عندما اقنعته زوجته سعاد، قبل ستة أعوام، بالسفر الى الولاياتالمتحدة لتمضية شهر عسل، لم يخطر ببال عبدالحفيظ رحماني انه سيكون اليوم قابعاً في سجن اورلاندو فلوريدا، بانتظار محاكمته بتهمة القتل. ففي الأول من شهر شباط فبراير 1996، اطلق المغربي عبدالحفيظ رحماني 39 عاماً الرصاص على زوجته سعاد بوسرحان وعلى المصري مدحت زمزم وأرداهما. رحماني اعترف بجريمته، ومن المتوقع ان يصدر الحكم بإعدامه بالكرسي الكهربائي، أو، في أفضل الأحوال، سيواجه عقوبة السجن لمدى الحياة، في حال نجح محاميه باقناع القضاء الأميركي بالظروف المخففة. في شهر آذار مارس المنصرم، تناولت الصحف المغربية، وبإسهاب، مأساة عبدالحفيظ وزوجته، معتبرة ان السبب المباشر لحدوثها لا يمكن فصله عن "الصدمة الحضارية" التي واجهها الزوجان إثر انتقالهما الى مجتمع غريب عن الثقافة والأعراف والتقاليد التي ترعرعا في كنفها. فالمتهم الذي كان يعمل في مطعم وجبات سريعة يتولى ادارته مواطن مصري يدعى مدحت زمزم، لم يحتمل رحيل زوجته مع هذا الأخير، ولم يجد أمامه سوى الانتقام سبيلاً للتخلص من آلامه، خصوصاً بعد أن أفهمه امام مصري مقيم في فلوريدا ان عقد زواجه المغربي يعتبر غير ذي أهمية في اميركا. والإمام حمزة، شيخ المسلمين في فلوريدا، كان اطلق فتوى حاول من خلالها عبثاً الاحتكام الى الشريعة الإسلامية بهدف منح رحماني فرصة الافادة من الظروف المخففة. فمن الصعب جداً اقناع القضاء الأميركي بحجج دينية غير واردة في قوانينهم. صحيح ان المتهم المغربي ارتكب جريمته بدافع العاطفة، لا بل الاندفاع العاطفي، لكن كل الحجج تبدو واهية في قاعات المحاكم الأميركية إلا اذا قدّمها محام ذائع الصيت، يتقاضى مبالغ باهظة لقاء أتعابه. من جهته، لا يتوقع عبدالحفيظ رحماني سوى الأسوأ. وهو منذ اعتقاله نهاية عام 1995، يجترّ آلامه غارقاً في حزنه، تائهاً خلف نظراته الكئيبة. لم يعد وجه زوجته الخائنة يسكن خياله كما في الأيام الغابرة. هاجسه الوحيد، اليوم، الأمل بالنجاة من الاعدام، وهو يدرك تماماً انه شبه معدوم. ولا يعتبر عبدالحفيظ نفسه مجرماً. ففي بلاده، من الطبيعي ان ينتقم المرء لشرفه، وهو عمل بطولي يكسبه احترام المجتمع الشرقي واجلاله. اما في الولاياتالمتحدة، والمجتمعات الغربية الأخرى، فالأمر مختلف تماماً. اليوم، يترقّب عبدالحفيظ قرار المحكمة الأميركية من دون ان يفهم تماماً ماذا يحدث له. يدرك ان الموت أو السجن المؤبد بانتظاره، لكنه لا يزال مقتنعاً بأن ما فعله عين الصواب. سلواه الوحيدة في "رواق الموت" قراءة القرآن والعودة الى الذكريات. مأساة عبدالحفيظ وسعاد، ارتسمت خطوطها الأولى عندما قرّر الزوجان قضاء عطلة شهر آب أغسطس من العام 1995 في اورلاندو، بفلوريدا. العطلة في بلاد العم سام بدت أشبه بالحلم، خصوصاً ان الزوجين كانا تصالحا قبل شهرين فقط، بعدما تزوجا عام 1991 وتطلقا بعد مرور عشرة أشهر على زواجهما. كانت سعاد حاملاً بابنتها سارة البالغة اليوم 6 أعوام عندما انفصل الزوجان. لكن عبدالحفيظ لم ينس يوماً حبّه الكبير لسعاد، وأبدى رغبته أكثر من مرة بالعودة اليها والزواج منها ثانية. وهذا ما حصل بالفعل في شهر حزيران يونيو