"الأهلي" يكشف أساطيره في "أسبوع الأساطير"    فريق برادي يتصدر التصفيات التأهيلية لبطولة القوارب الكهربائية السريعة "E1"    الربيعي تحصل على المركز الثاني في مسابقة بيبراس للمعلوماتيه    محمد بن عبدالعزيز يشكر القيادة بمناسبة تمديد خدمته نائبًا لأمير جازان    مدير عام تعليم الطائف التعليم استثمار في المستقبل وتحقيق لرؤية 2030    وزير المالية: استثماراتنا في أمريكا تفوق 770 مليار دولار    منح وزير الشؤون الإسلامية وشاح الطبقة الأولى للشخصية الإسلامية العالمية المؤثرة لعام 2024    أمير حائل يرفع الشكر للقيادة بمناسبة تمديد خدمته أميرًا للمنطقة    عرض رسمي مُنتظر من النصر للظفر بخدمات مهاجم أستون فيلا    جامعة الملك عبد العزيز تطلق مبادرة لتطوير مهارات الطلاب والطالبات في مجال الذكاء الاصطناعي الأولى من نوعها على مستوى الشرق الأوسط    الأمير محمد بن سلمان يُعزي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ فاضل الصباح    أعراض غير نمطية لتصلب الشرايين    الدخيل ل«عكاظ»: بطولة «الدرونز» تساهم في جذب الاستثمارات الرياضية    المملكة تشارك ب10 جهات وطنية في معرض القاهرة للكتاب 2025    الأولمبياد الخاص السعودي يختتم المسابقات الوطنية للقوة البدنية والسباحة بالرياض    المحسن: الخليج لا يحتاج لإثبات كفاءته المالية لاتحاد اليد    نتنياهو: قوات إسرائيل باقية في لبنان لما بعد انتهاء مهلة الانسحاب    الجبير يُشارك في جلسة حوارية في منتدى دافوس بعنوان «حماية البيئة لحفظ الأمن»    «سلمان للإغاثة» يوزع مستلزمات تعليمية متنوعة لدعم مدارس محو الأمية ومراكز ذوي الإعاقة في اليمن    40 ألف ريال تكاليف ليلة الحناء    ترمب يلغي الحماية الأمنية عن فاوتشي: «ليحمي نفسه»    المملكة تعلن عن استضافة اجتماع عالمي دوري للمنتدى الاقتصادي العالمي    بوتين: مستعد للتفاوض مع ترامب لإنهاء الحرب في أوكرانيا    بدء ترحيل المهاجرين غير الشرعيين من أمريكا    الخطيب : السياحة قوة تحويلية للاقتصاد    آل سمره يقدمون شكرهم لأمير نجران على تعازيه في والدهم    القصيبي مسيرة عطاء    القيادة وجدارية المؤسسات    الوقاية الفكرية درع حصين لحماية العقول    عبد العزيز بن سعد يشكر القيادة لتمديد خدمته أميراً لحائل    الجوف: القبض على شخصين لترويجهما أقراصا خاضعة لتنظيم التداول الطبي    قائد الإدارة الجديدة في سوريا يستقبل وزير الخارجية فيصل بن فرحان    أكثر من 20 ألف جولة رقابية تنفذها بلدية محافظة الأسياح لعام 2024م    خطيب المسجد النبوي: تجنبوا الإساءة إلى جيرانكم وأحسنوا لهم    بعد الهدوء الهش في غزة.. الضفة الغربية على حافة الانفجار    خطيب المسجد الحرام: حسن الظن بالله عبادة عظيمة    إحباط محاولة تهريب أكثر من 1.4 مليون حبة كبتاجون عبر ميناء جدة الإسلامي    الذهب يسجل أعلى مستوى في 3 أشهر مع ضعف الدولار وعدم وضوح الرسوم    660 ألف طفل في غزة خارج التعليم    قاضٍ أمريكي يوقف قرار تقييد منح الجنسية بالولادة    أمطار رعدية على معظم مناطق المملكة    المشي حافياً في المنزل ضار للقدمين    العمل المكتبي يُبطئ الحركة ويزيد الأرق    عقل غير هادئ.. رحلة في أعماق الألم    400 مشارك في جائزة "تمكين الأيتام "    %2 نموا بمؤشر التوظيف في المملكة    أعطته (كليتها) فتزوج صديقتها !    تاريخ محفوظ لوطن محظوظ برجاله..    