"الموجة الآن ضد الارهاب وليست ضد زراعة الحشيشة، فما هي مناسبة قدومكم". هذا ما بادرنا به أبو علي، مزارع الحشيشة في سهل البقاع. وهذه الزراعة عادت هذه السنة على رغم تهديد الحكومة اللبنانية بإتلافها، وهي اليوم في طور القطاف. وهو ليس الطور الأخير طبعاً، ولكنه الأخير لجهة إمكان تعرضه لمخاطر التلف. فالمزارع، في هذه المرحلة، يحصد شتلات الحشيشة، ويتركها لأيام قليلة في الأرض لتعريضها الى الشمس والرطوبة والهواء الناشف مساء. ثم يعود فينقلها الى مكان بعيد تكون فيه بمنأى من عيون الدولة في حال قررت هذه الأخيرة الإتلاف طبعاً. وأبو علي الذي زرع موسمه كاملاً هذه السنة، بعد أن كان زرعه بالحشيشة متقطعاً وخجولاً في السنوات الماضية، ظهرت على وجهه علامات الارتياح، خصوصاً أن عدم تنفيذ الدولة تهديدها بالتلف يعني بالنسبة اليه نوعاً من السماح بالزراعة. ولهذا فهو لم يبد حذراً كبيراً في التحدث عن نبتته ولا في التغزل فيها. وعلى رغم المساحات الكبيرة التي زرعت حشيشة في سهل البقاع، راح مرافقنا يقول ان السهل لم يزرع هذه السنة، وان معظم المساحات المزروعة هي في الجرود، وفي السهول المتفرعة الصغيرة كسهل اليمونة وجرود الهرمل وحقول دير الأحمر الواسعة. "السهل لم يزرع هذه السنة"، أجاب. ثم عاد وأكد أن هذه المساحات المحيطة بنا والمزروعة حشيشة لا تشكل نسبة كبيرة من مساحات السهل. وحقول الحشيشة في موسم حصادها يميل لونها الى الأصفر على رغم احتفاظها بالأخضر طاغياً. تقطع النبتة وتبقى الى جوار جذعها في انتظار يباسها الكامل. ثم تجمع أغماراً وتلف بالقماش، لتأتي جرارات زراعية وشاحنات صغيرة فتنقلها الى مكان آخر. ومنزل أبو علي في وسط السهل بني خصيصاً ليتيح امكان استعماله لتوضيب الحشيشة وصناعتها. فهو مؤلف من طابقين خفيضين، ولا يحيط به شجر من أي نوع. حقول واسعة وصفراء. والشمس تحاصره بضوئها من كل ناحية. حرارة السهل في منتصف النهار تدفع الى التكاسل، وتجعل الأشجار البعيدة متماوجة، ما يزيد من ثقل الوقت ومن بطئه. ثمة حقل أخضر قريب. انها حشيشة زرعت متأخرة. الحقل واسع وممتد وفي ظل التموجات التي تحدثها حرارة منتصف النهار في سهل البقاع يصعب تحديد أين يبدأ حقل الحشيشة الأخضر وأين ينتهي. الى جوار المنزل ثمة عِدَّة لتصنيع الحشيشة، قديمة ومتآكلة. منخل وآلة ميكانيكية بدائية صنعت محلياً، وأنابيب مياه بلاستيكية عتيقة. انها عدة الزراعة القديمة التي كان أبو علي يستعملها قبل قرار الدولة منع الزراعة في العام 1990. المعدات لا تصلح لموسم هذه السنة، فهي صدئة وقديمة. وقال أبو علي ان السنوات العشر الفائتة لم تشتغل خلالها المخيلة التقنية المحلية على تطوير هذه المعدات وتسهيل عمل المزارع في الحصاد والتصنيع. ولذلك فإن المزارعين سيشترون آلات بدائية تماماً كتلك التي كانوا يعملون عليها قبل السنوات العجاف. على المزارعين انتظار ليال باردة تزيد من ثقل الغبار المتكون حول النبتة، ومن رطوبته، حتى يبدأوا العمل على تحويل النبتات