حتى سن السادسة او السابعة يتوهم الطفل انه سُرّة الكون فلا يعير اهتماماً يذكر لحقائق الواقع. حسبه اوهامه عن نفسه وعن العالم… ثم شيئاً فشيئاً يعترف بالواقع المُحيط. بعض الراشدين يفشلون في تجاوز طور المركزية الذاتية الصبيانية، وتالياً في الانتقال من تمجيد الذات الى نقد الذات. هذه هي حالنا جمهوراً ونخبة. احد اعراض هذا الداء العضال موقفنا من العمليات الانتحارية خاصة في نيويورك وواشنطن. بعد 11 ايلول سبتمبر شرعت نخب الغرب تسائل مسلماتها وتعيد النظر في قناعاتها بحثاً عن الاختلالات السياسية، الاقتصادية، السيكولوجية والقيمية التي قد تكون سبباً في ما حدث، محاوِلة تقديم تصور عن عالم مختلف تقريباً في كل شيء… الا نحن. فما زلنا مصرّين على اننا ضحايا ابرياء وابديون… عجزاً منا عن وضع انفسنا موضع العالم الذي نحاربه بإرهابنا ونحتج على احتجاجه علينا ونخاف من تخوفه المشروع منا. حسبنا زلّة لسان من مثقف او حاكم غربي لنملأ الدنيا صراخاً ومطالبة بالاعتذار والتعويضات السياسية والرمزية… اما الخطابات العنصرية التي يتقيؤها اعلامنا على مدار الساعة، واحقادنا البدائية على الآخر، وانتهاكنا اليومي للقيم الانسانية، واستهتارنا الصفيق بحقوق الاقليات والنساء والاطفال والعمال المحرومين من حق التنظيم والاضراب المعترف لهم به في العالم، والخادمات اللواتي يُعاملن في معظم بلداننا معاملة الرقيق… فهي ممارسات لا غبار عليها في عالمنا العربي والاسلامي الذي هو افضل العوالم الممكنة… عنفه جهاد وقتلته ابطال وانتحاريوه شهداء… من دون ان نسأل انفسنا لماذا تفوقنا، نحن المتخلفين في كل شيء والمصرّين على عدم تقليد اليابان في قفزتيها النوعيتين من القدامة الى الحداثة ومن الفاشية الى الديموقراطية، على اليابان الغاشية في صناعة الكاميكاز التي لا نُحسد عليها؟ نعم تفوقنا على الكاميكاز الياباني الوثني كميّاً ونوعياً. كان يؤمر بالانقضاض بطائرته على السفن الحربية الاميركية وفي رأسه امر واحد: "لا تعد حياً". اما انتحاريونا فيفجرون انفسهم وسط المراهقين اليهود المصطفين امام مرقص وينقضّون بطائرات ركّاب خطفوها على آلاف الابرياء في نيويورك وواشنطن وترقص الجماهير لمآثرهم وتُحيي النخب بطولاتهم ويصلي الكثيرون على ارواحهم الطاهرة. سأسبح ضد التيار لاقول الحقيقة سافرة: جميع الانتهاكات المذكورة لحقوق الانسان والمواطن الآخر… هي بنت التعصب الذي ننتجه ونعيد انتاجه الموسع في تعليمنا واعلامنا. فما هو تعريف التعصّب؟ هو باختصار قدرتنا الجبارة على النحر والانتحار لنصرة افكار الامة التي آمنّا بها على غرار كهنة ايزيس الذين كانوا يدخلون في هذيان مقدس فيجرحون انفسهم وغيرهم لحل الصراعات النفسية التي انفجرت في داخلهم كالبركان. المتعصب مدمن على الموضوع يتعصب له، وكأي مدمن يستعصي على الفهم. التعصب والارهاب تؤامان ملتصقان، فما هي ملامح ودوافع التعصب؟ * النرجسية التي تنصّب مركزية الأنا الفردي او الجمعي فوق باقي الانوات رفضاً للاعتراف بالواقع كما هو. في الواقع، النرجسي المتعصب عاجز عن الاعتراف بالواقع لأن ذلك يتطلب منه الاعتراف بالآخر وبالتبعية له. التنكر للواقع هو سبب الهذيانات النرجسية، هذيان العظمة واحتقار الآخر الذي تسقط عليه الذات جميع مثالبها وكل ما هو محتقر فيها. وفي المقابل تتشبّه الذات بكل الفضائل. تحقير الآخر ضرورة لمسخه الى "فرقة شريرة" جديرة بالكراهية والاستئصال. كل معارضة للذات، بل مجرد المغايرة لها، يحياه النرجسي المتعصب كجرح نرجسي اي كتخريب لا يغتفر للثقة بالذات، كخصاء. * عبادة الاب الاجتماعي: الزعيم او الامام او الشيخ المفتي. تقول النفسانية نيكول جاميه: "لا يوجد تعصب من دون زعيم. لأن التعصب يلبي حاجة المتعصب للتبعية الطفولية: الانسان الخاضع للتبعية بحاجة الى الاتكال على شخص قوي، على سلطة لتحقيق رغبته في الجبروت والحماية في آن". * كراهية الفرد: يكره المتعصب الفرد كراهية النقيض لنقيضه المباشر. الفرد تحرر من الحاجة الى الحماية الابوية: فقد غدا راشداً قادراً على تقرير مصيره بنفسه واختيار قيمه باستقلال عن مجتمعه خاصة التقليدي الذي يمحو الفرد محواً كما يقول طه حسين، فيما ينصّب المتعصب نفسه مدافعاً بالظفر والناب على كل ما هو تقليدي وشمولي