تمديد فترة استقبال المشاركات في معسكر الابتكار الإعلامي «Saudi MIB» حتى 1 فبراير 2025    أمانة جدة تضبط 3 أطنان من التبغ و2200 منتج منتهي الصلاحية    "خالد بن سلطان الفيصل" يشارك في رالي حائل 2025    الثنائية تطاردنا    أمير منطقة جازان يلتقي مشايخ وأهالي محافظة فيفا    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان رئيس منغوليا في وفاة الرئيس السابق    ترامب يعيد تصنيف الحوثيين ك"منظمة إرهابية أجنبية"    السعودية تدين وتستنكر الهجوم الذي شنته قوات الاحتلال الإسرائيلية على مدينة جنين في الضفة الغربية المحتلة    الإرجاف أفعى تستهدف بسمّها الأمن الوطني..    وصية المؤسس لولي عهده    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تعويل على الحادثة ... وأمل في التوسل بها الى موازنة أكثر عدلاً بين نوازع متعادية . نيويورك غداة شهرين على "الكارثة" ... تترك صور الجثث وتبرز السير
نشر في الحياة يوم 16 - 11 - 2001

لم تمهل الحادثة المروِّعة والمباغتة الاميركيين، ولم يمهل الاميركيون أنفسَهم فثارت كل المسائل والقضايا مرة واحدة وتدافعت في الرؤوس والقلوب والمؤسسات والعلاقات والصور وعلى الألسن والشاشات وصفحات الصحف. ففي الساعة الثامنة والدقيقة الثامنة والأربعين من صباح الحادي عشر من أيلول سبتمبر دخلت طائرة "البوينغ" 767، وهي كانت أقلعت من بوسطن في الثامنة إلا دقيقة واحدة ويممت صوب لوس انجيليس، بقضها وقضيضها، أي بركابها وطاقمها ومحركاتها وهيكلها وأجنحتها وخزانات محروقاتها وسرعتها 540 كلم في الساعة، دخلت أعلى البرج الشمالي من برجي مركز التجارة العالمي التوأمين القائمين بحي مانهاتَن من نيويورك. فمال البرجان على أركانهما، ومادت الأرض بهما فيما يقرب من زلزلة موضعية.
واندلعت سحب النار والدخان الأسود الكثيف في الطبقات الثلاثين أو الأربعين العليا، وتدفقت المياه الممتزجة بالبنزين غزيرة في السلالم والممرات وأقفاص المصاعد. فوسع عمر إدواردو ريفييرا، العامل الضرير، نزول واحدة وسبعين طبقة في صحبة ودلالة صاحبة عمله وكلبه، وبلوغ الطبقة الأرضية في سبعين دقيقة. ووصف عمر طوفان المياه والمحروقات، وبلوغها الساق، واصطفاف النازلين الهاربين من الطبقات العالية يساراً، وتركهم الجهة اليمنى للاطفائيين المتسلقين السلالم ركضاً، بينما البرج يميد ويضطرب، والحجارة تتساقط على الرؤوس، "ووحده الخالق قادر على إنقاذنا من جهنم". وجهنم هذه، وصفها الصحافي كيرك كييلدسين في مجلة ال"نيويورك": فهي ركام من الأحذية النسائية والرجالية المتروكة والمكدسة، وناس يهجمون على الفراغ ويسقطون متخلعين ومفككين، ورجال ونساء قشرت جلودهم وارتدوا محلها الغبار جلداً.
وكانت انقضت دقيقة واحدة على صدم الطائرة البرج الشمالي حين أعملت شبكة "سي. إن. إن." إحدى آلات تصويرها المثبتة على مانهاتن، وبثت الصور الأولى للكارثة من غير صور الصدمة. ولم تلبث الشبكات الأخرى أن تبعتها. وخال المشاهدون، وهم ربما معظم البشر الأحياء في أربع جهات الأرض، أن الصدمة الأولى فاتت الات التصوير وعدساتها من غير استثناء، على خلاف صدم الطائرة الثانية البرج الجنوبي، في التاسعة والدقيقة الثالثة، أي بعد ربع ساعة تماماً من دخول الطائرة الأولى البرج الشمالي وحرقه. ولكن مصورَيْن فرنسيين شابين، جول وجدعون نوديه، كانا يصوبان عدستهما على الطائر الميممة صوب البرج الشمالي حين صدمت الطائرة الوجه البحري للمبنى، وهو وجهه غير المرئي.
