العارف بتفاصيل الحركات بل الثورات الطالبية - السياسية العنيفة في اليابان في الستينات لا يسعه إلا ان يدهش لضحالة الثقافة السياسية لشباب اليابان اليوم وانتشار اللاإكتراث الكامل بينهم. وتبرز أصداء الأحداث الأخيرة في الأوساط الشبابية اليابانية هذا الأمر بوضوح، كما تبرز ان الجيل الجديد وعلى رغم دخوله ظاهرياً وتقنياً في عصر العولمة الا انه لا يزال يحتفظ بذهنية شعب يعيش على مجموعة من الجزر المنعزلة في أحد أطراف العالم. اختلفت زميلتان يابانيتان لي في الجامعة من حيث الرأي في ما يخص أسامة بن لادن. ولكن لم يكن خلافهما ايديولوجياً، أو ربما كان، وعلى كل اليكم التفاصيل: الزميلة الأولى صرحت باعتقادها ان بن لادن وسيم جداً، فخالفتها الثانية بشدة وقالت: "أنا أحب الرئيس الايراني لأنه يبدو نظيفاً، أما بن لادن فقذر الهيئة". فسارعت الأولى الى نفي ذلك قائلة: "انظري جيداً الى الصورة. معك حق ان لحية بن لادن طويلة زيادة عن اللزوم، ولكن ثيابه بيض ونظيفة". وهكذا تبدو النقاشات الدائرة حول شخصيات الأزمة وكأنها تجاذب لأطراف الحديث حول ابطال مسلسل جديد. وبالفعل فإن التلفزيونات اليابانية عاملت الموضوع بالشكلانية التي تعامل بها أي برنامج ترفيهي. فمثلاً كرر الكثير من القنوات الفكرة ذاتها، وهي نصب "نموذج" عن بن لادن من الورق المقوى بالحجم الطبيعي ثم ايقاف مذيعة يابانية ناعمة وقصيرة بجانب النموذج لإبراز حجمه الضخم وطوله الذي يبلغ 193سم!. أما على شبكة الانترنت فيختلف ما هو مطروح تبعاً للمكان. في موقع "طوكيو كلاسيفايد" للاعلانات المبوبة علقت فتاة يابانية الأسبوع الماضي الإعلان الآتي في زاوية اعلانات التعارف: "أنا آسفة من كل قلبي على ما حدث لأميركا، وأبحث عن "بوي فريند" أميركي أشقر وأزرق العينين ويزيد طوله عن 180 سم" من اللطيف منها ان تقبل بمن هو أقصر من بن لادن. أما في المواقع الأخرى الأكثر جدية فيمكن العثور على وجهات نظر مثيرة للاهتمام. وبما ان اليابانيين كمجموعة عرقية لا يعدون لغاية الآن أحد الأطراف الأساسية في ما يحدث فإنه يمكنهم رؤية الأمور من منظار مختلف عن كل من الأميركيين والأوروبيين من ناحية والعرب والمسلمين من ناحية أخرى. على أحد مواقع التحادث عن المواضيع الثقافية والفنية ضمن شبكة "أساهي نت" كتبت موظفة في شركة يابانية للانتاج الإعلامي زارت لوس انجليس أخيراً تعليقاً بعنوان "أميركا تشتعل بحب الوطن" وضمنته ملاحظات حول تصرفات الأميركيين التي "صعقتها" لما فيها من دماثة ولطف. أحد الاختلافات الرئيسة التي يكثر الحديث عنها بين الشخصيتين اليابانية والأميركية هي الدماثة والإحساس المرهف بالآخرين على الجانب الياباني، في مقابل الأريحية الأميركية الكاملة والتي تصل أحياناً الى حد الجلف. وإذ يكثر الجدل بين هواة النعوت الثقافية عن محاسن كل من الشخصيتين ومساوئهما، فإن ركوب عربة قطار يابانية في ساعة الحشر حوالى الثامنة صباحاً ورؤية الركاب اليابانيين المكدّسين بهدوء تعطي فكرة عن الشخصية اليابانية المذكورة. أما إذا حدث أن صعد راكبان أميركيان الى العربة ذاتها فإن النتيجة في بعض الأحيان هي أرتال من الوجوه اليابانية الممتعضة في أثناء الاستماع الجماعي واللاطوعي لمحادثة جهورة باللغة الانكليزية تصدح في أرجاء المقطورة على طول الطريق. الموظفة اليابانية المذكورة ضربت مثلاً على ما حدث لها في لوس انجليس وهو انها في أثناء قيادتها سيارتها المستأجرة في شارع فرعي وصلت الى ثغرة للدخول في أحد الطرق الرئيسة الكبيرة، وأخذت