من العام 1995. للاحتفال بسعادتهما المتجدّدة، اقترحت سعاد على زوجها قضاء شهر عسل طالما حلمت به، بعيداً من المغرب ومن حدود مدينة قنيطرة الضيقة. وارتأت سعاد ان مدينة اورلاندو هي المكان الأمثل، حيث تقيم صديقة لوالدتها أبدت استعدادها لاستضافتهما في منزلها. هذه الصديقة وتدعى خديجة كانت والدة سعاد تعرّفت اليها في القاعدة الأميركية في القنيطرة حيث كانت تعمل. وبفضل مساعدة رؤسائها الأميركيين، تمكنت خديجة من الهجرة الى فلوريدا حيث تزوجت مواطناً مصرياً يحمل الجنسية الأميركية. كانت سعاد تحلم بحياة مماثلة. فهي، طوال فترة طلاقها من عبدالحفيظ، كانت تخطط للسفر الى الولاياتالمتحدة وتقدمت، أكثر من مرة، الى القنصلية الأميركية لطلب تأشيرة دخول. وفي كل مرة، يُرفض طلبها بسبب وضعها الاجتماعي كامرأة مطلقة. هذه المرة، كانت سعاد أكثر تفاؤلاً. فهي متزوجة ولا بدّ ان يمنحها وضعها الاجتماعي الجديد حق الرحيل عن مدينتها الباهتة التي لم تقدم لها سوى الرتابة والضجر، في حين يلازمها شعور مزمن بأنها قادرة على التلاعب بالعالم، ولا ينقصها شيء لتحقيق مرادها. بالفعل، كانت سعاد محط اعجاب سكان مدينتها الصغيرة حيث كانت تشغل في البلدية وظيفة بسيطة براتب 1500 درهم. لكنها كانت دائمة الحرص على الظهور بمظهر امرأة اعتادت البذخ والترف. أما عبدالحفيظ فكان موظفاً في احد المصارف. وعندما اعلن عن نيته الاقتران بسعاد، ابدت عائلته اعتراضها، لا سيما والدته نوّاره التي رأت في سعاد امرأة لعوباً لا تليق بابنها الخجول، الرصين. لكن عبدالحفيظ اغرم بسعاد غراماً شديداً وأجبر والدته على الرضوخ لإرادته. انطلق عبدالحفيظ وسعاد في رحلة شهر العسل الأميركية بعدما تركا طفلتهما سارة، البالغة من العمر آنذاك ثلاثة أعوام، في عهدة عائلة سعاد في القنيطرة. وعلى متن الطائرة، لم يتوقف الزوجان عن الكلام عن المواقع التي ينويان زيارتها: الجناح المغربي في "ايبكوت سنتر"، "ماجيك كينفدم"، "كاب كانافيرال"... لدى وصولهما في وقت متأخر من الليل، كانت خديجة وزوجها في استقبالهما في المطار. وفي الطريق من المطار، شعر الزوجان كأنهما يكتشفان الفردوس الأرضي، أسرهما سحر المدينة الأميركية، المتألقة بأبنيتها الفخمة وغاباتها الوارفة، لا سيما سعاد التي وجدتها مطابقة تماماً لما تخيلته في احلامها. وعلى رغم صعوبة التنقل من دون سيارة في اورلاندو، أصرّ الزوجان على زيارة معالم المدينة برفقة أصدقاء لهم، وتحديداً المدعو عادل رامي، وهو طالب مغربي، يدرس المعلوماتية، استضافهما عنده خلال اقامتهما. ولم تمض سوى أيام حتى اقترحت سعاد على زوجها البقاء في فلوريدا، وعدم العودة الى المغرب الا في وقت لاحق لاصطحاب ابنتهما بعد ترتيب أمورهما. كانت سعاد واثقة من كل كلمة تفوهت بها وكأنها أعدت خطة مسبقة شرعت تنفذها بإصرار وتصميم. أما عبدالحفيظ فتملّكه التردد والحيرة. كونه لم يفكر يوماً بالهجرة ولم يأت الى الولاياتالمتحدة الا بقصد السياحة. لكنه، في نهاية المطاف، رضخ لرغبة زوجته التي طمأنته انها ستتدبر الأمر، خصوصاً ان لديهما، في اورلاندو، عدداً من الأصدقاء يمكنهما اللجوء اليهم إذا دعت الحاجة لذلك. في الواقع، تقيم