وإذا كان أطفائيو نيويورك لم يترددوا في صعود عشرات الطبقات قبيل انهيارها المحقق، بينما يحاول من لم يحرقه اللهب ولم يرم بنفسه في هاوية الفضاء الفاغرة وحيداً أو شابكاً يده بيد قرين، على ما حسب مشاهدون التدحرج نزولاً، ترددت وكالة التحقيقات الجنائية إف. بي. آي. الاميركية في ترك شبكات التلفزة تبث صور الفرنسيين الشابين وعدستهما الرقمية. ولا يحسب الأخوان نوديه، وهما سينمائيان محترفان كانا يعدان شريطاً موضوعه أطفائيو نيويورك مصادفة، أن الوكالة أرادت مراقبة الشريط. وهي لم تتأخر في إجازة دقائقه الأولى الثمينة، وردته كاملاً في الخامس عشر من أيلول، أي بعد أربعة أيام من تصويره، الى صاحبيه. ولكن إرجاء البث، ولو ساعات، قرينة على إشكال الأمر على الهيئة الأمنية، وعلى الصحافة والاعلام، من وجه آخر.
ويتناول الإشكال سياسة الصور، وهي في آن واحد سياسة الاعلام، أو شطر كبير منها. فكان إرجاء بث الصور الأولى بضع ساعات، ولو بذريعة تدقيق وتحقيق مقبولة إذ كان يتردد في الرؤوس صدى الكلمات القليلة التي تناهت من حجرة الطائرة الأولى حين استولى عليها الخاطفون: "نملك طائرات أكثر، نملك طائرات أخرى" وما تنذر به، إيذاناً بوجوه أخرى تالية من سياسة متعمدة لم تلبث أن أسفرت عن مبادئها وأعلنتها.
فحين أرادت شبكات التلفزة ووكالات الأخبار، في الثماني والأربعين ساعة الأولى بعد الحادثة، تصوير أعمال الانقاذ والبحث عن المفقودين تحت كتل المعدن والاسمنت والزجاج في الدائرة المنكوبة، طلبت الشرطة والاطفائية النيويوركيتان من المصورين الاقتصار على تصوير الأنقاض من بعيد. وأوَّلَ أحد مديري الأخبار في إحدى الشبكات الأجنبية، غير الأميركية، الطلب تقييداً ومراقبة. ويعزو صحافي آخر القيد على التصوير من قرب الى ارادة السلطات المحلية، ثم الاتحادية، تجنب ترويع المشاهدين، فوق الروع الذي أصابتهم به الحادثة، من طريق صور الجثث المتخلعة والمقطعة. وهذا ما لم يلبث، في المراحل التالية من النقل الاعلامي، أن ثبت وظهر.
فعلى رغم عدد الضحايا الكبير، وهو قل عن الثلاثة آلاف قليلاً بعد أن راج تقدير بضعفي العدد، وكثرة الصور التي تكاد لا تحصى، ليس ثمة صور للضحايا، أي للجثث. فمثل هذه الصور حذف أو ألقي عليه الستر عمداً. واستجابت الصحافة المحلية طوعاً والأجنبية مضطرة رغبة الادارة المحلية والاتحادية في التخفيف من وقع الصور على أهل الضحايا وعلى غيرهم. وتضافر إعلانُ حال الحرب، والتضامن مع الضحايا وأهلهم، ويقظة حسّ قومي حاد، على القبول بإجراء لا شك في أن اقتراحه، في ظرف غير هذا الظرف، كان لقي أشد الإنكار، واتهم بالانقلاب على أقوى التقاليد الأميركية وأرسخها في الوجدان والتاريخ الاميركيين.
ولكن القبول ليس تسليماً، على رغم قوة المسوغات والاجماع على صفة العدوان الغادر وافتئاته على البلد وأهله. ففي مسألة مثل تصوير أجساد الضحايا وهي على حالها الظاهرة من التمثيل، شأنهم في المسائل الأخرى والكثيرة التي ثارت، تنازع الأميركيين قبول مشروط وموقت. فهم على إدراك، منذ الساعات الأولى بل منذ الدقائق الأولى للفاجعة، أنهم في حال حرب عامة ومبهمة، على خلاف الحروب المعهودة والمعروفة.