تحضر نفسها للمأزق الذي تعرضت له في المدينة ذاتها عشرات المرات من قبل وهو عسر دخول الطريق الرئيسة لندرة من يتيح المجال بين السائقين الذين يبدون وكأنهم في حلبة سباق. إلا انها في مثل تلك اللحظات في أثناء الزيارة الأخيرة فوجئت بلباقة غير معهودة من طرف السائقين الأميركيين الذين توقف الكثير منهم لإعطائها فرصة للدخول مع ايماءة مهذبة بالرأس. تلك وغيرها من المواقف التي جعلتها على ما يبدو تشعر وكأنها على باب مصعد في طوكيو في لحظة الدخول التي يصر كل ياباني على الآخر ل"يتفضل" أولاً اصابت الفتاة بنشوة لم تتمالك فيها نفسها إذ قالت: "في الواقع قد أكون سعيدة لما حدث في أميركا"، مما سبب لها بالطبع الكثير من الانتقادات القاسية من المستخدمين الآخرين للموقع. وربما يصعب على العرب والمسلمين ملاحظة هذا التغير في الشخصية الأميركية والذي قد يكون موقتاً وناتجاً من مرحلة لعق الجراح الحالية، إذ ان الكثير من أفراد الجاليات المذكورة مشغولون بتحضير خطط سرية للخروج لشراء حاجاتهم الضرورية من دون التعرض ل"دماثة" أميركية قد تأتي في لبوس زجاجة فارغة أو دعوة صريحة للعودة الى رعاية الجمال في الصحراء العربية. وبهذا المعنى تأتي وجهة النظر اليابانية مغايرة ومثيرة للاهتمام، ولا شك في ان فيها جانباً من الصحة. وبالطبع يوجد بين الشباب الياباني من هو مهتم ومتابع للتطورات السياسية عن كثب. ويبقى الوصف بالجهل المطبق لأمور الشرق الأوسط صالحاً للإطلاق على الغالبية العظمى من الفئة الناشطة سياسياً أيضاً. ولكن من ناحية أخرى فإن التيارات الإنسانية كمناهضة الحرب والتحرك لمساعدة المتضررين المدنيين منها تطغى على مواقف تلك الفئات ونظرتها الشمولية الى الوضع. ويلاحظ غياب مجموعات شبابية متطرفة تنادي بمبدأ "اضربوهم على رؤوسهم" توازي نظيراتها في الدول الغربية، ويرجع ذلك الى طبيعة الجماعات اليمينية المتطرفة هنا والتي من المستبعد ان تهلل للتحركات العسكرية الأميركية. ويتفق اليابانيون من جميع الأجيال على رفض مقارنة تفجيرات أيلول سبتمبر في نيويورك وواشنطن بالهجوم الياباني المباغت والمدمر على ميناء بيرل هاربور في أثناء الحرب العالمية الأولى، ويتكرر القول بظلم ذلك التشبيه نظراً لأن الهجوم الياباني استهدف موقعاً عسكرياً وليس مبنى يمتلئ بالمدنيين. ويذهب الكثير من اليابانيين الذين أتكلم معهم الى القول إنه من الأجدر مقارنة هجمات أيلول بإلقاء الأميركيين قنابل ذرية على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين عام 1945 والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من المدنيين. وقد عبر عن وجهة النظر ذاتها عمدة طوكيو ايشيهارا شينتارو الذي لا يأبه بما تثيره تصريحاته من جدل. كما يربط غالبية من يناقشون معي الوضع الراهن، ما حدث في نيويورك بالوضع في الشرق الأوسط والممارسات الأميركية هناك. إلا ان وجهتي النظر الأخيرتين لا تصدران الا عن أشخاص تجاوزوا مرحلة الشباب. أما من هم في مقتبل العمر فتنحصر آراؤهم السياسية إن وجدت بأنه من الأفضل عدم القيام برحلات سياحية الى مصر هذه السنة، إضافة الى ملاحظة بيرل هاربور الآنفة الذكر والتي ربما يحضرها الى الواجهة الفيلم الأميركي الذي يصور الهجوم الياباني الشهير والذي انتهت الصالات من عرضه أخيراً. ويدعو ذلك للأسف، ليس دعماً لرأي معين ضد آخر، وانما لغياب الوعي السياسي لأبناء الفقاعة الاقتصادية اليابانية، والذي يدفع الى التساؤل عن أمور أوسع تتعلق بمستقبل الحياة السياسية في البلاد ككل.