الإعلام العربي غير الرسمي يركز بشكل لافت، وهو على حق في ذلك، على إبراز ضعف الموقف السياسي العربي الرسمي في تعاطيه مع القضايا العربية والإسلامية، وفي علاقاته مع الدول الغربية، خصوصاً الولاياتالمتحدة الأميركية. لكن يطرح السؤال: ماذا عن موقف هذا الإعلام من المواضيع ذاتها؟ إذا تواضعنا على أن المقصود بالضعف في مقابل القوة هنا ليس مضمون الموقف واتجاهه، بل كيفية توصيل هذا الموقف إلى الطرف الآخر، وإقناعه بالتعاطي مع المضمون الذي ينطوي عليه، سيتضح أن الإعلام غير الرسمي قد لا يقل ضعفاً عن الموقف العربي الرسمي. فعلى رغم أن هذا الإعلام يتميز بنبرته النقدية للسياسات العربية الرسمية، إلا أنه لم يتمكن بعد من تجاوز عقدة الإعلام الرسمي في أن خطابه موجه بشكل يكاد يكون حصرياً إلى المتلقي العربي. والرسالة التي ينطوي عليها هذا الخطاب لا تصل، في الغالب، إلى الطرف الآخر، وإنما تظل تدور داخل الحلقة المفرغة بطرفيها: الإعلام العربي والمتلقي العربي. وهذا ضعف في الأداء يعود إلى أن رسالة الإعلام العربي غير الرسمي لا تتجاوز في مفاهيمها، وفي اهتماماتها حدود الشعارات والمسلمات العربية، وحدود الهم العربي، من دون أن تتقاطع، أو تتماهى مع اهتمامات ومسلمات الشعوب غير العربية، وغير الإسلامية. وبما أننا نتحدث عن الضعف في علاقتنا بالآخر، فإن أكثر ما يفصح عن ضعف الإعلام غير الرسمي في هذا الصدد هو اللقاءات والمقابلات التي يجريها مع المسؤولين غير العرب، ولا سيما المسؤولين الأميركيين والبريطانيين، والإسرائيليين كذلك. في هذه اللقاءات يبدو مقدم/ أو مقدمة البرنامج العربي ضعيف الأداء والتحضير والإلمام بالقضية موضوع اللقاء. وبالتالي يبدو مستسلماً لإجابات الضيف، غير قادر على مواجهته بأسئلة إلحاقية. الأرجح أن مقدم/ أو مقدمة البرنامج لا يقبلان إجابات ضيفهما، لكنهما يفتقدان في تلك اللحظة إلى سرعة البديهة بطرح أسئلة استفهامية تضع تلك الإجابات محل اختبار وتساؤل. ليست هناك ملاحقة بأسئلة متولدة من إجابات الضيف. أكثر من ذلك، أن النبرة النقدية التي تطغى داخل الحلقة العربية المفرغة تكاد تختفي في مثل هذه اللقاءات، وإن ظهرت على السطح فهي نبرة سطحية ومرتجلة، غير مدعومة بشيء من المعلومة، أو شيء من منهجية تسلسل الأحداث. نستعرض ثلاثة أمثلة من برامج المقابلات السياسية على الفضائيات العربية: برنامج عماد الدين أديب "على الهواء" على محطة "أوربت"، وبرنامج جيزيل خوري "اليوم الثامن" على محطة "إل بي سي" اللبنانية، وبرنامج "لقاء خاص" على قناة "الجزيرة" الذي قدمه الأسبوع الماضي سامي حداد. كان شمعون بيريز وزير الخارجية الإسرائيلي على الهاتف ضيفاً على برنامج "على الهواء"، وذلك في أعقاب الهجمات الانتحارية على نيويورك وواشنطن. وسأل عماد بيريز عن العنف الإسرائيلي واستخدام طائرات الآباتشي