وردت السلطات على الوجه المعروف والمجرَّب من الحرب بتعليق الطيران التجاري في الأجواء الاميركية كلها، في الساعة التاسعة والدقيقة التاسعة والأربعين - أي بعد ساعة ودقيقتين على صدم البرج الجنوبي وست وأربعين دقيقة على صدم البرج الشمالي، وبعد أربع دقائق على سقوط طائرة "أميركان ايرلاينز" على الجناح الغربي من مجمع مباني وزارة الدفاع بواشنطن. وفي الساعة الحادية عشرة صباحاً أمر رئيس بلدية نيويورك بإخلاء سفح مانهاتن الى الجنوب من شارع القنال كانل ستريت، وتقاطر المتبرعون بالدم على أبواب المستشفيات، وتهافت الناس على محال السلع الغذائية والتموين، وأغلقت المدارس والمتاحف ومكاتب الشركات أبوابها، بينما أقفرت واشنطن من أهلها وسكانها.
وقبل رد السلطات هذا، وقبل قبول عام ومتحفظ بالتستر على المثلة بالجثث، كان ركاب الرحلة 93 من نيوارك أحد مطارات نيويورك الى سان فرنسيسكو على خطوط "يونايتد ايرلاينز"، قاموا على الخاطفين. وترجح اتصالات بعضهم الهاتفية بأهلهم أنهم علموا بما صارت اليه الطائرات "الكثيرة" المخطوفة. فمنعوا خاطفيهم من تحويل الطائرة الى آلة إرهاب وعدوان وقتل. وسقطت الطائرة، بمخطوفيها وخاطفيها، ببنسيلفانيا، على دغل أخضر مورف، ونجا الهدف المجهول من هجوم الارهابيين وخطتهم. وعلى نحو هروع أطفائيي نيويورك، بالعشرات، الى الطبقات المحترقة والمدمرة العالية في البرجين المترنحين والمتمايلين، وعلى نحو تسلق المصورَيْن السينمائيين الأخوين نوديه الجهة اليمنى من السلالم وراء الاطفائيين وتصويرهما أعمال الانقاذ المميتة خمس ساعات كاملة إنفاذاً لعقد عمل يقضي بإخراجهما شريطاً وثائقياً؟، وعودة بعض الناجين الى المباني المنكوبة ومشاركتهم في تخلبص ما قد يقدرون على تخليصه من غير عقد عمل حتى غلبة الإعياء عليهم ووقوع بعضهم مغشياً عليه - على هذه الأنحاء وغيرها لم ينتظر النيويوركيون، "القساة في مدينة قاسية"، أوامر السلطات والادارة، ولا "تعليمات" هذه أو تلك.
ولكن التستر على الجثث، والتواطؤ على ترك تصويرها، لا يصدران عن منطق الحرب، ولا يستوفي منطق الحرب تعليلَهما. ففي الحرب، بعدما صار القتل الى ما صار اليه من تشنيع وتمزيق، يرجع جثمان القتيل الى أهله وبيته وبلده في نعش مقفل وهذه الحال ليست واحدة ولا عامة في المجتمعات كلها: فبعضها يوكل الى مراسم الدفن إبراز القتيل في حلة الفظائع التي ألحقها بها انفجار القنبلة فيه أو إمعان الرصاص في مواضع جسده تشويهاً وتمزيقاً، وتكني السلطة، في بعضها الآخر، بالنعش المقبل عما فعلته السلطة إياها بالقتيل، إعداماً أو قتلاً "تحت" التعذيب. وقد يتحاشى التسترُ توهينَ العزائم. وهذا رأي عملي وذرائعي. وهو يغفل عن توسل مجتمعات اخرى، ضعيفة "الحداثة"، بالجثة والتمثيل بها الى النفخ في الهمم وطلب الموت قتلاً و"شهادة". ويختلف ما يُطلب من الحرب في الحالين. فمعيار تخفيض عدد القتلى الى الصفر، على ما هو المذهب الرسمي الأميركي والأوروبي منذ أوائل العقد العاشر من القرن الماضي، لا يؤذن بالحرص على الحياة وتقديسها وحسب، بل هو قرينة على رغبة في لجم الحرب على وجه السرعة، والحؤول دون توالدها واستمرارها لا إلى غاية. وهذا على خلاف شعائر دفن الأطفال والأولاد، وعرض الجثث، حيث يُخاف انتهاء الحرب باكراً، ويُدَلُّ بعدد الجثث.
