اقتصر قرار اتهام القاضي حاتم ماضي، رئيس محكمة الجنايات في جبل لبنان، في قضية جرود الضنية وما سمي "خلايا القاعدة" راجع "الحياة" في 18 و19 و20 و21 أيلول/ سبتمبر 2001، على تناول المتهمين، "أبطال" الحادثة الدامية التي أودت بثلاثين قتيلاً تقريباً في الليلة الأخيرة من عام 1999 والأيام الأولى من العام 2000، من غير تفصيل الرواية أو الخبر. فمر قرار الاتهام بمن تناولهم، وتعقب علاقاتهم وأفعالهم ولقاءاتهم، مروراً سريعاً، إذا استثني "أولهم" و"أميرهم" بسام الكنج، المعروف ب"أبو عائشة". وهذا القليل، الشخصي والفردي الذي دونه القاضي حاتم ماضي يدور معظمه على سن المتهمين ويكاد يختصر فيه. ويشير السن الى "ظاهرة أجيال"، أي الى دور علاقة الجيل الفتي بالجيل الذي سبقه، ويكبره بنحو عشرة أعوام الى خمسة عشر عاماً، في نشأة الجماعة السياسية والدينية هذه، وربما في نشأة غيرها من الجماعات التي تشبهها. وقد تكون سيرة بسام الكنج نفسه مثالاً على دور السن في نشأة جماعات الناشطين، وتبلورها وامتدادها، وأخيراً في خروجها الى العلن وارتكابها ما لا عودة عنه، واستماتتها في دعوتها. فبسام الكنج، المولود في 1964 والمقتول عن 35 - 36 عاماً، شأن محمد عطا، المتهم المصري بقيادة المجموعات الأربع التي قادت طائرات 11 أيلول الاميركية الى الموت، تقريباً، ابن اسرة والديه البكر. وتعد اسرته سبعة أخوة أشقاء. فهي، على هذا، أسرة كبيرة أو عشيرة صغيرة. وكثرة الأسرة تبعث على "البطرقة" أو على الترؤس والتسود والمشيخة. ولما بلغ بسام الكنج التاسعة عشرة، في 1983، توفي والده، وترك لبكر أولاده أبوة الأسرة الكبيرة، ومعظمها من الفتيان الذكور خمسة من السبعة، فكان على بكر الأسرة أن يرث، وهو لم يبلغ العشرين بعد، رئاسة الأسرة. وكان الشاب اليافع اختار التعليم المهني طريقاً الى التأهيل فالعمل. فأفاد من منحة دراسة في الولاياتالمتحدة الاميركية، في 1984. وهو عام انعطفت فيه حياة اللبنانيين السياسية والاجتماعية والشخصية صوب اضطراب وتمزق شاملين داما ما لا يقل عن سبعة أعوام. وكانت منح مؤسسة الحريري في الأعوام تلك، ووزعتها المؤسسة بالآلاف ومن غير تشدد في الشروط ولا تحفظ، مخرجاً مادياً وجغرافياً لجأ اليه الشباب غير مترددين. فسافر بسام الكنج الى بوسطن وهو في الحادية والعشرين. وأقام مع زملاء البعثة، وهم "أسرته" في المهجر، والحضن البلدي والأهلي الذي ينوب عن عشيرته ويشبهها، على الأرجح، شبهاً قوياً. فلم تمض سنة واحدة على اقامته هناك حتى تزوج فتاة اميركية. وحملها شبهها بزوجها، وإعجابها به، وتسليمها اليه، على اعتناق دينه وايمانه. وفي الخامسة والعشرين ولدت للزوج المهاجر والطالب بنت سماها عائشة، وأراد أن يُعرف بها، وأن يكنى بأبوته لها، على رغم انه رزق بصبيين هما أحمد وهو عرف كذلك بكنية "أبو أحمد"، والأرجح انه أحل كنيته الذكرية محلاً ثانياً. ولم يكن جاز عتبة الثلاثين من العمر حتى كان "يتربع على رأس أسرة من خمسة أولاد، وهو المهاجر والمضطرب الاقامة بين مضافات بيشاور، على الحدود الأفغانية والباكستانية، وبين ساحات القتال الأفغانية الى 1989، عام انسحاب القوات السوفياتية من أفغانستان وجاليات الطلاب العرب المسلمين في المدن الاميركية. وهذا النمط من الحياة المتنقلة والمضطربة ينشده فتيان وشبان يقال فيهم انهم "لم يستقروا" بعد، ويثقل