أن تقرأ رواية لطيفة الزيات الاولى "الباب المفتوح"، بالانكليزية ترجمة مارلين بوث، عن منشورات الجامعة الاميركية، القاهرة ونيويورك وبعد اربعين عاماً على صدورها الاول بالعربية، فلا بد من ان يداخلك الاحساس بأنها محض قصة متقادمة عن فتاة تكافح في سبيل تحقيق معنى لذاتها المستقلة، في سياق يقرن البعد الاجتماعي بالسياسيّ. فحيث يُصوَّر الواقع السياسي والاجتماعي في مصر ما بين نهاية الحرب العالمية الثانية وازمة السويس عام 1956، وهو العقد الذي تجري فيه الرواية، بمثابة مشكلة، او جملة من المشكلات بحاجة الى حلّ، فإن هذا الواقع يظهر لنا عديم الصلة بعالم اليوم. ولعل هذا، ما يطفىء وهج السرد. علاوة على ذلك فإن السرد نفسه لا يتوانى عن اكتساء رطانة العهد المرصّعة بالشعارات التفاؤلية مما امسى اليوم محض ذكرى باهتة. مثل هذا الكلام لا يبدو مكافئاً لرواية تُعدّ علامة بارزة في الرواية العربية، لا سيما تلك التي كتبتها المرأة. ولكن كما نعلم فإن العلامات البارزة، وربما اشدّ من غيرها من الاعمال الادبية، هي التي تتعرض للكسوف وداء التقادم. المثير للاهتمام ان "الباب المفتوح" تبدو وكأنها تتحسب بنفسها مصيراً كهذا. ففي نهاية الرواية، وبعدما تكون معركة السويس قد كُسبت سياسياً، وإن ليس عسكرياً، تسأل ليلى، بطلة الرواية، حسين، حبيبها ورفيقها في النضال، إذا ما كانت هذه هي النهاية، فيجيبها بأن هذه هي البداية فقط. وحسين، على ما تصوّره الرواية، والموقع الذي توليه اياه، هو صوت الوجدان الذي يتجاوز سطح الاحداث، ما يؤدي اليها او يسفر عنها، الى معناها الاعمق. وكما ان نهاية معركة السويس ليست نهاية الصراع، وهو امر طبيعي في رواية تفترض ان الصراع قائم على الجبهتين الخارجية والداخليّة، كذلك فإن نهاية الرواية ليست نهاية القصة التي ترُسى خطوطها. فالرواية ليست سوى بداية واحدة كبيرة. ونحن اذا ما اكتفينا بالنظر الى الفصل الاولّ منها تبيّنا نزعة أساسية في إطلاق غير بداية واحدة. بل ان الكاتبة تغامر بإنشاء فصل "إستكشي" الطابع لا لغرض سوى تأسيس بدايات مختلفة. تبدأ الرواية، على مستوى اول، بالتظاهرة الطالبية الكبيرة في 26 شباط فبراير 1946، باعتبارها ولادة مرحلة حاسمة من الصراع في سبيل الانعتاق من أسر النفوذ والوجود البريطانيين. وتبدأ، على مستوى آخر، اجتماعي ونفسي، بينما ليلى مقبلة على طور البلوغ وعلى بداية وعيها العاطفي والسياسي، وهو ما تعوّل عليه لكي يحملها بعيداً من وسطها الاجتماعي الضيق في تفاوته بين ادعاء الالتزام بقيم ومقاييس أخلاقية صارمة وبين حياة يوميّة قوامها السلوك الاجتماعي المبتذل والادعاء الأخلاقيّ. هكذا فما ان تبلغ ليلى حتى يعمد ذووها الى جملة من التدابير تحول دونها وخطر الغواية التي لا بد من انها محدقة بها. فيُحرّم على اصدقاء شقيقها زيارته في المنزل ويُحرّم جلب "الروايات السخيفة"، تلك المفسدة للأخلاق. ومن البديهي القول ان غرض مثل هذه الحماية الابوية المفرطة ليس لخير حياة الفتاة الناضجة وإنما هو تمرين في السلطة الابوية. ففي النهاية، لا يبدو المصير المودع لليلى بأفضل من مصير ايٍ من فتيات وسطها الاجتماعيّ، وهو تزويجها الى من يتمتع بقدرات مادية، وهذا