اليابسة الى "بودرة" مسحوق ومعجون. البعض منهم على عجلة من أمره، فوضع نبتات الحشيشة في غرف مبردة لتسرع عملية تجفيفها واستخلاص المادة الرطبة منها. أما الغالبية العظمى من المزارعين فباعوا مواسمهم في أرضها، أي باعوها "خضيراً" كما يسمون مواسمهم في وقت اخضرارها. ومشترو الخضير، أي الحشيشة قبل تصنيعها، هم مزارعون بقاعيون قليلون تسمح لهم امكاناتهم المادية بشراء المحاصيل قبل تصنيعها، فيقومون هم بتصنيع ما زرعوه وما اشتروه من المزارعين الصغار، فتزيد أرباحهم. السهل شاحب في أول أيام الخريف، والمزروعات على أنواعها في مراحل ما بعد النضج. والمواسم على اختلافها قليلة، باستثناء الحشيشة التي لا تتطلب زراعتها وقطفها الكثير من العمال. ثم ان هذه النبتة بفعل طبيعتها البرية وعدم تطلبها العناية، جعلت زارعيها كسالى. فأوقات الري قليلة، والحصاد عملية روتينية تعقبها أيام التشميس التي لا تتطلب حضور المزارع الى حقله. المزارعون في منازلهم يشربون القهوة الصباحية. كثيرون منهم مقيمون في بعلبك، ويستقبلون ضيوفهم على الشرفات. وحين يتحدثون من على شرفاتهم عن حقولهم، وعن نبتة الحشيشة، عليك أن تطيل النظر الى وجوههم المتورمة بفعل النوم الى ما بعد الساعة العاشرة صباحاً، وأن تتخيل حقولهم البعيدة تعج بحشيشة نضرة خضراء تشبههم في رخائها وفي اطمئنانها. وفي منزل أبو علي الواقع في السهل والقريب من الحقول، ومن ورشات القطاف و"شغل" الحشيشة، لا تظهر على وجوه المزارعين وثيابهم ملامح العمل الزراعي. فهم يتحدثون عن موسمهم أكثر مما يشتغلون فيه. يرتدون كوفيات حمراء، ويطلقون لحى قصيرة وبيضاء شعرها قاس كما الإبر المعدنية. ويروي أحد المزارعين عن شقيقه المقيم في استراليا ان الدولة سمحت له بأن يزرع بعض نبتات الحشيشة التي يقول انهم في تلك البلاد يسمونها "ماريجوانا"، ثم يدخنها بورقها. ويتابع نحن هنا اكثر احترافاً، اذ نقوم بتصنيعها وتحويلها معجوناً وبودرة. وبدأت تظهر الملامح العامة لموسم الحشيشة في البقاع اللبناني لجهة الكميات والنوعيات، إذ يقدر المزارعون المساحات التي زرعت هذه السنة بنحو 450 ألف دونم تنتج نحو ألف طن من الحشيشة، من مدينة زحلة وصولاً الى الحدود اللبنانية - السورية. وسعر الكيلو في حده الأدنى، كما يبيعه المزارع، نحو مئتي دولار اميركي. ما يعني أن قيمة الموسم هذه السنة تقدر بنحو مئتي مليون دولار. ولكن ثمة نكسة أصابت قسماً من المزارعين. فقبل أيام وبينما كان المزارعون في منطقة اليمونة قد أنجزوا الحصاد وتركوا محاصيلهم في الأرض حتى تجف، أمطرت السماء برداً، فتسبب ذلك بإتلاف نحو 60 في المئة من محصول الحشيشة في بلدة اليمونة التي تقدر المساحات التي زرعت حشيشة فيها هذه السنة بنحو خمسة آلاف دونم. علماً بأن اليمونة تفوق نبتات الحشيشة في بقية السهل، بسبب بعض الرطوبة التي تحدثها بحيرة البلدة. وتسبب المطر ايضاً بتلف كميات كبيرة من التفاح المزروع في البلدة والذي يعتبر عنصر اقتصاد اليمونة الثاني بعد الحشيشة. ولكن