عليهم "استقرارهم" وتبعاته من زواج وعمل وإعالة والاضطلاع بدور اجتماعي ثابت. ولكن حياة "أبو عائشة، وأمثاله هي على نقيض هذه الصورة عن الاستقرار. فهم يجمعون بين التنقل والسفر واللقاءات المتجددة والاقامة العابرة وبين الدور الواضح والثابت والمتغير في آن، وذلك بحسب المهمات والخبرة والدراية. ويستجيب الجمع بين وجهي الحياة رغبة فتية في تأخير الرسو على مثال ودور اجتماعيين وربما فرديين ثابتين و"أبديين". فوسع "أبو عائشة" وأمثاله، وبسام الكنج ولد ونشأ وشب في بلدة من ضواحي طرابلس الساكنة إن لم تكن المطمئنة، وسعهم التنقل بين جهات العالم الواسع، والمشرَّع على أسفارهم واستقبالهم، أينما راحوا وحلوا، والتعرف على ناس آخرين يشبهونهم من وجوه كثيرة ويختلفون عنهم من وجوه أخرى. ولا ريب في أن التقلب بين البلاد والناس واللغات، سراً أحياناً وعلناً أحياناً، في "مهمات" يعرض بعضها صاحبها للخطر، ودوران الأسفار والمهمات على قطب رحى هو ساحات القتال والموت والنزوح بأفغانستان حيث يجبه "المجاهدون" قوة عسكرية عظمى انتهى بها الأمر الى الهزيمة عن يد الأفغان الخالصين، وليس "الأفغان العرب" على ما يتوهم ربما ابن لادن وأنصاره - لا ريب في أن "التقلب والدوران هذين يديمان نشوة الشبان باختيار حياة غنية هي صنو "جنة" ا"الحشاشين" الاسماعيليين في الجبال الايرانية ثم في الجبال السورية جبال السماق. وما يختبره الشبان في الأسفار والإقامة هو التعرف على من يقوم منهم مقام "الأخ" المتقدم خبرة وعلماً وجهاداً ومكانة، وتعرفهم على من يقومون منه هم، بدورهم، مقام الأخ المتقدم كذلك خبرة وعلماً. فلكل مريد، على قول الصوفية، شيخ. والمريد يرتقي الى مرتبة المشيخة. فتربط الأشخاص واحدهم بالآخر رابطة الحلقة بالسلسلة المتماسكة الحلقات والمراتب. ويؤدي هذا النوع من الرابطة الى تثبيت الأشخاص، ولا سيما القلقين منهم والذين يضيقون بتبعات حياة متواضعة ورتيبة وغير مجزية، على ولاء قوي ومكين لمن هم أكبر سناً وأقدم اختباراً وأعلى مرتبة، لا يلبث أن يتحول الى علة حياتهم. ويعج قرار اتهام قاضي محكمة الجنايات في جبل لبنان بأخبار اللقاءات التي يختبر فيها الشبان قدراتهم المختلفة، ويعجمون عيدان ايمانهم ومواهبهم وتأثيرهم بعضهم في بعض وسريتهم ومرتبتهم، تحت نظر جهة "ثالثة" غير مرئية تزن الناس بميزان المثال الاسلامي والألقاب الاسلامية تُظهر قوة الاحتكام الى الميزان هذا: فيصبح رياض المحمود والدته هناء "أبو جندل"، وعبدالله علي مرعب "أبو عمارة"، وجميل حمود والدته سميرة "أبو ذر"، ويزدوج الشاب ويرتقي الى مثال متخيل تام، فتتردد في القرار العبارة عن تعرف فلان على فلان في بيت ثالث، مرة أولى وثانية وثالثة، قبل أن يتوسم فيه الأهلية للمكاشفة والمفاتحة. فإذا توسمها فيه دعاه الى الدخول في الجماعة من أبوابها، باباً بعد باب، ومرحلة بعد مرحلة. والدخول في الجماعة يعني الارتقاء في معارجها ومراتبها، والتدرب على مباشرة أعمالها ومهماتها، تخفياً واتصالاً وتضليلاً للأعداء: "الدولة" وقتالاً، واستقامة اعتقاد أولاً وآخراً اعتقاد الأمارة الاسلامية في انتظار الخلافة "الكونفيديرالية". ولعل تنظيم الجماعة، عشية خروجها الى جرود الضنية، قرينة على ترتيب الأعضاء على جيلين، وعلى إرساء الرابطة بين الجيلين على فرق السن وما يفترضه الفرق هذا من دالة