والحق ان الاميركيين النيويوركيين، أهالي وهيئات وسلطات، لم يقتصروا على إغلاق "المنطقة الصفر"، على ما سميت الدائرة الواقعة أسفل مانهاتن حيث كان ينتصب البرجان التوأمان في قلب الحي المالي والتجاري وبعض الحي "الفني"، المنسي بعض الشيء في وصف الدمار والخسائر. ولا اقتصروا على حظر تصوير الجثث. ففي أثناء البحث عن بقايا الناس والأشياء وبعض هذه سبائك ذهب تعود الى أحد المصارف الكبيرة، وبعضها أقراص مدمجة يعود الى هيئات مصرفية وتجارية أو أمنية كانت صور المفقودين تنتشر في أنحاء المدينة الكبيرة، وتلصق على واجهات المحال التجارية القريبة من مانهاتن والبعيدة وعلى جدران المستشفيات، وبعضها يتدلى على أغصان الأشجار أو على السياج المعدني حول الحفرة المتسعة حيث كان البرجان التوأمان يقومان. وتحولت المصطبة المطلة على الحفرة الى مزار، أو ما يشبه المزار. فامتلأت بالشموع المغروسة أمام صورة مفقودة أو مفقود، أو أكثر، وبالزائرين الخاشعين والممتلئين رهبة، أو بزائرين يريدون محادثة الناس والكلام اليهم والسماع منهم.
السير والتراجم
ومنذ الخامس عشر من أيلول، غداة ثلاثة الى أربعة أيام على ما أخذ اميركيون كثر يسمونه "الكارثة" أو "المصيبة"، عمدت صحيفة المدينة الأشهر، ال"نيويورك تايمس"، الى نشر صور من توافرت صورهم وبعض أخبارهم وسيرهم من المفقودين. وهم، شأنهم على واجهات المحال وبإزاء الشموع ومتدلين من الأغصان، من كل الألوان، نساء ورجال، كهول وشباب، عاملون وأصحاب عمل... ولكنهم قبل هذا، وعلى ما يشاؤهم أصحابهم وزملاؤهم وأهلهم، سير و"تراجم"، أي أفعال ومعان.
فمحل جثة السيدة جينيفير فيالكو 35 عاماً تمثل شقراء أصيبت بالسرطان في الرابعة والعشرين، وشفيت في التاسعة والعشرين جراء علاج كيميائي ونظام غذائي قاسٍ، وكانت دخلت قبل تسعة أشهر من قتلها العمل في شركة تتولى مساعدة المصابين بالسرطان على علاج ِمرضهم العلاجَ الأنجع. ومحل جثة السيدة إيفيت اندرسون 53 عاماً تطل امرأة سوداء اشتهرت في انحاء من المبنى وبعض ضواحيه القريبة بطهيها ومآكلها و"صحونها"، وبشهادة الطهي التي حصلتها في أيار مايو المنصرم، على رغم انها كانت تعمل قابضة مالية في ادارة ولاية نيويورك القائمة في مركز التجارة. وعلى شاكلتهما كايسي شو 30 عاماً، الكورية الأصل، وغاري بوكس 37 عاما، الحلاق، والأخوان "الاسبانيان" انريكي وخوسيه غوميز 42 و44 عاماً العاملان في مطبخ مطعم المبنى الجنوبي في الطبقة العاشرة بعد المئة المسمى "نوا فذ على العالم" وكان موضع صدم الطائرة الأولى، وجوبيتير يامبيم الهندي... وهؤلاء وأمثالهم سماهم كارلوس، "البطل" المستعرب، من سجنه الفرنسي، "جنود الامبريالية الاميركية بربطات عنق" ليميزهم من جنودها ب"القبعات" في البنتاغون. وقد يكون بين "الجنود" المزعومين من لم تتح له فرصة عقد ربطة العنق، فالسيدة سيلفيا سان بيو ريستا 26 عاماً قتلت وقتل معها جنينها في الشهر السابع.
