وكالعادة كانت هناك ندوة مركزية للمهرجان ناقشت موضوعة "الدراما بين السينما والتلفزيون"، وقدم المداخلة الأساسية فيها الروائي والسيناريست حسن سامي اليوسف، الذي اكد ان النص هو اساس اي عمل سينمائي أو تلفزيوني، وتساءل عن حضور المعاصرة في السينما وغيابها في التلفزيون. المخرج السينمائي السوري اسامة محمد رأى أن المعاناة الأساسية للسينمائيين هي النص والسيناريو، قائلاً إن السينما متعة اكثر جمالية وكثافة وحرية من التلفزيون. في حين رأى المخرج هيثم حقي ان إمكانات العمل السينمائي أكبر من إمكانات العمل التلفزيوني. وعقدت ندوات يومية تلت عروض الأفلام المشاركة في المسابقات، مثل ندوة رضوان الكاشف حول فيلمه "الساحر" وعبداللطيف عبدالحميد حول فيلمه "قمران وزيتونة"، وندوة للفيلم الفينزويلي "مانويلا سينيز" وندوة المخرج غسان شميط عن فيلمه "الطحين الأسود". اضافة الى المؤتمرات التي عقدها الفنانون كحسين فهمي وإلهام شاهين ولبلبة، والمؤتمر الذي عقده الممثل محمود عبدالعزيز. كما تميز المؤتمر الصحافي الذي عقده المخرج الإيراني الشهير عباس كياروستامي وتحدث فيه عن حياته السينمائية، وهو شارك في المهرجان بفيلمه "اي بي سي افريكا". جوائز المهرجان راحت الجائزة الذهبية 6000 دولار الى الفيلم النرويجي "ابردين" من إخراج هانس بيتر مولاند وبطولة ستيلان سكارسجار ولينا هيلري وتقوم فكرة الفيلم على حكاية عادية ومكررة عندما تحاول الابنة الجمع بين ابيها الرجل الكحولي وأمها المريضة المشرفة على الموت. تبدأ المفارقات نتيجة هذا الموقف، فيحاول الأب التنصل من أبوته وتدمن الابنة المحامية المخدرات وتقع في مشكلات عدة نتيجة تصرفات الوافد. في النهاية تنجح في الابتعاد عن المخدرات وفي انقاذ والدها ايضاً من إدمانه، وتحقق لحظة سعادة وفرح بين والديها قبل موت امها. تبرز في هذا الفيلم قدرة المخرج على نبش التفاصيل الحميمية التي تجعل الحياة اكثر جمالاً. اما الجائزة الفضية 4000 دولار فكانت من نصيب الفيلم السوري "قمران وزيتونة" للمخرج عبداللطيف عبدالحميد، وتميز بالمشهدية التصويرية الهادئة، والإيقاع البصري المتوهج الألوان، وعالج الفيلم قصة ثلاثة اطفال يصرون على تحصيلهم الدراسي وسط ظروف القرية السيئة، في بداية الستينات من القرن الماضي. وتم التركيز على علاقة الأطفال المغرقة في الحساسية وتشوبها المشكلات إلا أنها تنتصر للحب في اشكاله كافة. وتستفز القيم النبيلة داخل الإنسان بحس عال وتؤكد الثنائية في النفس البشرية، ثنائية القسوة والحب. والجائزة البرونزية 2000 دولار ذهبت مناصفة بين الفيلم الإيطالي "خبز وتوليب" والبلجيكي "الجميع مشهورون". الفيلم الإيطالي يعالج عبر مشاهد مكثفة بسيطة وشخصيات ذات مواقف متطرفة التوق الى الحرية والحب واكتشاف ما هو جديد عبر قصة امرأة تتأخر عن مجموعتها السياحية فتقرر البقاء في مدينة فينيسيا لتخلق لنفسها عالماً طريفاً مكتشفة ما للوحدة من قسوة على بني البشر. ونالت الإيطالية ليتيش ماليتيا جائزة أفضل ممثلة عن دورها في هذا الفيلم، واختير جوس دوبي افضل ممثل. اما جائزة الأفلام القصيرة فأعطيت ذهبيتها 3000 دولار الى البرازيلي "بي ام دبليو" لرينالدو بينيرو، والفضية 2000 دولار للفيلم السوري "لحظة فرح" لوليد حريب. ونال الفيلم المغربي "الجدار" لفوزي بن سعيدي الجائزة البرونزية وقيمتها 1000 دولار. أما جوائز لجنة التحكيم الخاصة بمسابقة الأفلام الطويلة فذهبت الى الفيلم الفرنسي "غرفة الضباط" ولفيلم "وجهان في الفضاء" لسمير عوف. وتم التنويه بفيلم "دواليك" للمخرج الممثل بسام كوسا، ونال فيلم "الساحر" للمصري رضوان الكاشف جائزة افضل فيلم عربي، ونوّه بالممثل محمود عبدالعزيز لدوره في فيلم "الساحر". ولا بد من القول ان دورة هذا المهرجان حملت في جعبتها كثيراً من التجديد وتحقق معظم الوعود التي