سماتٌ عدَّة جعلت من شعر سركون بولص (1944-2007) يمتاز بالاختلاف في تجربة قصيدة النثر العربية، إلا أن أكثر ما يلفت النظر في تجربته الشعرية إتقان بناء القصيدة لديه، ذلك البناء «القصصي الخفي» وأعني بالخفي هنا ما فسَّره هو بنفسه في قصيدة «الكوَّة» ضمن ديوانه الأخير «عظمة أخرى لكلب القبيلة»: «القصيدةُ قَدْ تضيع/ إذا لم تجد الخيطَ الخفيَّ / والرَّاوي لن يعرفَ القِصَّة» إنه ذلك الإهاب المتقن في الشكل الحداثي للقصيدة، وذلك النموُّ الذي يعتمد على التقطيع في عموم المشهد، بما يجعل قصيدته صُورية بامتياز، ذات تعددية وتنوُّع في الأبعاد بقدر ما هي متعاظلة بعناية الصَّانع وبتنقيح مترسِّل. ومن هنا فإنَّ تساؤلاً عن مصدر تلك الخصوصية في تجربة صاحب «لو كنت نائماً في مركب نوح» سيكون مشروعاً وفي محلَّه تماماً فلعلَّ ثمَّة مِمَّن لمسوا تلك الخصوصية في شعره التي ظهرت، وإن متأخرة نسبياً من حيث الزمن، في أولى مجموعاته الشعرية: «الوصول إلى مدينة أين- 1985» وأنجزها نهائياً في ديوانه الأخير «عظمة أخرى لكلب القبيلة» لا يعرفون أنَّ لصاحبها تجربة في كتابة القصيدة الموزونة في الستينات، وأخرى مميَّزة في كتابة القصة القصيرة، قبل أن يصل إلى قصيدته تلك، وهو الجانب الذي يظهر متاحاً أمام القراء بصدور مجموعته القصصية الوحيدة «عاصمة الأنفاس الأخيرة- دار الجمل 2015» ومن المهم الإشارة هنا إلى أن فنَّ القصة القصيرة في العراق أزدهر خلال الستينات في شكل لافت وإن كانت حركة الشعر الحر الصاعدة بقوة آنذاك قد استأثرت بالاهتمام النقدي أكثر فطغت على المشهد الثقافي في البلاد، إلا أننا يمكن أن نلحظ إن الأجناس الأدبية لم تكن قريبة بهذا الشكل في تاريخ الأدب العربي والعراقي تحديداً، إلا في تلك الحقبة، حتى لتبدو في أحيان كثيرة متداخلة ببعضها بعضاً وفي تلك الأجواء ظهر نص «مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة» ذلك العمل الحائر بين القصيدة والرواية، نموذجاً لذلك التداخل، وها هي المجموعة القصصية الوحيدة لسركون بولص تعزُّز هذا الرأي. ضمت المجموعة ثماني عشرة قصة، كتبت كلها ونشرت في الستينات باستثناء قصة «عاصمة الأنفاس الأخيرة» فهي الوحيدة المنشورة متأخرة عن بقية قصص المجموعة - نشرت عام 1992 - لكنَّ أحداثها وأجواءها تدور كسائر قصص المجموعة في عراق الستينات. في شعر سركون كان دائماً ثمة قصَّة خلف بلاغة الشعر، بلاغة أخرى استعارية وتأويلية مضمرة، أو هي معنى المعنى على تعبير الجرجاني، إنها تلك البنية التي تمنح القصيدة وحدتها الموضوعية، ليس بالطريقة البنائية التراكمية التقليدية، وإنما بتقنية ذلك التقطيع الذي أشرت إليه. وفي مجموعته القصصية هنا، ترسيخ لهذه الفكرة من وجه آخر، فثمة بلاغة شعرية وبنية استعارية شديدة التكثيف داخل القصَّة. بل إنًّ ثمة قصائد في شعره بخاصة في «الحياة قرب الأكروبول» و«الأول والتالي» تبدو كأنها صياغة أخرى لبعض قصصه في هذه المجموعة. وعلى رغم أنه ينوس في الكتابة القصصية بين ضمير «الأنا» المتكلم أحياناً، و«الهو» الغائب في أحيان أخرى، إلا أن بطله ليس أنا الراوي تحديداً، ولا هو الآخر تماماً، إنه مزيج ليس من هذين الاثنين فحسب، بل يتعدَّى نحو مزاج جماعي لحالة الفرد في حقبة الستينات العراقية، ذلك الفرد المحتدم بتناقضات شتَّى. زمن شعري حتى الزمن في غالبية قصص المجموعة هو زمن شعري، فمع أنه يوحي في الظاهر أنه زمن ستيني حيث كلُّ شيء في القصص يكشف عن ملامح تلك الحقبة وخصوصيتها، إلا أننا في القراءة الأخرى الموازية أو الاستبطانية سنجد أنه زمن شعري مفتوح، بفعل هذا التعاضد بين الحس والحدس وبين المحلية والإنسانية. والواقع أن الزمن لا يتصاعد بوتيرة تقليدية، بل إنه يتجلَّى أحياناً مُقطَّعَاً بعناية! هذا التقطيع المقصود للزمن في قصص المجموعة يحيل على تلك الدلالة المخفيَّة للأليغوريا. فاسما «يونس» و«يوسف» يتكرران في غالبية قصص المجموعة، اسمان قادمان من المدونات