وعلى خلاف الجثث، وخصوصاً تلك التي شوهها القتل ومثَّل بها - فيستدعي إبرازها الثأر لها ويدعو القتلُ القتلَ والموتُ الموتَ - قد يدعو إبرازُ الموتى في حلة الأخبار والسِّيَر والصور؟ الحياةَ ربما، ويستزيد منها ولو على شاكلة قاسية ومتحكمة وآمرة. ولا يختصر نداء الرئيس الاميركي من باركسدايل بلويزيانا، في الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر من اليوم العتيد، الدعوة والاستزادة هاتين. ولا تختصرهما خطبته من مكتب البيت الأبيض، في الساعة الثامنة والدقيقة الثالثة والثلاثين مساءً. وهو قال فيها ان الأعمال الارهابية قد تهز أركان المباني الشاهقة ولكنها عاجزة عن هز أركان أميركا، وأعلن ان حكومته لن تميز بين الارهابيين وبين من يؤويهم.
وفي غضون أقل من أربع وعشرين ساعة نسقت الادارة الاقتصادية الاميركية مع المصارف المركزية في العالم، وأولها مصرف طوكيو المتطرف شرقاً وطلوعَ شمسٍ، الرد على هلع مالي ونقدي محتمل. فأغرقت الأسواق بالسيولة: فمد المصرف المركزي الياباني السوق بستة عشر بليون دولار ونصف البليون، وتبعه المصرف الأوروبي باثنين وستين بليون دولار، وأقرض الاحتياط الفيديرالي الأميركي المصارف الأوروبية خمسين بليوناً على سبيل الاحتياط، في انتظار عودة الأسواق المالية الاميركية الى العمل في السابع عشر من أيلول، أول يوم اثنين غداة الكارثة. وفي الأربع والعشرين ساعة إياها أخرجت وكالة التحقيقات الفيديرالية فعلة الارهابيين من عمائها وإغفالها، وحملتها على اسم محمد عطا 33 عاماً، المصري، وعلى صورة وجهه العاري والمتوتر والحانق. ومع وضع الحملة الارهابية على اسم شاب مصري ومسلم، ابتدأ عذاب الجاليات العربية والمسلمة والآسيوية في مدن أميركا. فأصابته الشكوك المئات والألوف من الأميركيين والمهاجرين. وامتحنت الحادثة في مجتمع "ملوَّن" الأعراف والثقافات واللغات غلبة البيض الأوروبيين، ودوام مخلفات الغلبة هذه.
وابتدأت الادارة في المضمارين الاقتصادي والقانوني الأمني، الى المضمار الديبلوماسي والعسكري، مشاورات ومناقشات أدت في غضون اسابيع قليلة لم تتجاوز الشهر الى اختطاط خطة اقتصادية ناجعة، وإعلان قانون يحل يد الجهازين القضائي والأمني من بعض القيود على توقيف المظنونين ومراقبتهم، والى بناء تحالف دولي على الارهاب وشبكاته وتمويله دخل حيز العمليات في السابع من تشرين الأول، غداة يومين على وفاة روبرت ستيفنس، المصور في "أميركان ميديا" فلوريدا، بالجمرة الخبيثة.
وما طفا على صفحة الحوادث الظاهرة، من سياسية وحقوقية واقتصادية وعسكرية، لا يستوفي سرده وتعقبه الحوادث الفردية والاجتماعية التي بعثت عليها الحادثة، ولا يلم بمعانيها كلها. فالرد العسكري والديبلوماسي السريع والضخم، ومن عناصره تخويل الرئيس الاميركي دعوة أربعين ألفاً من الاحتياط من 225 ألفاً يحق للرئيس دعوتهم من غير استشارة الهيئتين التشريعيتين وتحريك القوات الى مسرح العمليات، إنما سنده الأول تعبئة وطنية اميركية عفوية، ثارت رداً على جرح كرامة الأمة "المباركة" والقوية. وهي، أي الأمة الاميركية، تعزو قوتها واقتدارها ومواردها الى حلول "البركة" عليها، والى اصطفائها بين الناس، والأمم، على حسب تراث بروتستانتي عميق الأثر في تكوين اميركا ونسيجها. وغير الأمة الاميركية يذهب هذا المذهب في الاصطفاء، ولكنه لا يقيده ولا يرهنه بعلامات ظاهرة، بل يبقيه باطناً ويحمله على النية والقصد.
