لا يفوت المُحَلِّل للاستجابات القرائية المتعارضة إلى رواية صنع الله إبراهيم "تلك الرائحة" ملاحظة ذلك التذبذب الذي انطوى عليه موقف النقاد الكبار في السن من الذين ينتسبون إلى الأجيال الأقدم. وهو تذبذب يكشف عن نوع من تضاد المشاعر المتزامنة آنياً في اللحظة النفسية ذاتها، كما يكشف عن نوع من التوتر بين دوافع الإقبال أو الإدبار. ولا معوِّل - في هذا السياق- على غلبة الإدبار النفور أو الإقبال التشجيع، فالأهمّ هو ملاحظة تصادم الدوافع داخل لغة الاستجابة نفسها. وأتصور، ابتداءً، أن التذبذب الذي انطوت عليه استجابة سعد كامل المولود سنة 1923 لا يختلف، جذرياً، عن النفور الذي غلب على استجابة يحيى حقي 1905-1993. فالأول كتب في "أخبار اليوم" 26/2/1966 عن غرابة مشاعره المتضاربة في أثناء قراءة رواية "تلك الرائحة" التي لم يستطع تقبّلها، ولم يستطع رفضها، فقد جذبه "شيء ما" إليها، وأدرك أنها كتابة مختلفة لجيل مختلف: "لا تستطيع أن تفهمها، أو لم يستطع هو أن يفهمها لك". وصوغ الجمل نفسها في مقال سعد كامل عن "الرواية" تكاد تتعادل فيها الدوافع المتعارضة، ولا ينجي الاستجابة الغالبة من الجنوح إلى الرفض إلا هذا الشيء الغامض الذي جذب سعد كامل إلى الرواية، لعله ذكريات السجن، أو بقايا تمرد قديم، أو رواسب رماد من جمر لم يكن فقد حرارته بعد. والنتيجة هي نوع من التعادل في الموقف القرائي لقصة قد لا يفهمها القارئ، وقد لا تستطيع هي- بوصفها ممثلة لكتابة جيلها- أن تفهم القارئ. وأيا كان الأمر فهي تستحق التشجيع لأنها حرّكت ما كان كامناً، وأنطقت المسكوت عنه من الكلام غير المباح. أما يحيى حقي فإنه لم يترك نفسه طويلاً للتذبذب، بل قاومه، وحسم أمره على الرفض متمسكاً بما سماه "حدود" الكتابة، لكنه مع ذلك كله لم يفته الاعتراف ببراعة القصة، وإعلان أنه لا يهاجم أخلاقياتها. وهنا، مرة أخرى، يتجاور النفور الغالب مع الإعجاب المقموع، وتتوتر دوافع الإقبال والإدبار، كما حدث في حال سعد كامل، لكن تغلب دوافع الإقبال على سعد كامل الذي لم تخل استجابته من تعاطف له أكثر من وجه، وتغلب دوافع الإدبار على يحيى حقي الذي وجد في الرواية - على رغم إعجابه ببراعتها - ما يمثل نقضاً جذرياً لطريقته التي اعتادها في الكتابة، وللأعراف التي تربّى عليها ذوقه الأدبي، واستقرت عليها معاييره الأدبية، تلك المعايير التي تحالف الجذري من كتابات الستينات العربية مع الجذري من الكتابات العالمية على تقويضها واستبعادها من صدارة المشهد الإبداعي المحلي والعالمي. وأتصور أن محمود أمين العالم المولود سنة 1922 لا يختلف جذرياً في استجابته إلى "تلك الرائحة" عن تذبذب أبناء جيله من أمثال سعد كامل المولود قبل العالم بسنة واحدة، أو الجيل الأقدم منه الذي يمثله يحيى حقي الذي يكبر محمود العالم بسبعة عشر عاماً على وجه التحديد. لقد أعجب العالم بالرواية فنياً، وتعاطف مع احتجاجها إيديولوجيا، ولكنه لم يستطع أن يمضي مع إعجابه وتعاطفه إلى النهاية. فالصور الجنسية المكشوفة صدمته، والمشاهد المنفرة نأت به عن استجابات التشجيع التي أبداها أمثال يوسف إدريس وصالح مرسي وإسماعيل المهدوي والكتّاب الشباب الذين اتصل بهم صنع الله واتصلوا به، ولم يترددوا في إظهار إعجابهم بالرواية على نحو