الأميركية ضد شعب أعزل. على هذا السؤال أعطى بيريز إجابته المعهودة عندما قال: "إن ما تقوم به القوات الإسرائيلية ليس إلا رد فعل على العنف الفلسطيني غير المبرر ضد المواطنين الإسرائيليين. وحالما يتوقف العنف الفلسطيني فلن يكون هناك أي مبرر لإطلاق النار من جانب القوات الإسرائيلية". إجابة بيريز تقلب الموضوع رأساً على عقب: إسرائيل لا تقوم بأي عنف، ولا تقوم بأكثر من رد فعل على العنف الفلسطيني. بعبارة أخرى "العنف الفلسطيني" ليس له مبرر. بيريز متسق مع نفسه. همه الأول هو إقصاء الاحتلال بكل تبعاته عن الواجهة، وعن الوعي. وهذا شيء مفهوم ومتوقع منه، كأحد القادة الإسرائيليين. لكن غير المفهوم هو أن يترك عماد هذه الإجابة تمرّ هكذا من دون مساءلة. فالاحتلال، من أبشع أشكال العنف، ويزداد بشاعة عندما يتحول إلى احتلال استيطاني، كما هي طبيعة الاحتلال الإسرائيلي لأنه مترافق مع مصادرة الأراضي وهدم المنازل وإقامة المستوطنات. بالنسبة إلى بيريز هذا عنف غير مبرر، لأنه يؤشر إلى استمرار المقاومة. ومن الطبيعي أن بيريز لا يستطيع الاعتراف بحق المقاومة في هذه الحالة. وإلا فالعنف الإسرائيلي ليس مجرد رد فعل على العنف الفلسطيني. العنف الإسرائيلي في حقيقته هو الأصل، وهو عنف مضاعف، ويأخذ شكلاً بشعاً من أشكال الإرهاب: اغتيال القيادات السياسية، وقتل المدنيين العزل، ومصادرة الأراضي، وفرض الحصار على السكان، كل ذلك على يد أجهزة الدولة بشكل منظم، ومستمر بلا هوادة. والسؤال هنا لماذا يترك المجال لبيريز كي يمرر رسالته الإعلامية من دون مساءلة؟ بيريز، إلى جانب أنه وزير خارجية إسرائيل، هو من ألمع الديبلوماسيين في هذا العصر، ومن أوفرهم مهارة في الحديث بهدوء، وأدب جم وخيال واسع. ترى هل ضعف مقدم برنامج "على الهواء" أمام هيبة هذا الرجل، واعتبر أن قبوله الظهور في برنامجه مكسب لا ينبغي الإساءة إليه؟ لا أعرف الإجابة بمقدار معرفتي الإجابة عن السؤال ذاته عن أداء الديبلوماسية العربية. في برنامج "اليوم الثامن" كان توماس فريدمان، أحد الضيوف، صاحب عامود "شؤون خارجية" في صحيفة ال"نيويورك تايمز" الأميركية. وكان الحديث عن الحرب الأميركية على الإرهاب. بدأت جيزيل حديثها مع فريدمان بأن وصفت مقالاً له قبل أيام في الصحيفة نفسها بأنه "مهضوم". ثم سألته إذا كان يتفق مع الرأي القائل بأن هدف الولاياتالمتحدة من حربها ضد الإرهاب يتضمن أيضاً محاولة لبسط هيمنتها على وسط آسيا الغنية بمصادرها النفطية. أجاب فريدمان بأن هذا الرأي مغلوط من أساسه وذلك لسبب بسيط، وهو أن الولاياتالمتحدة كانت طوال المئتي سنة الماضية تزداد قوة وإزدهاراً من دون حاجة إلى وسط آسيا. ثم أضاف: "ما الحاجة إلى الهيمنة على منطقة لا يعرف الأميركيون موقعها على الخارطة. إنهم لا يعرفون، مثلاً، أين تقع طاجيكستان، أو أوزبكستان". تتسم