لم يكن ذلك اليوم وحده دامياً، لكن كل يوم هو كذلك. فهناك اوصال تتمزق وعروق تتقطع لتسيل دماؤها - فتروي ارضها، وتحكي القصص عن شهداء، وتزداد قائمة الضحايا كل يوم ولا وقوف ولا تفكير ولا رجعة. إنها سحابة حالكة السواد تغطي الاجسام الآدمية والاعضاء المتناثرة في الهواء، الهاوية من أعالي مركز التجارة العالمية في الولاياتالمتحدة الاميركية وفي ربوع فلسطين، كما كانت في مصر ايضاً. فكما هو أرقط ذو سم زعاف، فإن أنيابه لا تخلو من بقايا لحوم البشر، كما لا يخلو لعابه من دماء بني الانسان ولا اختلاف عليه - فإنه الارهاب. ما زلت أراها - أيديَ وأرجلاً، وربما بقايا اجساد، وهناك اناس احياء يقفزون من النوافذ حباً في الحياة وطمعاً في نجاة مستحيلة - ولا مفر. استيقظت من نومي على صوت انفجار - نعم اني أسترجع ما شاهدته في محاولة لاغتيال مسؤول في مصر، والناس ذاهبون الى عملهم لا حول لهم ولا قوة، إنه السعي في سبيل لقمة العيش. كما كان الأمر كذلك العام 1967، وكنت طفلاً ألعب، لا وقت لدي سوى لجمع اشلاء الضحايا وتجفيف الدماء من على الارض، لم أعرف أكان يوماً عادياً أم هو يوم تتشقق فيه الارض ويموت فيه المئات والآلاف؟ لم يفعل الانسان ذلك بنفسه وبأخيه - مثل قابيل وهابيل وقد علمه الغراب كيف يواري سوءة أخيه بعد ان استحل دمه وتجرع كأس الغواية؟ أخاف ان اخرج ولا اعود - فأترك وصيتي. من سيرعى صغاري، وما زالوا بذوراً، ومن سيقول لهم إنه قد أهدر دمي من دون ذنب، ومن سيأخذ بثأري، فكما كان لي اخ، فلك أخت وأم وأب ولنا صديق، جميعهم يدينون الارهاب بحق لحومهم وأعمارهم الضائعة. نعم اني شاهد على مقتل بني آدم وعلى فلاَح ابليس، شاهد على مقتل تلك العجوز التي حملتها جرياً وهرباً من الموت لحظة الانفجار، وشاهد على دماء صديقي المتناثرة على الحائط في أحد شوارع القاهرة العام 1983، ونتساءل - أكان الجناة قادمين من بيت آخر في كوكب بعيد؟ أم من بيننا على الارض - إني أشك في كل الناس كما أخاف عليهم، فالجاني أخي كما ان الضحية أختي وأمي العجوز وولدي الذاهب الى المدرسة وقد تناثرت كتبه على الارض، فان استطعت ان ألملم حذاءه الجديد فلن استطيع ان اجمع اشلاءه ودماءه، ولا عودة، فلن يعود ولدي بعد اليوم للقيام بواجباته المدرسية ولن اسمع ضحكاته أبداً كما لن اسمع كلمة بابا ثانية. نعم أنا شاهد أرى امثال ولدنا محمد الدرة الشهيد وهو مختبئ في ملابس أبيه وقد مات في الطريق على مرأى ومسمع من العالم، نعم أنا شاهد أرى الجندي يركل الطفل، ويوكزه ببندقيته في ظهره الطري، في رفح ومن خلف الاسوار، وكان صراخ ابن السنوات السبع يدوي: أليس من حقي ان ألعب، أن انام على السرير، أن آكل في طبق نظيف، وان أذهب الى المدرسة؟ نعم أنا شاهد على اغتيال الآخرين من ابناء وطني واستغلال حقوقهم - ولا مساءلة. لنصمد، ولنقل لا وألف لا، لن يمس ولدي أحد ولن اموت وسأحيا كريماً عزيز النفس كما سيذهب ولدي الى المدرسة وسيعود، كما سأنتظره امام الباب. وأناشد من يعد القنبلة ان يفكر في أمه فربما تمر بجوارها حال انفجارها، فليتوضأ ليصلي أو ليذهب الى الكنيسة وليتب الى الله وليعلم انه لن يبلغ الجبال ولن يخرق الارض طولاً، ولن أستسلم، وإني شاهد.