ما فعل غالب هلسا وإبراهيم فتحي وجمال الغيطاني وغيرهم من شباب الكتاب الموزعين بين التجمعات اليسارية المختلفة، والذين سرعان ما جمعتهم مجلة "غاليري 68". لم يكن محمود أمين العالم مثل هؤلاء المتمردين الصغار، ولا تكوينه مثل تكوينهم، ولا ذوقه الأدبي مثل ذوقهم، فظل أسير حكمة الكبار، موزعاً بين الإعجاب والنفور: الإعجاب بالآفاق الكتابية التي يمكن أن يتعاطف معها أو يتحمس لها، والنفور من الانقطاعات الأدبية الجذرية أو التجاوزات الإبداعية التي لا تقع في دوائر التعاطف أو التحمس. ودليل ذلك في حال "تلك الرائحة" مقالان نشرهما العالم في مجلة "المصور" تحت عنوان "صور وحواديت من بيروت". اذ يتعرض في المقال الثاني "جولة بين حوانيت الفن والأدب" عدد 20/5/1966 لرواية صنع الله إبراهيم، ضمن نقاشه مع المستعربة السوفياتية إيلينا ستيفانوفا التي ترجمت الكثير من الأدب العربي المعاصر، واهتمت اهتماماً خاصاً بحركة الكتابة الطليعية الجديدة في مصر. وتقول إيلينا لمحمود العالم "أنت تمسك للأدباء عصا في يدك وأنت تكتب عنهم". ويبدو أنها كانت تشير إلى ما عرف عنه من بعض التحيز الأيديولوجي الذي جعله يعلي من قيمة أعمال محمد صدقي في تقديم مجموعته "الأنفار" صدرت عن دار سعد في القاهرة سنة 1956 التي رأى فيها إيذاناً بصعود أدب الطبقة العاملة التي برزت قياداتها المستنيرة، وكان ذلك في الوقت الذي وقف العالم موقفاً متصلّباً ضد الفلسفة الوجودية على رغم طابعها التمردي، وتقاربها - في كتابات سارتر تحديداً - مع الماركسية في غير جانب، كما كان ذلك، أيضاً، في الوقت الذي هاجم العالم سلبية توفيق الحكيم في نظرته إلى الزمن، كما هاجم ما سماه عدم استيعاب طه حسين الواقع الحي في "دعاء الكروان"، ووسم إبراهيم المازني بالسلبية في أعماله الروائية، وأضاف العالم إلى ذلك اتفاقه مع رفيق عمره عبدالعظيم أنيس المولود سنة 1923 في اتخاذ موقف سلبي من كتابات نجيب محفوظ الذي أطلق عليه كتاب "في الثقافة المصرية" الذي أصدره العالم وأنيس عن دار الفكر الجديد في بيروت سنة 1955 كاتب البرجوازية الصغيرة، المعبّر عن مأساتها والغارق في دوائرها المغلقة. وأحسب أن ذلك التحيّز الإيديولوجي كان وراء نقد بعض الماركسيين المغايرين لما رأوه "دوجماطية" في كتابات العالم وأنيس في هذه المرحلة، وذلك على نحو ما فعل كمال يوسف الاسم الحركي للمرحوم أبو سيف يوسف في مقاله "نقادنا الواقعيون غير واقعيين" الذي نشر في مجلة "الرسالة الجديدة" في عدد أول حزيران يونيو 1956، وهو النقد الذي دفع المستشرقة السوفياتية إلى اتهام العالم بأنه يمسك للأدباء عصا الإيديولوجية في يده وهو يكتب عنهم. ولا تكتفي المستشرقة المتحمسة للكتابات الطليعية العربية بذلك، بل تسأل العالم - في سياق هذا الاتهام - عن رأيه في رواية جديدة ظهرت في مصر باسم الرائحة للأديب صنع الله إبراهيم، فقال لها العالم: "إن بها محاولة جديدة في التعبير، وإن غلبت عليها بعض الصور الجنسية المكشوفة". وكان من الطبيعي أن تعترض إيلينا الأكثر تعاطفاً مع جذرية كتابة جيل الستينات، وتسأله: "وهل هذا التصوير الجنسي يدينها.. ألا تعرف أن كاتباً يابانياً تقدّمياً كتب رواية مطولة تكاد تصور بعض التجارب الجنسية تصويراً تفصيلياً؟!". ويرد محمود