إجابة فريدمان هذه بالبساطة والمغالطة معاً. إجابة أيديولوجية ساذجة تسعى إلى إخفاء حقيقة واقع سياسي مركب. فالولاياتالمتحدة، مثل غيرها من الإمبراطوريات الكبرى، محكومة بديناميكيات التوسع. الإمبراطوريات القديمة كانت تتوسع جغرافياً، لكن الولاياتالمتحدة تتوسع اقتصادياً وسياسياً. كانت الولاياتالمتحدة، مثلاً، تزداد قوة وإزدهاراً قبل أن تأتي إلى منطقة الخليج في أوائل القرن الماضي، وقبل أن تبسط هيمنتها على أوروبا، وجنوب شرقي آسيا بعد الحرب العالمية الثانية. وعندما بدأن الولاياتالمتحدة بوراثة هيمنة القوى الاستعمارية في الشرق الأوسط كانت أيضاً تزداد قوة وازدهاراً بمعدلات تفوق ما حققته في بداية القرن. وما كان لزيادة القوة والازدهار أن تمنع الولاياتالمتحدة، أو تحد من شهيتها إلى التوسع. ثم هل كان الأميركيون في بداية مراحل التوسع تلك، عدا صانعي القرار وأصحاب المصالح الاقتصادية الكبيرة، يعرفون أين يقع الخليج العربي أو أين تقع فيتنام أو باكستان؟ ولا مبالغة في القول إن غالبية الشعب الأميركي لا تعرف الآن أين تقع عُمان أو قطر أو سورية أو سريلانكا. هل يعني هذا أن الولاياتالمتحدة، تبعاً لذلك، غير معنية بما يحدث في هذه البلدان؟ في ظني أن سؤال جيزيل كان عن صانعي القرار، وعن حدود المصالح الاقتصادية الكبرى. ولم يكن عن رأي الشعب، أو عن مدى معرفته بمنطقة وسط آسيا، مثلاً. بعبارة أخرى، يكون فريدمان بإجابته الأيديولوجية البسيطة فتح الباب مشرعاً أمام جيزيل لأن تضع طروحاته عن السياسة الخارجية الأميركية، خصوصاً تجاه الشرق الأوسط، على محك المساءلة والتشريح. لكنها لم تفعل. لماذا؟ هذا هو السؤال نفسه الذي نطرحه دائماً عن السياسيين والدببلوماسيين العرب في تعاطيهم مع نظرائهم في الغرب. ربما أن جيزيل كانت مشغولة أو مأخوذة ب"هضامة" مقالة فريدمان أكثر من انشغالها بمساءلة اجاباته وتفكيكها. ومع أنها معروفة بملاحقة إجابات ضيوفها بأسئلة إلحاقية متتابعة، إلا أن هذا الميل، كما يبدو، لا يكون حاضراً مع كل الضيوف. عندما نأتي إلى برنامج "لقاء خاص" على "الجزيرة"، نجد مثالاً آخر على ضعف الإعلام العربي غير الرسمي في الوصول إلى مستوى تحدي اللحظة. كان الضيف رئيس الوزراء البريطاني توني بلير. وكان أحد الأسئلة المهمة التي طرحها سامي على ضيفه يتعلق بموقف بريطانيا من موضوع الدولة الفلسطينية. إجابة بلير جاءت ديبلوماسية وواضحة، لكنها ملغومة. قال إن بريطانيا تؤيد قيام دولة فلسطينية، لكن بشرط أن يكون قيامها نتيجة للمفاوضات. كان في إمكان مقدم البرنامج أن يلفت نظر رئيس الوزراء البريطاني إلى أن ربط قبول الدولة الفلسطينية بالمفاوضات، هكذا بشكل مفتوح، ومن دون حدود زمنية يعني عملياً عدم القبول بها كحق طبيعي وقانوني للشعب الفلسطيني طال انتظاره. وتشير تجربة المفاوضات، على مدى أكثر