لم يكن يوم 11 أيلول سبتمبر 2001 جزءاً من تاريخ أميركا ولا من تاريخ الفكر السياسي الإسلامي، وإنما هو جزء من تاريخ العالم. وكيف كان ذلك؟ من مفردات المعجم السياسي الغربي مصطلحات مثل الحكومة العالمية والسلام العالمي ووحدة الشعوب والعقلانية والاستنارة والتسامح. ومنذ حرب الخليج ظهر مصطلح العولمة. وأخبرنا الخبراء وأشار علينا المستشارون وعلّمنا العلماء أن العالم كله أصبح صغيراً مترابط الأطراف تنتقل فيه السلع ورؤوس الأموال والتكنولوجيا بحرية كبيرة، إذ قد حدثت ثورة اتصالات قربت أجزاء العالم بعضها من بعض، بل جعلت العالم قرية واحدة عالمية، كما يقولون. كان الخبراء والعلماء والمستشارون وفقهاء السياسة يصبون الكلام الجميل في آذاننا، لكن عيوني كانت ترى شيئاً مغايراً. فمنذ عصر نهضتها الكبرى، خصوصاً منذ نهاية القرن الثامن عشر عصر الاستنارة والدول الأوروبية تجيش الجيوش وتنطلق في ربوع الأرض تلتهم وتستغل وتحتل وتوظف. بدأت الهجمة الامبريالية بإبادة شعوب قارات بأسرها الاميركتين - استراليا - نيوزيلندا ونقل عشرات الملايين من افريقيا لتسخيرهم مادة بشرية تعمل في مزارع القطن في جنوبالولاياتالمتحدة، ثم قامت جيوش أوروبا بعد ذلك بفتح آسيا وأفريقيا وغرس الجيوب الاستيطانية فيها، وشنت حرب الأفيون ضد الصين وحروب أخرى عدة في بلاد العالم الأخرى. وكانت الايديولوجية المساندة لعملية النهب والقمع هذه بسيطة غاية البساطة، واضحة تمام الوضوح: العالم مادة والإنسان موجود في الأرض ليستهلكها بنهم شديد، خلاصة في الاستهلاك، وغايته هي المنفعة واللذة. ولكن الموارد محدودة 20 في المئة من سكان العالم، أي أهل الغرب، يستهلكون 80 في المئة من مواردها الطبيعية، انها المعادلة الرياضية الصارمة، والقوة هي المعيار الوحيد والقيمة الأوحد. كل شيء يوظف، كل شيء مادة استعمالية. انظر على سبيل المثال الى تاريخ مصر المحروسة، تاريخها مع الغرب أخذ شكل مواجهة عسكرية منذ بداية استنارته وحداثته: ثورة الحرية والإخاء والمساواة، ترسل لنا بجيوش نابليون - إحباط محاولة محمد علي تحديث مصر وبعض أجزاء من الدولة العثمانية - جيوش بريطانيا الديموقراطية تغزو مصر وتهزم أحمد عرابي، ممثل الشعب المصري، لتناصر الخديوي توفيق، ممثل الاستبداد - ضرب تجربة عبد الناصر الوحدوية. "إني اسمع صليل سيف الرومان في قرطاجة". البواخر مخرت عرض النيل لأول مرة تحمل المدافع لا الجند، والسكك الحديد أنشئت اصلاً لنقل الجنود، وقد انشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول نعم بلغتهم. هذا ما يقوله بطل رواية "موسم الهجرة إلى الشمال". وهو يقول أيضاً في ما يقول: إني اسمع قعقعة سنابك خيل أللّنبي تطأ أرض القدس، أرض القدس الغالية المقدسة الحبيبة، حينما دخلها هذا الاستعماري الصليبي المغتصب، قال: "لقد عدنا يا صلاح الدين". الحرب الضروس إذاً مستمرة، يغذيها حقد ونهم لا يعرف لهما التاريخ نظير. ولنتخيل هذا الشاب الفلسطيني الجالس في قريته الآمنة عام 1882 وجاء قوم شقر قالوا إنهم يهود من موسكو فسماهم المسكوب أي الأجانب وقاومهم. فعلى رغم أنهم قالوا إنهم يعودون الى أرض أجدادهم إلا أنه كان يعرف تمام المعرفة أنهم جاءوا للاستيلاء على أرضه هو، وفجأة تصدر أكبر قوة غربية ديموقراطية استعمارية: انكلترا، وثيقة تشير له ولكل الفلسطينيين بأنهم الجماعات غير اليهودية. وتأتي سلطات الانتداب والحضارة والتقدم بتفويض من عصبة الأمم الغربية، وتساعد الاستيطان الصهيوني وتضرب الفلسطينيين وتعلن الدولة الصهيونية الكومنولث الثالث - الهيكل الثالث - حلم الأجداد - أرض بلا شعب - دولة يهودية ودولة اليهود، و×سارع الغرب الديموقراطي الذي يقال إنه يفصل الدين عن الدولة الى الاعتراف بها وتأييدها ودعمها وضمان بقائها. ويتصاعد الدعم بشكل مستمر إلى أن نصل إلى مرحلة انتفاضة الأقصى حيث يستشهد الشباب الفلسطيني يومياً دفاعاً عن نصف حقوقه المشروعة، والتي صدرت بخصوصها قرارات دولية، أن ينسحب المستوطنون من الضفة الغربية وأن تؤسس دولة فلسطينية عاصمتها القدس. والغرب ساد في تأييده وفي ثرثرته عن حقوق الشعب اليهودي في العودة بعد ثلاثة آلاف عام، ويتركون الاسلحة الإسرائيلية والأميركية الصنع تدك القرى الآمنة في فلسطين. كنت أجلس في غرفتي أنظر ماذا يحدث، وأشعر بالعجز الرهيب فيموت الأطفال هنا، ويتحدثون هناك عن نقل السفارة الاميركية الى القدس وعن ضرورة وقف الإرهاب وعن مقاطعة مؤتمر ديربان لأنه يساوي بين الصهيونية والعنصرية، ويطالب بتعويض سكان القارة السوداء ونسلهم عما حاق بهم من ظلم وتدمير، هذه المادة البشرية التي نُهشت نهشاً، والتي دمر تاريخها وكيانها. عالم ظالم هذا الذي نعيش فيه: عالم كذاب - يكثر فيه الكذابون، ويقوم الإعلام الاميركي المصقول بتطويع وتلميع كل شيء. هل حان الوقت بدل أن نغوص في الصور والأكاذيب والتصورات الاختزالية والقوالب اللفظية، هل حان الوقت أن نجلس سوياً كلنا، ظالمين ومظلومين، أثرياء وفقراء، مسلمين ومسيحيين ويهوداً وبوذيين وهندوساً، كإنسانية مشتركة لندرس جذور العنف في عالمنا، هذا العالم الذي ينتج من أدوات الفتك والدمار أكثر مما ينتج من أدوات الانتاج والعمار؟ هذا العالم الذي يهدد التوازن البيئي بل الوجود الإنساني على هذا الكوكب؟ هل حان الوقت أن ننظر بعين فاحصة إلى هذه التكنولوجيا المتقدمة التي صنعناها ففرضت علينا قوانينها المادية الفولاذية، فضمر الإنسان وجفت العيون، وساد الظلم وذبلت الظهور. هذا هو السؤال الذي تطرحه أحداث أيلول سبتمبر المأسوية على الفكر السياسي الإنساني، بما في ذلك الفكر الإسلامي. والله أعلم. * كاتب مصري.