العالم بالأسلوب المتوقع منه في تلك المرحلة، مؤكداً أنه ليس ضد التصوير الجنسي في الأدب. "ولكن المهم أن نحسّ بضرورته وبمنطقه داخل العمل الأدبي، نجيب محفوظ مثلاً... إن الثلاثية مملوءة بالجنس.. عبّر عنه تعبيراً رفيعاً". ولكن المستعربة الشابة ترفض هذه الإجابة، مؤكدة نسبية القضية وموضحة "أن بعض النقاد في الاتحاد السوفياتي يأخذون على بين القصرين مغالاتها في الجنس"، وأن أحد النقاد الماركسيين المحافظين قال لها إن هذه الرواية "جديرة بأن تسمى بين... لا بين القصرين". ويراوغ العالم بالموافقة على أن مسألة الجنس يختلف تقبّلها من مجتمع إلى مجتمع، ومن تراث إلى تراث، مدللاً على ذلك بأن في الحياة المصرية تعابير جنسية تمتلئ بها النكتة العادية مثلاً. ولكننا في الكتابة لا نبتذل، ولا نتجاوز الحد... ولا نقبل المصارحة التي تثير الخجل أو القرف. وعندما يلفته الناقد الروسي أناتولي بوتشاروف إلى إمكان أن تتضمن "تلك الرائحة" - على رغم طابعها الجنسي - احتجاجاً اجتماعياً، يجيبه العالم بالموافقة، مؤكداً أنها رواية "ترفض الحياة البورجوازية، وتحتج عليها ببعض الصور الجنسية، والتعابير المبتذلة. ولكن.. لعلها تصور جانباً واحداً من الحياة". ولم تجاوز استجابة محمود أمين العالم في هذا الإطار نطاق تذبذب جيل الآباء، وإن لم يكن حاسماً قاطعاً مثل يحيى حقي، ربما بسبب طبيعته المجاملة، وتحيزاته الإيديولوجية، لكنه - وهذا هو المهم - عاد في مرحلة لاحقة من ممارسته النقدية إلى كتابات صنع الله إبراهيم، بعد أن ازدادت رحابة أفقه النقدي في إطار المنظور الواقعي الذي لم يتخل عنه، فأصدر كتابه المتميز "ثلاثية الرفض والهزيمة". وهو دراسة نقدية لروايات تلك الرائحة، ونجمة أغسطس، واللجنة، كتبت في أواخر سنة 1979، ونشرت كتاباً من "دار المستقبل" في القاهرة سنة 1985. وفي هذه الدراسة تبدو "تلك الرائحة" من منظور مختلف، منظور صاغه العالم تحت وطأة المد البنيوي اللغوي، والتوليدي وتحدياته النقدية، بل أدواته المنهجية التي تسربت إلى كتابة العالم عن ثلاثية صنع الله، وجعلته أكثر تعاطفاًً مما كان عليه من قبل إزاء رواية "تلك الرائحة" التي جعلها الجزء الأول من ثلاثية روائية لا تفارق أفق السيرة الذاتية. ولا تمر على العين المدققة أن الرواية لم ترد عنها كلمة أو صفة سلبية واحدة حتى لمشاهد الجنس التي سبق للعالم أن أبدى نفوره منها. وفي ذلك، فضلاً عن إفادة العالم من النقد البنيوي، ما يؤكد قدرة هذا الناقد الكبير على التطور والمراجعة الذاتية، الأمر الذي تؤكده حيويته الاستثنائية وانجازاته الأصيلة المتصلة. وعلى أي حال، فقد كان تحول موقف محمود العالم في ذاته يعني تبدل استجابات النفور، وتحول الاستجابات المذبذبة نفسها من قطب الإدبار إلى قطب الإقبال، فيتسع أفق الاستقبال أمام الرواية، وتتوالى الكتابات عنها على نحو لافت منذ أواخر الستينات إلى اليوم، خصوصاً بعد أن صدرت الطبعة الكاملة للرواية التي عانت طبعتها الأولى من المصادرة، ومن مقصات الرقباء الرسميين وغير الرسميين، بعد شهر واحد من صدورها، وظلّت كذلك لسنوات طويلة إلى أن صدرت من دون حذف في ثلاث عواصم عربية سنة 1986: عن دار شهدي في القاهرة، ودار شهدي السودانية في الخرطوم، ودار قرطبة في الدار البيضاء.