ما تبقى من موسم الحشيشة في البلدة يمكن أن يشكل دخلاً كافياً في انتظار الموسم المقبل. الحديث في الأسواق وسكك التهريب متفاوت جداً، ولكن يجمع المزارعون والوسطاء أن الأوضاع الأمنية في المنطقة والناتجة من احداث نيويورك وواشنطن ستأخر عملية التسويق وتعرقلها. فالحشيشة بحسب المزارعين هي نبتة الرخاء والازدهار، فكيف لها ان تجد ظروفاً ملائمة في ظل هذا الاحتقان الذي تشهده المنطقة. لن يكون هناك موسم وعائدات اذا لم يأت "الاجانب". هذه العبارة تسمعها عشرات المرات من المزارعين الذين يحفظون لهؤلاء الأجانب اسماء وجنسيات وملامح. انهم التجار الذين يجوبون بلاد الحشيشة في المشرق والمغرب، والذين يشمون رائحتها عبر المحيطات. "تكتب الصحف معتقدة انها تكشف المزارعين عندما يزرعون الحشيشة ولكن النتيجة هي وصول اخبار هذه الزراعة الى تجار خلف البحار عبر هذه الصحف"، قال مزارع جاء لزيارة أبو علي في منزله في السهل. هذا المزارع يحمل من فخر اللبنانيين ببلادهم وجبالهم فخراً بنبتته وبأصول زراعتها التي يجيدها اللبناني بحسب اعتقاده أكثر مما يجيدها غيره. فراح يقول انه تعرف الى تاجر انكليزي أخبره ان الحشيشة الباكستانية يؤدي تناولها الى ألم في الرأس، وأن الهندية غالباً ما تكون مغشوشة، أما الحشيشة اللبنانية فتزيده نشاطاً وخفة وتضاعف من طاقاته. السكك الى الخارج طريقها الرئيسي البحر. والتجار الأجانب مرتبطون بشبكات تهريب معروفة. انهم هولنديون بالدرجة الأولى، ثم فرنسيون وألمان وايطاليون. أما الأتراك فهم "السكة" كما يسميهم المزارعون، إذ غالباً ما تحصل عمليات التهريب عبر مراكبهم. ويحفظ البقاعيون حكايات عن أساليب التهريب. فهناك وسيلة تعبئة المحصول في تجويف الدواليب الداخلية للسيارات، أو "حجرة الهواء" فيها. وتربط هذه الدواليب العازلة بسلاسل تعقد أسفل البواخر. وفي هذا الوقت تتم عمليات رشوة واسعة لعناصر في خفر السواحل والجمارك والأجهزة الأمنية التي تتولى مراقبة الموانئ في الدول المختلفة. وهناك أسلوب آخر من التهريب يعتمده التجار الصغار المحليون، عبر ما يسمونه "الحميل". وهو رجل بمواصفات معينة، يغامر بحمل كمية من الحشيشة أو المخدرات لا تتجاوز الخمسة كيلوغرامات ويعبر بها المطارات. ولكن معظم وسائل التهريب معلقة الآن في ظل استنفار الدول والجيوش، ومرابطتها في المرافئ والمطارات. ويردد أكثر من مزارع عبارة: "من سيأتي هذه الأيام لشراء المواسم؟ فالبواخر تعترضها بوارج البحرية الاميركية، والطائرات ضاعفت السلطات الرقابة عليها". وأضاف مزارع آخر: "إلا اذا قرر المارينز العمل معنا، فيمكنهم سحب محاصيلنا في بوارجهم". "السكة" الأوسع هي الطريق الى هولندا، يكرر المزارعون هذه العبارة. ويضيفون: "الجميع اشتغلوا على هذه السكة". ثم يبدأون بتسمية تجار لبنانيين يعرفونهم. فيعدون هؤلاء التجار بأسماء بلداتهم وعشائرهم، فيقولون: الزغرتاويون والجعافرة والزحلاويون تخصصوا بسكة هولندا. وسبب هذا الاقبال على هولندا هو سماح هذه