وجماعي. "المتعصبون، يقول النفساني تييري دو سوسور، كجميع الاشخاص ذوي الهوية الضعيفة يجدون في الجماعة دواء لشعورهم بالدونية"، وفي اساطيرها الكبرى المتعالية على الفرد مثلاً اعلى لهم: "حبي للانسانية جمعاء، يقول الفوضوي الروسي الامير كروبوتكين، لم يترك فيّ متسعاً لحب شخص معين". اما الفرد فمنغرس في اليومي، في العابر، في ما هو في متناول اليد، لا تستهويه الاحلام الكبرى ولا الترحال التخييلي بحثاً عن الجنة الضائعة او العصر الذهبي. * عداء الحداثة. يعادي المتعصب الديني الحداثة بما هي مواطنة وحقوق انسانية تساوي بين الجنسين وبين جميع الاجناس وتجعل من الديموقراطية شرطاً شارطاً لشرعية الحكم… وهي جميعاً قيم يحياها المتعصب كعدوان على سبب وجوده، هو الذي لا يستطيع البقاء الا بتفضيل عرق على عرق وثقافة على ثقافة ودين على دين وجنس الرجل على جنس المرأة التي لا يتصورها الا قاصرة ابدية، سجينة في دور الام… وكذلك تفضيل الثيوقراطية على الديموقراطية. لماذا يفضل المتعصب دينياً الدولة الدينية على الدولة المدنية الديموقراطية؟ يجيب النفساني جاك سيدات "لأن الديموقراطية تتميز بفراغ السلطة، بغياب الزعيم، وتفضل التفاوض، النقاش والانتخاب. خطيئتها انها ترغمنا على التفكير، على تحمّل مسؤولياتنا". وهي جميعاً مكروهة كراهية رُهابية من المتعصب المصاب بالجمود الذهني، اي العجز عن وضع النفس موضع الآخر لفهم موقفه، وعن الحوار العقلاني وعن الاعتراف بالتعددية والتعايش السلمي بين المتناقضات. * محاربة النسبية التي تكذّب الثقافات التي تعلن قيمها الخاصة قيماً عامة ومطلقة وعابرة للتاريخ، اي صالحة لجميع الناس ولجميع الامكنة وجميع الازمنة. "المتعصب، يقول جاك سيدات، يطلب اليقين المطلق كيما يتجنب التفكير، لأنه اذا ما فكّر فقد يجازف بالوقوع في الخطأ. في الدين النص هو الذي يفسرنا وليس لنا الحق في تفسيره" لملاءمته مع متطلبات الزمان والمكان وحاجات معتنقيه المتغيرة بتغيّر الازمنة والامكنة. يضيف النفساني المذكور: "التعصب الديني موجود في الانحرافات الدوغمائية لجميع الاديان وبصورة عامة جميع الانساق الفكرية التي تعفينا من التفكير وتشوّه التاريخ وتشوهنا نحن كذات مفكّرة". وبسبب ان التعقيد اصيل في الظواهر بات من الصعب، في العلوم الحديثة، التمسك بيقين فوق كل شك. بل ان الشك والشك في الشك هو القاعدة لا الاستثناء. اما المتعصب فلا يعرف الشك اليه سبيلاً فهو "يعرف اين الحق واين الباطل ومن هم الاخيار ومن هم الاشرار" كما تقول نيكول جاميه. لا يشعر بأي قلق امام الاقدام على اي خيار حتى لو كان انتزاع الحياة من الابرياء، خصوصاً اذا كان مسنوداً ب"فتاوى العلماء" التي تقيم له جسراً الى النخبة بجثث ضحاياه التعساء! * الحماس الهاذي للحرب الدينية. لأنها الحرب الانسب لتحرير غريزة الموت من جميع الكوابح الاخلاقية وتحويل القتل من جريمة شنيعة الى جهاد في "دار الحرب" واستشهاد في سبيل الله… كتاب النفساني سيزون نوف "اقصى اليمين على اريكة التحليل النفسي" يساعد في العثور على جذور الارهاب في "غريزة الموت" المتفجرة لدى الانتحاريين الاسلاميين اليوم كما كانت متفجرة بالامس لدى الكاميكاز اليابانيين والفاشيين في الثلاثينات… بالامس كان النحر يقع باسم نقاوة العرق واليوم باسم نقاوة الهوية الدينية. الدين مجرد تبرير واهٍ لتجفيف الضمير الاخلاقي واستحلال القتل. شريعة المتعصب الحقيقية هي شريعة الغاب حيث القتل بالجملة والمفرق هواية شيّقة، والتحريض على القتل واجب ديني لبعض "العلماء". لمحض الصدفة نشرت الاسبوعية الاسلامية "التجديد" لسان الاسلاميين المغاربة "المعتدلين" الذين لهم 13 نائباً في البرلمان يوم 12/2/2001، اي غداة "استشهاد" الانتحاريين في اميركا، فتوى بعنوان "الشهيد" ل"العلامة" عبدالباري الزمزمي الذي يتحف قراء "التجديد" منذ سنوات بفتوى اسبوعية. بعد الاعترافات المثيرة لعميل سري مغربي عن كيفية قتل اوفقير للمهدي بن بركة اخذت الصحافة تتحدث يومياً عن "الشهيد بن بركة". لوضع الامور دينياً في نصابها الصحيح كتب العلامة في فتواه: "… فكيف يكون شهيداً من كان قتله مشروعاً بغض النظر عمن قتله"، مضيفاً: "فإنه لو امكن قتله ثلاث مرات لكان ذلك واجباً في شرع الله"! من دون تعليق.