أطلقها رئيس المهرجان في رهانه على جعل هذه الدورة مغايرة لمثيلاتها، وعلى الأقل هذا ما لمس في جوانب عدة أولها جعل المهرجان يتصف بالدولية، نتيجة المشاركة الأوسع للنجوم والفنانين الأجانب، والعدد الكبير من الأفلام المعروضة في المهرجان، على رغم ان هذه الكثافة في العروض حالت دون متابعة جميع الأفلام لضيق الوقت. وهنا لا بد من ملاحظة ان صالات العرض السينمائية في دمشق، باستثناء صالة "الشام"، لا تزال على درجة عالية من السوء والتخلف التقني ما انعكس رداءةً على عدد من العروض. كما تذمر كثير من محبي السينما من بعد مكان الافتتاح، وهو قصر الأمويين، عن مركز المدينة، ما جعل الوصول إليه صعباً ومرهقاً، وهذا ما أضفى صفة النخبوية على الحضور. كما لوحظ غياب غالبية الفنانين والأدباء والمثقفين السوريين عن مركز تجمع المهرجان في "فندق الشام"، بينما كان هناك حضور فني مصري متميز بعدده ونجومه، وشهدت هذه الدورة تراجعاً في حضور الصحافيين ومطاردتهم لكل نجم ونجمة كما كان يحصل في دورات سابقة. كواليس المهرجان شكل انسحاب المخرج المصري داود عبدالسيد خسارة للجمهور السوري ما حال دون مشاهدة فيلمه الجديد "مواطن ومخبر وحرامي"، وكانت القضية مدار اقاويل في اروقة المهرجان والصحافة، إذ تردد ان عبدالسيد كان متردداً في المشاركة منذ البدء، لكنه وبحسب تصريحه للصحافة انسحب من المهرجان "لأن الإدارة لم تدع احد ابطال فيلمه". في حين اكد منظمو المهرجان ان الدعوة ليست لها علاقة بالبطل إنما بأحد الممثلين الثانويين. طبعاً كان الخاسر في القضية كلها محبي السينما. اما الفيلم الذي كان مقرراً عرضه في حفل الافتتاح وهو "غرفة الابن"، الحائز السعفة الذهبية في مهرجان كان، فألغي عرضه وأشيع ان السبب وجود قنبلة في صالة المهرجان. لكن البعض عزا الأمر الى إهمال إدارة المهرجان لتجهيز آلة العرض. والبعض ذكر ان الوزيرة رغبت الانتهاء من حفل العشاء الذي يعقب الافتتاح والخاص بالضيوف باكراً، فاختصرت الوقت بإلغاء الفيلم. ولوحظ ان حفل الختام الذي كان مقرراً يوم السبت قدّم الى يوم الجمعة، وبحسب ما قيل ان وزيرة الثقافة مها قنوت كانت عازمة على السفر يوم السبت لذلك قدمت حفل الختام وتوزيع الجوائز! الجمهور يعيد امجاد السينما الحدث الأكبر في المهرجان كان الجمهور السوري المتدافع امام صالات السينما وجعل الكثير من القائمين على تنظيم المهرجان، والمعنيين بالسينما يتذكرون جدياً أن السينما يمكن ان تكون صناعة جيدة في سورية على رغم الوضع المعيشي الصعب. لذلك مددت إدارة المهرجان العروض لغاية السابع عشر من الشهر الجاري. وكانت الأفلام المعروضة منتقاة من اهم التظاهرات السينمائية في المهرجان، إضافة الى أفلام المسابقات والأفلام الحائزة الجوائز، ومن الأفلام التي قدمت فيلم "طيف نزار" المغربي و"مانويلا سينز" الفنزويلي و"قصة فارس" و"ظلال المجد" و"أبردين" النروجي الفائز بالذهبية، و"قمران وزيتونة" السوري الفائز بالفضية. والجديد واللافت للانتباه ايضاً هو إصدارات الكتب الخاصة بالمؤسسة العامة للسينما التي تم توزيعها في المهرجان. وتجاوزت هذه الإصدارات اكثر من 25 مؤلفاً بين ترجمة وتأليف وسير ذاتية، منها كتاب "بائعة الأحلام" لغابريل غارسيا ماركيز، و"الماضي الحي وحياتي وأفلامي" لجان رينوار، إضافة الى مجلة الحياة السينمائية والنشرة اليومية المتابعة لفاعليات المهرجان. وكل ذلك توافر بكثرة في المكتب الصحافي الخاص بالمهرجان، حيث لوحظ الاهتمام بالتغطية الإعلامية والتعاون الذي أبداه المكتب الصحافي للمهرجان من خلال توفير الكراسات والنشرات والتوضيحات والإصدارات الخاصة بالمهرجان وصور الأفلام، والمنشورات التي تحتوي على تفصيلات مهمة عن أفلام المهرجان المشاركة في المسابقة الرسمية وعن التظاهرات السينمائية، وقد جُمعت كلها في مجلد أنيق وُزّع على الجميع.