في اورلاندو جالية كبيرة من المغاربة، لكن الحياة في فلوريدا لم تكن سهلة كما توحي به المظاهر. فالمهاجر يضطر احياناً لأن يشغل وظيفتين أو ثلاثاً ليؤمن لقمة العيش. أما فرص العمل فهي متوافرة بكثرة في مطاعم الوجبات السريعة. لذا، كان من السهل على عبدالحفيظ وسعاد تدبّر عمل لهما في أحد مطاعم "ماك دونالد"، يتولى ادارته مواطن أميركي من أصل مصري يدعى مدحت زمزم. في تلك الفترة، كان الزوجان يقيمان في منزل عادل رامي. منذ يومهما الأول في العمل، لاحظ عبدالحفيظ ان زمزم يبالغ في اهتمامه بزوجته. لم يشأ الانجراف وراء شكوكه وافتعال المشاكل لكنه بقي حذراً، الى ان جاءته سعاد يوماً معلنة ان زمزم ابدى استعداده لمساعدتهما في الحصول على بطاقة الاقامة غرين كارد، حتى يتسنّى لهما، طلب الجنسية الأميركية. ولم يلحظ عبدالحفيظ أيّاً من امارات القلق والارتباك على وجه زوجته عندما نقلت اليه عرض زمزم عقد زواج شكلي معها لتتمكن من الحصول على بطاقة الاقامة. وأردفت سعاد مطمئنة ان هذه الطريقة رائجة في الولاياتالمتحدة. لم تختلف ردة فعل الزوج عن ردات فعله السابقة، فرضخ لزوجته ارضاء لنزواتها. بمرور الأيام، شرع عبدالحفيظ يكتشف الوجه الآخر للحياة الأميركية: سعي لاهث لتأمين لقمة العيش ووحدة قاتلة في بلاد بلا رحمة. واضافة الى عمله في المطعم، اضطر عبدالحفيظ لتدبّر عملين آخرين، الأول في محطة وقود والثاني في موقف للسيارات. أما سعاد فكانت بعيدة عنه، مأخوذة بمودة زمزم وغوايته الآسرة. وبعد مرور شهرين على عقد الزواج الشكلي، اختفت سعاد كلياً عن أنظار زوجها. لم تعد تأتي الى البيت ولا الى مكان عملها، بل كانت تكتفي بترك رسالة مقتضبة تخبر بها عبدالحفيظ انها سافرت الى القنيطرة لتمضية بضعة أيام، وأحياناً أسابيع. حاول رحماني مراراً الاتصال بها في منزل ذويها في المغرب، من دون ان يفلح مرة في التحدث اليها. وأدرك رحماني ان زوجته تلاعبت به، وتأكد له ذلك عندما اخبرته بنفسها انها قررت الانفصال عنه لأنها تنوي البقاء مع زمزم. شعر رحماني انه خسر كل شيء: زوجته للمرة الثانية، عمله، حلمه الأميركي وخصوصاً شرفه. لم يبق آمامه سوى ملاذ أخير: الإمام حمزة، توجه الى المسجد ليطلب نصيحته. شرح له الإمام ان زوجته الشرعية تعيش تحت سقف منزل رجل آخر، ولا يمكنه اجبارها على العودة اليه لأنها مرتبطة بعقد زواج شكلي. ولما أخرج عبدالحفيظ وثيقة الزواج المغربي وقدمها للإمام، أجابه هذا الأخير ان الولاياتالمتحدة لا تعترف الا بعقود الزواج المدني الأميركي، والورقة التي بين يديه غير ذات أهمية في هذه البلاد. لم يكن رحماني رجلاً شرس الطباع، لا بل كان يميل الى الوقار والخجل. على رغم ذلك، لم يجد امامه سوى الانتقام سبيلاً للتخلص من عذابه. ابتاع مسدساً وتوجه الى شقة زمزم. خلع باب الشقة ودخل غرفة النوم، بدم بارد، افرغ رصاصات مسدسه في زوجته و"عشيقها"، وكانا يغطان في نوم عميق. وعلى أثر ارتكابه الجريمة المزدوجة، فرّ عبدالحفيظ الى ولاية تكساس. وبعد مرور 36 ساعة، القت الشرطة المحلية القبض عليه، فاعترف بجريمته على الفور، وتم نقله الى اورلاندو حيث أودع السجن في شهر تشرين الثاني نوفمبر من العام 1995.