ولعل سند الرد الثاني هو الثورة على تعسف الفعلة الارهابية، واصابتها من اصابتهم عشوائياً وعلى حين غرة، وقتلها من قتلت وتدميرها ما دمرت من غير تخيير ولا انذار، ومن غير السفور عن وجه أو اعلان مطلب أو تحمل مسؤولية وتبعة. ولكن السند الثاني لا يتطابق تطابقاً تاماً مع السند الأول. فالأول ينزع الى الاستقواء بالاصطفاء، ونسبته الإلهية، ويقود الى التعصب القومي، والى إسكات التساؤل عن علل الفعلة الخرقاء والفظيعة وقد يقود التأويل الحرفي لتراث الاصطفاء الى حمل الفعلة على قصد وقصاص إلهيين بأيد لا يُسأل الخالق عن اختيارها، على ما ذهب اليه أحد كبار القساوسة والوعاظ الأميركيين.
اكتئاب ومراجعة
أما السند الثاني فيقيد الرد الأميركي، العسكري والسياسي والمالي، على الفعلة بالقيود التي يطلب الشعب الاميركي من الجماعات المناهضة التقيد بها. وهذه القيود ترعى السوية السياسية للأفعال وتحول بين الأفعال، ولو كانت عسكرية وحربية، وبين الجنوح الى العنف المحض والمدمر. فالسند الثاني يدعو الى محاسبة النفس، من غير تهمتها التهمة العامة والمغلظة، على ما تدعو أصوات كثيرة "أمريكا" إليه. ومن القرائن على قوة السند الثاني، ومنازعته السند الأول الأرجحيةَ، اقرار 72 في المئة من الاميركيين بميل الى الاكتئاب، منذ الضربة الارهابية المروعة. ويشكو نصفهم من ضعف القدرة على جمع الذهن، وواحد من ثلاثة من اضطراب نومه بحسب أحد مراكز التقصي "بيور يسيرش".
فالتسعون في المئة من الأميركيين الذين أعلنوا محض رئيسهم ثقتهم في 21 أيلول وكان 45 في المئة صبيحة الحادي عشر غير واثقين من أن الرئيس المنتخب قبل عشرة أشهر على قدر المنصب الذي انتخب اليه، وكان 75 في المئة منهم يمحضونه ثقتهم في 13 منه لا يوالون شخصاً، ولا حتى سياسة، على معنى التقليد السياسي المعروف من قبل. فهم يقترعون كل يوم، ويفتون برأيهم في استفتاء يومي موضوعه أفعال الرئيس وادارته. فالذين يمحضون جورج بوش الابن ثقتهم في الاسبوع الأول من تشرين الثاني نوفمبر، وهم لم ينفكوا نحو 80 في المئة من المستَفْتين، يذهب نصفهم الى أن الحملة العسكرية على "قاعدة" بن لادن وطالبنان الأفغانيين قد لا تكون رد الجواب الناجع على الإرهاب ورعاته وملجئيه.
ومن هذا شأنهم، قلقاً ومنازعة، لا يطمأنون الى "خط" سياسي، ولا يعولون على ثبات سياسة تتغير ملابسات قراراتها على الدوام. ولعل جورج بوش الابن خير دليل على نوع العلاقة التي تقوم بين "عمّال" الأمر أي ولاته في الدول الديموقراطية وبين الرأي العام وتياراته وانقساماته. فالرجل الذي انتخب، بالفرق الضئيل في الأصوات الذي يذكره الناس، وهو يدعو الى "انسحاب" الدولة من تدبير الاقتصاد، والى "رد" فائض الخزينة من الضرائب الى المكلفين، أفراداً ومنشآت وشركات، أسرع الى تأمين مصروفات عامة بلغت أربعين بليون دولار في الاسبوع الأول بعد الكارثة، وتبلغ المئة بليون اليوم تداركاً لركود سبقت نذره الفعلة الارهابية.