من سبع سنوات، إلى أن إسرائيل غير معنية في الوقت الحاضر بالتوصل إلى سلام نهائي. فهي تستولي، بموافقة عربية وفلسطينية، وضداً لقرار التقسيم، على أكثر من 75 في المئة من أرض فلسطين. المفاوضات لا تمثل بالنسبة إلى سرائيل إلا آلية لفرض واقع على الأرض. ولهذا حولتها إلى مفاوضات "لانهائية"، لكسب الوقت وصولاً إلى ذلك الواقع. وأثناء ذلك تستمر في مصادرة الأراضي، وفي بناء مستوطنات جديدة، وتوسيع المستوطنات القائمة. ومما ساعد إسرائيل على ذلك هو الدعم الغربي، خصوصاً الأميركي اللامحدود لهذه الإستراتبجية، والتغاضي عن الهدف الإسرائيلي الحقيقي وراءها. وبالتالي فإن ربط مصير الدولة الفلسطينية بمفاوضات لانهائية، لا أحد يعرف متى تنتهي، ومن دون التزام أميركي حقيقي بفكرة هذه الدولة، يعني بالنسبة إلى العرب أن الغرب يذعن للإستراتيجية الإسرائيلية، ومستعد لقبول نتائجها عندما يحين الوقت. الأمر الذي يعني أن طرح فكرة القبول الغربي بدولة فلسطينية في هذا الوقت ليس إلا مناورة تفرضها ظروف الحرب الأميركية على الإرهاب. عندما أعيد النظر في الملاحظات السابقة أجد أنني لم أضف شيئاً جديداً إلى معلومات مقدمي تلك البرامج. كلهم يعرفونها، ربما حتى قبل أن أعرفها أنا. إذاً لماذا يبدو أداء الإعلامي العربي في البرامج الإخبارية السياسية ضعيفاً، وغير مهني، خصوصاً عندما يكون في مواجهة مسؤول غربي؟ قد يعزى الأمر إلى حالة الانبهار التي تستولي على مقدم البرنامج في هذه الحالة. إذ يعتبر ظهور المسؤول الغربي مع صاحب البرنامج مكسباً لا ينبغي إفساده بأسئلة محرجة. وإذا صح ذلك، فهو من بقايا الثقافة السياسية العربية التقليدية السابقة على مرحلة الفضائيات. ضعف الإعلام العربي غير الرسمي في هذه الحالة هو جزء مكمل للضعف العربي الذي يبدو واضحاً في المواقف الرسمية العربية. يتمتع الإعلام غير الرسمي بهامش واسع من الحرية إذا ما قورن بالاختناق الذي يعاني منه الإعلام العربي الرسمي. تخلص من الرقابة الرسمية لكنه لم يتخلص من ربقة الثقافة السياسية التقليدية. الهامش الذي يحظى به محدود بحدود كثيرة: الخلافات العربية، حدود الرقابة الذاتية، ودرجة المهنية. الخلافات العربية تحرك الرقابة الذاتية، وهي بطبيعتها انتقائية. فالإعلام غير الرسمي يستقوي، مثلاً، على هذه الدولة من دون تلك، ويتجرأ على مسؤول من دون آخر. لاحظ حرية النقد الموجه للسلطة الفلسطينية، والرئيس عرفات تحديداً. يتردد، بهذه المناسبة، أن أحد مذيعي قناة "الجزيرة" سئل مرةً عن السبب في أنه لا يتناول في برنامجه النظام السوري بشيء من النقد المباشر كما يفعل مع مصر والسعودية أو الأردن مثلاً. فجاءت إجابته واضحة ومباشرة "خيّو هذول بيقوّصو". وهامش الحرية محدود أيضاً بدرجة المهنية، التي تتضاءل أمام تجذر الخلافات، وتوسع حدود الرقابة الذاتية. * كاتب سعودي.