الأخيرة بتعاطي الحشيشة في شكل قانوني وعلني. والمزارعون يثنون على "حكمة" الهولنديين هذه، إذ صار يمكنهم بعد قرار هولندا أن يحاجوا من يناقشهم بعدم اخلاقية زراعتهم هذه بعبارة: "هل أنت تفهم أكثر من الهولنديين؟". ويبدو أن لمزارعي الحشيشة هموماً مستجدة تتعلق برغبتهم في تنظيف سمعة نبتتهم، إذ يؤكدون ان السمعة السيئة لهذه الزراعة مصدرها زراعة الأفيون، لا زراعة الحشيشة. ولذلك فهم عازمون على اتلاف أي حقل أفيون يزرع في السهل. أما دليلهم الثاني على نقاء نبتتهم، فهو تعارضها مع الارهاب. فالارهاب بحسب مزارع بقاعي "يعطل على الحشيشة"، إذ عندما يزدهر الارهاب يتضاعف التشديد وتكون الحشيشة الضحية. لم يأت "الأجانب"، بل جاء بعض التجار اللبنانيين القدماء الذين سبق أن تعاطوا هذه التجارة. بعضهم أرسل أبناءه هذه المرة وحجز كمية محددة. أما الكميات الأساسية فلا يمكن للتجار المحليين استيعابها. ولكن هذا الأمر ليس مصدر قلق كبير. فالحشيشة لا تتلف بفعل التخزين، ويمكن أن يضاف موسم الى موسم، وان يستمر التخزين لأكثر من خمس سنوات، ولا بد للسكك في اثنائها من ان تفتح، وللأجانب أن يأتوا. ويردد هذا الكلام كثير من المزارعين. ويبدو ان ثقة الأسواق بهذه النبتة كبيرة، فالمزارع خلال تعثر "السكك" يمكنه الاستدانة بضمانة محصوله عبر قنوات التجار والوسطاء، في حين يقول المزارعون انهم عجزوا عن تأمين قروض لأنواع أخرى من المزروعات بسبب مخاطر الاستثمار فيها. كما ان ثمة أرزاقاً أخرى يتسبب الموسم في تدفقها. فمنازل الجرد التي تركها سكانها ونزلوا الى بعلبك تحولت الى مخازن للحشيشة قبل تصنيعها، وفي انتظار تعرضها الى الهواء البارد الذي يحمله الخريف. هذه المنازل غالباً ما يستأجرها المزارعون الكبار من أصحابها بمبلغ لا يقل عن ألف دولار للموسم الواحد. وهو مبلغ لم يسبق أن أتيح لأصحاب هذه المنازل الحصول عليه. بدل مزارعو الحشيشة اللبنانيون من لغتهم الساخطة على الحكومة والدولة، ومن ترديدهم بأن إقدامهم على زراعة الحشيشة كان رداً على اهمال الدولة مطالبهم، الى لغة اخرى، لغة تضمر شيئاً من الهدوء والتعقل، ولكنها تضمر أيضاً رغبة في أن تقتنع الدولة بأن لا بديل من زراعة الحشيشة في سهلهم. فهم مقتنعون ان مساعدات الدولة لهم ترهقها وان لا ادارة سياسية ومحلية للمشروعات التي وعدوا بأن تنفذ في مناطقهم، هذا في حين يتحدثون عن نبتتهم "البريئة" كبديل مريح يقترحونه، وهم يدركون الإحراج الذي يمكن أن تسببه لقواهم المحلية، فيقومون بتحييدها زاعمين انها لم تمنعهم من زراعتها ولكنها لم تنغمس في هذه الزراعة. فيقول مزارع حشيشة انه ينتخب لوائح "حزب الله" في الانتخابات البلدية والنيابية، وهو يتفهم عدم تشجيع الحزب لهذه الزراعة، ولكن الحزب كما يقول المزارع "لا يقبل أن يجوع أبناؤنا". أما الحكومة اللبنانية التي سبق أن أعلنت انها ستتلف موسم الحشيشة، فقد استفاد المزارعون من انشغالها في غمرة الأحداث الدولية والاقليمية وحصدوا موسمهم وصعدوا به الى الجرد.