كفيل بأن يحضها على التمرد. ولكن سواء أكان الامر بداية كفاح سياسي في سبيل الاستقلال ام رحلة بحث واكتشاف ذاتيين ام محاولة للانضواء في الفعل، فإنها في جلّ الاحوال لا تكون بداية طريق يفضي الى الغرض المنشود. وحينما تحاول الانضواء في تظاهرة طالبية، عملاً بقناعاتها السياسية، فإنها تُعامل معاملة الطفل العاق وتعاقب عقاباً صارماً. وحينما تفلح في مراوغة سلطان والديها، مطلقة العنان لعواطفها وطموحاتها الفكرية، فإنها سرعان ما تقع في يد من يحاول إخضاعها لإرادته. فيكاد حبيبها الأول ان يخنقها بغيرته ونزعة التملك التي تعتريه إزاءها، بما يدل، في النهاية على انه لم يشأ إلا وسيلة لإشباع نوازعه العاطفية تماماً كما يستغل الخادمة في الوقت نفسه لإشباع رغباته الجنسية. أما خطيبها، وأستاذها الجامعي الذي يدّعي التطلع الى أسمى القيم الفكرية والأخلاقية، فإنه يعاملها كمحض تابع لا دور له سوى ان يكون متفرجاً يشهد فتوحاته ويصفق لانتصاراته. فلا يختلف هذا عن حبيبها الاولّ، في كلا الوجهين: الإخفاق في وعوده وقيمه المزعومة اولاً، واستخدامه المرأة سبيلاً لإرضاء أهوائه ثانياً. وهكذا لا تبرح ليلى تستأنف بدايات تتخلّلها حالات ارتداد الى برود عاجز او تسليم قدريّ بما يجعل من العسير القطع إذا ما كان الامر إمعاناً في طلب الحرية أو عملية هرب محكومة بالفشل. ولكن على رغم ان "الباب المفتوح" تفترض مسبقاً ان الواقع السياسي والاجتماعي هو مشكلة في حاجة الى حلّ، الاّ ان من الاجحاف القول إن السرد ينحصر في صوغ دراما لمثل هذه الفرضية. فمهما بلغ سطوع الرسالة السياسية "النسوية" في السرد الاّ ان هذا لا يؤدي الى التهاون في المطالب الفنية المتوقعة في الادب. ينتمي السرد بامتياز الى القصة الواقعية، وكانت أمست في ذلك الوقت تقليداً راسخاً بفضل جهود اسلاف كبار، لا سيما اعمال نجيب محفوظ. وإذا ما احتلّ تصوير التحولات السياسية والاجتماعية اهتماماً اساسياً في مثل هذا الضرب من الكتابة، فإنه حتماً لا يستقيم غافلاً عن التفاصيل الحيّة التي يتشكل منها عالم كل يوم. وإذا ما عبرت الشخصيات عن افكار سياسية، او عكست مواقفها ولاءات ذات إملاء طبقيّ، فإن في سماتها الكثير من الابعاد، ما يجعلها ترقى على مجرّد تمثيل لافكار وعقائد ومواقع اجتماعية. وليس مرد هذا النجاح الفني الى حرص على تصوير الواقع كما هو- فمن النافل القول إن ليس ثمة شيء من قبيل تصوير الواقع كما هو- وإنما لأن ثمة استخداماً للغة العامية، إبتكاريّاً وجريئاً، علاوة على إستيعاب لمتطلبات القصة الواقعية، ما يفضي الى ولادة ضرب من التعبير الهجين الضارب الجذور في كلا شكلي التعبير الشفويّ والمكتوب للقصة. على ان ما يجعل "الباب المفتوح" علامة بارزة في الرواية العربية هو صوغها صورة للواقع الاجتماعي والسياسي في الحقبة التاريخية المذكورة من منظور نسويّ. وعلى رغم ان السرد يتبع سبيل ضمير الغائب، وليس المتكلم، الاّ ان حقيقة كل ما يوصف او يخبر انما يتجلى من خلال عيون بطلة الرواية. وهو الى ذلك يمضي نحو تأويل خبرتها الواعية. فالرواية إسهام لا يُنكر منح المرأة، المستبعدة والمهمّشة، حقّ ان تروي القصة: قصتها هي كوجه لتاريخ المجتمع والصراعات