لن تمضي العلاقة الأميركية - العربية الى خلاصة الغاء قطب فيها للآخر، مهما بدا عليها اليوم من عداء أو قطيعة أو حوار طرشان. فلا أميركا الى زوال، مهما حلم التطرف الأقصى ضدها بذلك، ولا العرب والمسلمون على وشك الانحسار، مهما عظمت غطرسة التطرف الأقصى الآخر المضاد. والسؤال اليوم : في مصلحة مَن أن تتعايش أميركا والمنطقة العربية في خصام على شفير الصراع؟ اذا لم تكن هناك مصلحة لأي من الطرفين، عندئذ لا مناص من العمل الجدي لصياغة علاقة مختلفة نوعياً عن تلك التي سادت لعقود باهتزاز وهشاشة. والمسؤولية، هذه المرة، تقع على الرأي العام العربي أولاً، بشقيه الشعبي والنخبوي، قبل أن تقع على القيادات. والقدر نفسه من المسؤولية يقع على الطرف الأميركي بمختلف قطاعاته، وخصوصاً "المؤسسة" والأوساط الفكرية الفاعلة في صنع القرار. ففي طيات حرب مطلع القرن الواحد والعشرين نوافذ على تصحيح اعوجاجات. أولئك الذين تبنوا مبدأ التدمير التام كضرورة لأي اصلاح لا شأن لهم في اطروحات الاستفادة من الظروف التي فرضتها التطورات. ففي صفوف هؤلاء من يرفض أي مسؤولية عربية أو اسلامية عن احداث 11 أيلول سبتمبر ويعزو كل ما حدث الى مؤامرة مدبرة ضد العرب والمسلمين. انما ليس كل من خرج في تظاهرة ضد الولاياتالمتحدة، أو احتفى سراً، أو شمت أو شتم، أو حمل صورة أسامة بن لادن واعتبر نظام "طالبان" نموذجاً للخلاص، بالضرورة من المنتمين لفكر التدمير التام ولا لمعسكر العداء الدائم مع الولاياتالمتحدة. يتطلب تنظيم الرأي العام، خصوصاً الشعبوي، قيادات مدنية مغيّبة عن الساحة. فليس مطلوباً من الحكومات العربية وحدها التدقيق في صميمها لتتعرف الى اخطاء فادحة ارتكبتها، بل مطلوب ايضاً ان تدقق الشعوب العربية في ما تريده من مستقبل لها ولاجيالها المقبلة. ماذا تريد القطاعات الشعبوية العربية، وما هي أولوياتها، في هذا المنعطف؟ الجواب ليس واضحاً لأن ما نطلع عليه يتجاهل أو يتجاوز الأكثرية، الصامتة منها التي تترك الساحة إما للقيادات أو للتظاهرات، والكسولة منها التي تقبع امام اجهزة التلفزة تخاطب الشاشة في غرف مغلقة، والعاجزة منها بسبب عدم توافر المؤسسات المدنية واحزاب المعارضة للتعبير عن رأيها، والحائرة منها التي لا تعرف حقاً ما هو السبيل الصحيح للخروج من الوضع الراهن الى وضع أفضل. هذه الأكثرية مطالبة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بأن تشارك في صنع التوجهات والقرارات. بعضها يخشى القمع والعقاب، وبعضها تبنى الاحباط والاستسلام وقرر ان أكثر ما في وسعه القيام به هو الاعتناء بالحلقة المباشرة من عائلته، لئلا يصيبها مكروه، وانزلق الى اعتذار عن المشاركة. توجد أقليات ناشطة في مختلف الساحات العربية، الشعبية والفكرية، تبذل قصارى الجهد لإحداث التغيير الضروري في الانماط السائدة منذ فترة وتصطدم كثيراً بجدار العجز، لكنها تثابر. وهناك أقليات أخرى ناشطة، وهي التي يقال انها تمثل الرأي العام و"الشارع" العربي، تعبّر عن كل مآسيها من خلال تحميل اميركا مسؤولية اللوم. جزء منها نخبوي، وآخر يحمل اللافتات في التظاهرات. النخبوي منها يقطر سمّاً في صفحات الجرائد وعلى شاشات التلفزة، والشارع منها يبعث الكراهية والحقد رسالة باسم الشعوب العربية كلها. لهذه الأقلية كل الحق في التعبير عن آرائها وخياراتها، انما من الخطأ افتراضها، أو تصويرها، على أنها الناطق باسم جميع الشعوب العربية. الأميركيون اليوم يسألون "لماذا يكرهوننا؟" وكثير من العرب يسألون اليوم "لماذا يحقروننا ويحتقروننا؟". كلاهما يخاطب الآخر بلغة عدم الفهم والتفاهم. انما في مجرد طرح السؤال حاجة واضحة الى النقاش، لعله يأتي بأجوبة. ولأن السؤال مطروح الآن في مرحلة في غاية الخطورة والدقة، قد تكون الفرصة مؤاتية للجواب عن اسئلة عدة، منها: لماذا أصاب العلاقة الأميركية - العربية هذا القدر من الانفصام على رغم ما رافقها في مراحل عدة من مصالح مشتركة؟ العلاقة الأميركية - الاسرائيلية المتحاملة على الحقوق العربية ليست وحدها الجواب، وان كانت مركزية واساسية في هذه العلاقة. والسياسة الأميركية الفاشلة والانتقامية في العراق ليست الجواب الوحيد ايضاً، وان كانت المواقف العربية في اطار تلك العلاقة متفاوتة في اختلاف. ولا يكفي القول حصراً ان الغضب في الشارع العربي هو نتيجة تقنين العلاقات الأميركية الرسمية مع الحكومات العربية على حساب الشعوب العربية وتطلعاتها وبما ترك الانطباع ان أميركا تحمي حكومات لمصالحها الخاصة. كل ذلك ساهم بالتأكيد في حال الخصام والانفصام في العلاقة الأميركية - العربية انما هناك ايضاً ناحية جهل كل من الطرفين للآخر. فالعرب يعرفون أميركا من منطلق سياساتها السيئة نحو المنطقة، والأميركيون يعرفون العرب من منطلق صراعهم مع اسرائيل. كل منهما يجهل الآخر كشعب، وكل منهما فشل في اقامة علاقة تتعدى تلك القائمة بين حكومات الطرفين. اليوم، تقوم حرب دعائية بشقين، عدائي وتهادني، في العلاقة العربية - الأميركية. أزحد محاورها اعلامي، وآخر تتبناه الحكومات. اذا كان هدف هذه الحرب الدعائية تسويق رأي قطب عند القطب الآخر إما للتعالي عليه أو للومه، فإن هذه الحرب ستوسع الهوة القائمة. اما إذا كان الهدف التعرّف الى ما تتطلبه مخاطبة الآخر والأخذ ببعض آرائه، فلا مناص من استبدال لغة الابلاغ بلغة الاصغاء. اميركا لن تكسب معارك هذه الحرب اذا جعلت العنصر العسكري والاستخباري والمالي فيها الأساس بعيداً عن العنصر السياسي. فمهما خاطبت الشعوب في العالمين العربي والاسلامي لتقول ان هذه ليست حرباً على العرب أو المسلمين، لن يؤخذ خطابها على محمل الجد ما لم تعدّل سياساتها. وكي تعدّل سياساتها وتحسن مخاطبة الشعوب، لا بد من مساهمة عربية جذرية من مختلف القطاعات، من الحكومات الى الأكثرية الصامتة الى الأقليات الناشطة الى رجال الدين الى الاعلام. فالقرار عربي بمقدار ما هو اميركي. والسؤال هو: ماذا نريد؟ ماذا تريد الاكثرية العربية وليس فقط تلك الاقلية التي ابلغت بوضوح ان الدمار والتدمير والقطيعة والانقطاع عن عالم اليوم هو الخيار. فالفرصة متاحة للتأثير في صنع التوجهات الأميركية شرط العزم على الانخراط الفعلي والجديد نوعياً ليحل مكان نمط تصدير اللوم والاكتفاء بالمناحة. وهذا يتطلب الاجهار العلني بالمواقف والآراء داخل الساحة العربية والى الساحة الأميركية والدولية. وكمثال، فإن اسامة بن لادن يحسن استخدام الاعلام لنشر مفهومه للاسلام والقضايا السياسية بكل حنكة وفي اطار استراتيجية متعددة الأصعدة. رسالته وحدها هي التي تصل الى العالم. فإذا كان مفهوم رجال الدين ان هذه رسالة خاطئة بحق الاسلام والقضايا العادلة، فمن الضروري ان يرفعوا أصواتهم بلا خوف من عقاب أو ملامة. وكمثال، فإن المعركة على السلطة في فلسطين أخذت في الآونة الأخيرة بعداً جديداً بعدما خرجت تظاهرات تحمل صور بن لادن لتطيح بخيارات التفاوض والتعايش السلمي التي تبناها الرئيس ياسر عرفات. فإذا كانت الأكثرية الفلسطينية ضد تبني اسامة بن لادن قائداً لطموحاتها على حسابها، فلترفع أصواتها قبل ان يستغل رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون الأوضاع لاضرام حرب اهلية فلسطينية تفيده في حقده واستبداده وغاياته المبيتة. وكمثال، فإن تعاطف الشعوب العربية مع الشعب العراقي لا يترجم نفسه، كما يرغب البعض في القول، بأنه تضامن مع الرئيس العراقي صدام حسين. وهنا أيضاً، اذا كان الهدف هو التأثير في السياسة الأميركية الفاشلة والمضرة بالعراق، فيجب العمل على التأثير في كل من الحكومتين الأميركية والعراقية من أجل اخراج العراق من خانة المعارك الشخصية: حرب بوش على صدام أو حرب صدام على عائلة البيت الأبيض. وكمثال، ان المعركة ليست فقط في اطار السياسيات الخارجية لأميركا نحو المنطقة، وانما هي بالمقدار نفسه من الأهمية في عقر الدار العربية. فالانفصام عارم بين القيادات الحكومية والشعوب العربية. كل هذا لا يبرر مسار السياسات الاميركية الرديئة والخطيرة في قصر نظرها وفي افتراضاتها التي ترفعت عن الشعوب واعتقدت ان لغة المصالح مع الحكومات كافية. المهم الآن ان تشارك الشعوب في عملية التصحيح والاصلاح لئلا تحمل حفنة منها الانطباع الخاطئ عنها وتقود بها الى المزيد من البؤس والظلم والدمار. فأميركا تعترف بهشاشتها وترغب في الاصغاء. وهذه فرصة لصياغة علاقة جديدة بين شعبين لن يمحو احدهما الآخر.