وربما يجوز تأويل التظاهرات السياسية الكبيرة هذه صدىً لنزعات الرأي العام. وهو ليس صدى مكبوتاً ولا كامناً، على نحو ما يصح ان يوصف الرأي العام في الدول المتسلطة والمتعسفة. فكتّاب التحقيقات، أو مذيعو المحادثات الاذاعية والمتلفزة، يقعون على مثال هذه الآراء المتنازعة والمختلفة من غير التباس في عباراتها. وهم يذهبون الى أن النيويوركيين أوضح عبارة عن التضامن والمؤاساة، بعد الكارثة، قياساً بهم قبلها. ويلاحظ مراسل الصحيفة الأوروبية في المدينة المصابة أن أهلها يمشون مشية أكثر بطأً. وعلى خلاف عاداتهم المعروفة والمشهورة ينظر بعضهم الى بعض، ويبتسم بعضهم لبعضهم الآخر من غير خجل، وقد يعتذر واحدهم الى آخر حشره أو حال بينه وبين بلوغ بغيته. وتروي امرأة الى الصحافي أنها ألفت نفسها تضم الى صدرها صبية كانت تبكي على قارعة الطريق، وتؤاسيها. "فعلت ذلك، على حين أن الناس في نيويورك لا يلمس بعضهم بعضاً"، على ما قالت. وتروي أخرى انه وسعها، وهي مكسوة بالرماد، أن تضع رأسها على كتف رجل يصلي. وشطر من النيويوركيين ترك ارتياد المقاهي والمطاعم، ويلتمس الأنس في اللقاءات الحميمة بين الأصدقاء والأقرباء. ولم تعدم الحال هذه أثراً اقتصادياً واضحاً.
وتروي صحافية جالت في نيويورك، في منتصف تشرين الأول، ان بائع الصحف بين برودواي والشارع الثامن والأربعين لم يعهده زبائنه المستعجلون إلا وجهاً جامداً من غيره خلجة. وإذا به، بعد الحادثة، ينصح الصحافية الأوروبية بالتمهل في قراءة الصحف الأربع التي اشترتها لتوها من كشكه: "هل ترغبين في تعكير نهارك باكراً؟". وما يقع عليه الزائر، أو يرويه المقيم القديم أو العابر، يسع من شاء التحقق منه في تظاهرات بعضها مشترك ومتاح لجميع الناس. فالأحياء النيويوركية التي قتل منها في صدم البرجين وانهيارهما بعض أهلها القاطنين، ولا سيما الاطفائيون منهم، تداعوا الى الاجتماع، تعارفاً أو مؤاكلة، والى الاسهام في حملة التضامن الوطنية بما يجمعونه في اجتماعهم. ويلبي الأهالي الدعوة متحمسين. ويزور نيويورك أهالي الولايات البعيدة، تضامناً واستجابة لنداء رئيس البلدية. واجتمع من الاسهامات المتفرقة في حملة دعم المدينة، في أواخر تشرين الأول، بليون دولار ومئتا مليون. وقد يصطنع أميركيون الإقبال على الشراء والاستهلاك تلبية لدعوة الادارة وتحاشياً لإنكماش فاقمت الضربة من احتماله ومن حجمه.
وفي الاثناء يترجح أهالي المدينة بين نازع الى الخوف والانطواء والحذر وبين رغبة ملحة وقوية في المخالطة والتعرف والتمهل. فينكر بعضهم على نفسه، وعلى الصفحات الماضية من حياته، ما سمته احداهن في كلامها على نفسها "الخفة" والطيش. وليس المثقفون والكتّاب، من أمثال ديك هوارد وطوني جُودْت وغيرهما، وحدهم من يأملون في ولادة "النافعة من الضارة". فعامة الناس، من الذين لم يتخذوا من مراجعة النفس حرفة، يعولون على الحادثة التي هزتهم في سبيل بلوغ حياة أعدل موازنة بين النوازع المختلفة والمتعادية، على مثال نشدان سياسة اقتصادية تراعي احتياجات السوق والاحتياجات الاجتماعية جميعاً. وعلى مثال نشدان سياسة أمنية تحمي المواطنين والمنشآت، وتردع العابثين والمجرمين، من وجه، من غير أن تثقل على الحريات الفردية والعامة، من وجه آخر. وعلى منوال قريب، يممت مناقشة بناء مركز التجارة العالمي، أو تجديد بنائه، ولمّا ينقضِ اسبوعان على "اغتياله" شطرَ الجمع بين الصلب والزجاج والعلو و"زيادة عشرين طبقة جديدة"، على ما ذهب اليه معمار المركز وبين العمارة الجميلة والمتنوعة و"الذكية" التي يدعو اليها رينزو بيانو وإيوه مينغ باي، وهما من عمّاري "ناطحات السحاب" الجديدة.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.