المعتملة فيه. وفي الاحوال كافة، يتمثل إنجاز الرواية الفريد في قدرة السرد على القبض على وجدان إمرأة ذات حساسية بالغة الرهافة تجاه المناخ الخانق الذي تعيش في ظله هي وأبناء جيلها، ما يُعلل بالتالي سعيهم جميعاً الى التحرر منه. ونظراً الى ان جلّ شخصيات الرواية من الشابات والشبّان الذين لم يتجاوزوا العقد الثالث من العمر، فإن الرواية هي قصة الجيل الجديد المقبل على مرحلة حاسمة من حياته وحياة مجتمعه. ومن هنا تكتسب رؤية ليلى الى الامور المحيطة بها اهمية ما هو جمعيّ الشكل والمضمون. وليست قدرتها البلاغية، إن في إبداء آراء سياسية جريئة ام في تحليلها للأمور، هي ما يسترعي الانتباه، وإنما طاقتها على الرؤية من خلال المحيطين بها واستشفاف الهشاشة والادعاء والابتذال الذي يحكم تصوراتهم وقيمهم وسلوكهم. فخلف تلك الطاقة إيمان عميق بإمكان حياة افضل من ذلك الوجود العقيم الذي يُقبل عليه افراد وسطها الاجتماعي، ولا سيما النساء منهم، فيتقبلونه باستسلام تام. وقد لا يكون الامر، جديراً بالاستدراك، الاّ بمثابة إعراب عن فشل ليلى وأبناء جيلها في استعياب التعقيدات الكامنة خلف الترتيب الاجتماعي الذي تنظر اليه بعين الازدراء بما يدفعها الى الركون الى تصورات وحلول سطحية تجعلها على الدوام أسيرة البدايات التي لا تنفك تُقبل عليها. إن واحدة من فضائل الرواية أنها لا تصوّر ليلى كرسولة حقيقة وتحرر. بل على العكس من ذلك فإنها تظهر اقرب الى شخصية مترددة سريعة الانكفاء، وفي الاحوال كافة غير قادرة على تعيين هدفها النهائي او السعي نحوه من دون معونة رجل، وخصوصاً ذاك الذي يتطوّع للقيام بدور المعلم او المخلّص. وبهذا تظهر كروح طليقة وحائرة في آن. وعندما تستقيم الامور تبعاً لهواها في النهاية، فتتحرر من أسر من يريدون إخضاعها لإراداتهم، اهلها وخطيبها، لا تتمكن من فعل ذلك الاّ بمعونة رجل آخر، حسين. صحيح ان هذا الرجل يظهر بمثابة رفيق او شريك مساوٍ لها، الاّ انه هو الذي يتولى مهمة تحديد المؤشر الفعليّ للأحداث. بل ان الرواية تعيره حق الحكم بأن نهايتها كرواية إنما هي بداية رحلة جديدة. بداية، على رغم ما تتمتع به من وضوح وتفاؤل، لا يُصار الى تجاوزها في السياق الأرحب لقصة تاريخ التحرر السياسي والاجتماعي المنشود، ولكن ايضاً تاريخ الإقرار بحق المرأة في تقديم إسهامها الخاص والمستقل في التعبير والسرد. ومثل هذا الحكم نجد صداه في أعمال الزيات اللاحقة، إن في التعبير الصريح الذي تطلقه في ثنايا قصصها، أو من خلال طبيعة السرد الذي تتوسله اسلوباً. ففي "الشيخوخة وقصص اخرى" 1986، كتابها القصصي الثاني بعد "الباب المفتوح"، نجد الكاتبة تطلق حكماً صريحاً على بداياتها. وردّاً على زميل لها يسألها عن إنتاجها الروائي، وكانت بداياتها واعدة، تعلق قائلة: "أتمتم بشيء غير مفهوم كما اعتدت ان أتمتم بعد ان تحوّلت البدايات الواعدة الى نهايات". وكيف لا تكون البداية الواعدة نهاية حينما ينقضي ربع قرن من الزمن قبل ان تتمكن الكاتبة من نشر عمل قصصي جديد، او حينما تجنح في "الرجل الذي عرف تهمته"، احدى قصصها الاخيرة، الى اسلوب من السرد تهكميّ وسوداوي، وفي كل الاحوال، مضاد تماماً لأسلوب "الباب المفتوح"؟