ومكانة، من جهة، ومن تسليم وانقياد وثقة، من جهة أخرى. ف"أمراء" المجموعات، ببيروت والبقاع وطرابلس وهذه تألفت من خمس مجموعات، كلهم من جيل العقد الرابع الثلاثينات، جيل بسام الكنج نفسه. فهذه حال خليل عكاوي 34 سنة إبان الحوادث على جماعة بيروت، وقاسم ضاهر 35 سنة على جماعة البقاع، وعبدالله هزيم 37 سنة على جماعة القبة بطرابلس، ومحمد خالد 37 سنة على جماعة أبو سمرا، وفواز النابلسي 39 عاماً على باب الرمل، الخ. وليس مقدَّم الجماعة أو الخلية أكبر الأعضاء سناً، على الدوام. ولكن متوسط سن الأعضاء يقل عن سن القادة والمقدَّمين. فخليل عكاوي، البيروتي على ما تقدم، يترأس على ايهاب البنا 25 عاماً ومحمد شانوحة 23 سنة وشادي عطوي 25 عاماً وعلي عبدالهادي 18 سنة، ويقرب سناً منه اثنان هما حسن نبعة 30 عاماً وجميل حمود 32 سنة. ولا يكبره إلا واحد هو هلال جعفر 38 عاماً، ترك جماعة بيروت الى الشمال. ويصدق هذا الترتيب في الجماعات الأخرى. فيتأمر عبدالله هزيم 37 عاماً على رضوان جباحنجي 27 عاماً وأحمد الدرج 24 عاماً وجهاد خليل 25 عاماً وعبدالله مرعب 23 عاماً ومصطفى حيدر 25 عاماً، الخ. ويتأمر محمد خالد 37 عاماً، وأستاذ الكيمياء الجامعي على خالد العمري 19 عاماً وعلى مجايليه سناً طلال الكيلاناكي 40 عاماً ويحيى الأسطا 37 عاماً وفواز عبيد 38 عاماً وعمر صوالحي 32 عاماً. وهذا القرب في السن بين المقدم وجماعته لا نظير له في الجماعات "القاعدية" الأخرى. وقد يكون محمد خالد خُص به بالقرب لتعويضه بالمرتبة العلمية والجامعية ما قد يخسره سناً. ويلاحظ فرق قريب من هذا في سن من عُرفت سنهم من انتحاريي الطائرات الاميركية التسعة عشر. فثمة بين هؤلاء كذلك من بلغوا العقد الرابع. أو أوشكوا على بلوغه، وهم محمد عطا 33 عاماً، وعبدالعزيز العمري 29 عاماً ومهند الشهري 28 عاماً وأحمد الحزناوي 33 عاماً. وتليهم فئة متوسطة نحو 25 عاماً، فمرتبة من بلغوا العشرين لتوهم، وهم أحمد الغامدي 21 عاماً وحمزة الغامدي 20 عاماً وسالم الحازمي أو الحمزة؟ 21 عاماً وأحمد النعمي 23 عاماً. وقد يقع الناظر في الجماعة على مراتب السن الثلاث هذه في القتلى العشرة الذين سقطوا في اشتباكات الضنية قبل سنة وتسعة أشهر وعرفوا وأثبتت هوياتهم من الخمسة عشر قتيلاً. ففي جماعة "المسنين" أربعة هم بسام الكنج وعبدالله هزيم وخضرو خضر وأحمد اليوسف أعمارهم بين 35 سنة و37. وفي جماعة "المتوسطين" 25 - 28 سنة أربعة كذلك. وقتل صلاح اللاذقاني وخالد العمري عن 18-19 سنة. ويظهر أثر فرق السن في نتائج أخرى ترتبت على الحوادث الدامية. فالفارون "من وجه العدالة" على قول المحقق العدلي معظمهم من فئة المسنين الذين قاربت سنهم الأربعين، وقلة منهم جازت هذه السن. وقد يكون هذا قرينة على علاقاتهم الكثيرة والمتنوعة والمديدة. ومن أخلي سبيلهم بكفالة على فئتين متساويتين فئة من يدخلون في 20 - 25 سنة، وفئة من تدور سنهم على الثلاثين. وتتضافر هذه القرائن، مجتمعة، على إبراز دور السن في الدخول في الجماعات "الجهادية"، وفي التدرج في مراتبها، وتولي من هم أكبر سناً، بفرق لا يزيد عن 10 - 15 سنة، الولاية على من يصغرونهم أو تسليكم في سلك الجماعة، على حد قول الصوفية كذلك، وتأطيرهم التأطير المفضي، في بعض الأحيان، الى الموت والقتل الجمعيين. * مدرس علوم اجتماعية في الجامعة اللبنانية.