هذا الانسان الذي يغيب عنا اليوم هو من أبرز عطاءات أمتنا العربية للعالم. خدم عراقه بكل ما حصل من معرفة، كما كان نموذجاً مضيئاً لكل من عاصروه وصادفوه وأثرْوا توجهاتهم من حكمته. عصمت كتاني كان مرناً في تعامله، شجاعاً في مواقفه ودمثاً في اخلاقياته وسلوكه العام، يعطي من دون قيد، سخياً من دون حدود، قائداً من دون تبجح... جعل من التواضع رديفاً للعظمة. في الستينات اكتشفنا فيه ديبلوماسياً واعداً... وما كان منه إلا ان لبّى توقعاتنا منه وأكثر. ثم جاءت نكبة 1967، وكنا مجموعة من الذين تطوعوا في الوفود العربية نلتقي في شقته للتشاور والتعبير عن معاناتنا. وكان كعادته يحضنا على التفاؤل وألا نسمح للاحباط ان يستحوذ علينا. كان هذا الانسان الكبير بمثابة المرسى الذي حوّل القلق الى تصميم على تجاوز المحنة. منذ ذلك الوقت استمر في دوره ممثلاً لبلاده في الأممالمتحدة ورئيساً للجمعية العامة في احدى دوراتها، ومن ثم أميناً عاماً مساعداً ومستشاراً رئيسياً لجميع الأمناء العامين الذين عمل معهم. كان عصمت انساناً موثوقاً من كل من عرفه لأنه في حقيقة الأمر كان البوصلة التي تنير السبل للقرارات المستقيمة. في كل موقع تبوأه كان رائداً طليعياً. درَّب طاقماً من الديبلوماسيين العراقيين ما زالوا يعتبرون أنفسهم خريجي مدرسته. ولأنه كان مرجعية موثوقة سلمه بعض الأمناء العامين في المنظمة الدولية مسؤوليات هي من صلب صلاحياتهم... قاموا بهذا التكليف وعياً منهم ان أداءه في كل ما يقوم به سيكون اسهاماً مبدعاً لإرث الاممالمتحدة ولدورها. لذا أشرف عصمت كتاني على معظم المؤتمرات الدولية: الفقر، المرأة، البيئة، الإسكان وغيرها. فكان تكليفه مهمات التنظيم والإشراف بمثابة الضمان لإنجاحها إبان التشكيك الذي رافق هذه الندوات التي خططت لبرامج التنمية ومكافحة الفقر في عالم الجنوب. لو عرف عصمت ان ما نسجله هو حكم موضوعي على أدائه وعطاءاته التي لا تحصى لاعتبرها تجاوزاً للموضوعية المطلوبة وتحيزاً في غير محله. عصمت كان مستقيماً لدرجة انه ما شكك يوماً في استقامة من تعاملوا معه من رؤسائه أو مرؤوسيه. فالأمر عنده سيان، فلم يكن عنده كبير ينحني أمامه أو صغير يتكابر عليه.في سلوكه القومي كانت العروبة بالنسبة اليه انفتاحاً على التعددية... هذا العراقي من أصول كردية، رأى ان عروبة الهوية أنبل من ان تكون مشمولة في عرق، وان تمتع أي مواطن في الأقطار العربية بالمساواة حق وليس منّة، وان العروبة كما عرفها وعاشها هي التعددية ضمن الوحدة. هكذا مارسها كل حياته، فكان للأمة العربية مناضلاً فذاً، إذ كان صادقاً في التزامه مستشعراً بوحدة المصير ساعياً لدفعها نحو التنمية والديموقراطية وتوفير حقوق الانسان وحاجاته... كان من مهندسي مشروع النهضة المرغوبة. كم نحن اليوم جميعاً بحاجة الى وضوح فكره ودفء انسانيته ودقة تحليلاته وصلابة مواقفه. والآن، وفي الحال الراهنة، ليس لنا من تعزية سوى احياء سيرته في الذاكرة حتى تكون حياته المملوءة بالانجاز منارة للأجيال الساعية الى إدخال حقوقنا كأمة وكشعب في وجدان العالم كما فعل هو. مهما كتبنا عنه وقلنا فيه، لن نفي حقه علينا. كان بالنسبة الينا مرجعية هادئة وهادفة في الوقت نفسه. لذا نردد ما قلناه... ان عصمت كتاني جعل من التواضع رديفاً للعظمة. * مدير مركز دراسات الجنوب في الجامعة الأميركية في واشنطن.