التاريخية والدينية، وهما يستبطنان بعداً أليغورياً لإضفاء كثافة رمزية وتأويلية على محلية الحكاية. أما شخصيات قصصه فهي في الأعمّ شخصيات وجودية تترنَّح في مأزق دائم، بفعل الاضطهاد المركب الاجتماعي والسياسي، أو مأسورة في ذلك المأزق الشخصي «والتعب من الإفلاس والمحبة» كما عبّر عنه في قصيدته «آلام بودلير وصلت» وهي تحاول الخروج من ذلك المأزق المركب، بطرق وحلول شتى بينها: الجنس العابر، والسفر، كما في قصة «صباح ما هناك» أو في الهروب من العائلة قصة «عشاء متأخر» وأحياناً حتى بالنزوع إلى الانتحار كما في «قصة الملجأ» التي تقود إلى جريمة حيث يحلُّ الآخر العابر أضحية بديلة، في نزعة كافكويَّة لمعاقبة الشخصيات من دون أن ترتكب جريمة. والواقع أننا نلمح أثراً لكافكا في كثير من القصص حيث لا نخرج منها ببهجة وإنما بدهشة كابوسية، وحيث العلاقات المضطربة، والبطل المطارد والاستبطان المركب من اليأس والعبث، إلى جانب شيء من تقنيات بورخيس في صياغة اللغز داخل القصة، لكنه ليس لغزاً تاريخياً أو أسطورياً، إنما هو شيفرة شعرية تتشظى داخل الحكاية نفسها، ولا يمكن إعادة تجميعها إلا في إطار الصورة النهائية. منذ القصة الأولى «عاصمة الأنفاس الأخيرة» التي حملت المجموعة عنوانها: نتعرَّف مع البطل يونس القادم من كركوك إلى بغداد، على الصورة البانورامية للمكان الذي تجري فيه أحداث القصة وسائر القصص الأخرى: صورة الرصافي والسياب، قبل أن يُنحت لهما التمثالان! إعلانات السينما، شارعي الرشيد والسعدون، أجواء الحانات، والطقوس الاحتفالية والتأبينية الآشورية والتركمانية والكردية، الأقليات المهاجرة نحو العاصمة «القلب الكبير الأوردة» كما يسميه وكذلك على نماذج أشخاصه الهامشيين: نزَّاحي الآبار المنزلية ومجاري الصرف الصحِّي، صبَّاغي الأحذية، وهي من المهن التقليدية للأقليات في بغداد آنذاك، إلى جانب سادية الحرس القومي «ميلشيا البعث المسلحة في الستينات» شروط القصة في الشكل الفني الظاهر للقصص يبدو سركون قاصاً ملتزماً شروط القصة التقليدية لناحية الالتزام بالحدث وبناء الشخصية، بيد أنَّ ثمة شكلاً تضليلياً غير مرئي ومموَّهاً داخل الشكل التقليدي للقصة. هو شكل متأرجح بين الشعر والسرد، إي إخراج الحدث من كونه مجرد حادثة يومية إلى «أُحدوثة» ومن واقعيته إلى متخيله وحتى خرافيته وسحريته أحياناً. وقد يبدو السرد فناً قابلاً للاستطراد والإنشاء المسترسل أكثر من القصيدة، لكن سرد سركون في المجمل، يتخلى عن ذلك بدراية وإصرار، فعبارته مُحكَمة، وأحياناً مقتضبة، كلمة، أو شبه جملة، منحوتة من دلالاتٍ مكتنزة، ومع هذا فهي ليست خبرية تماماً، إنما هي إيحائية مفتوحة على مدى تأويلي واسع وقابلة لقراءات متعددة وليس لتفسير أحادي تلقائي ومعتاد. من هنا سمة السرد الشعري في هذا الكتاب، ومن هنا كذلك تتكرَّر شعرية النهايات المفتوحة والمشاهد المقطوعة في غالبية قصصه لتُترك تتمَّتها لتأويل القارئ وربما لحيرته ومتاهته. فالنهايات المفتوحة تؤدي إلى بدايات أخرى وليست خاتمة لحدثٍ، هي أشبه بتلك الخواتم التي اعتاد إنهاء قصائده بها :« ...وكان الثلاثة يركضون نحو النهر الذي لا يتوقف عن الجريان». «... مندفعاً تحت الشمس التي تنهار ببطء في طريقي الطويل نحو المدينة». «... كان الجسر أمامه، يتفرَّع إلى طرقات عديدة». أو تلك النهايات المختزلة التي تبقى مواربة كذلك: «....ماء وأصوات بعيدة» «... ليلٌ، ثم انفتح الباب» أو تلك التي تجسد الاغتراب واللا تواصل «... وأحياناً تكون تلك النهاية في صيغة استفهامية شكوكية تقارب الإنكار: «....ما الذي كان الطائر المجنون يفعله هنا في هذا الوقت؟» «....تتأملني، كأنني طفل بائس: - هل تريدني؟» إنها قصص تترك أثراً قوياً لدى القارئ وحين يصف سركون حاله بأنه «سارد الحكاية المضحكة» فهو لا يجعلنا نرخي شفاهنا المزمومة بابتسامة عابرة، وإنما يدفعنا في أكثر من مكان إلى فتح أفواهنا أكثر ليس للقهقهة وإنما بدهشة أكثر من المعتاد.