الفنان ماجد أفيوني شخصية مميزة في عالم التمثيل، صفاته كثيرة، وكلها تصب في خانة الأجوبة المفتوحة على التنوعات المشهدية. فهو ممثل بامتياز ويمكنه تأدية مختلف الأدوار مهما بلغت في صعوبتها. الشخصية التي طبعت حضوره كانت "استاذ بلبل" في مسلسل "الدنيا هيك" للراحل محمد شامل، وعُرض هذا المسلسل فترة زمنية طويلة على الشاشة الصغيرة، الأمر الذي جعل "بلبل أفندي" يُغني في كل بيت. غير ان ماجد أفيوني يمثل ذاكرة فنية وثقافية، فهو في الساحة الفنية منذ أكثر من خمسين عاماً، وشارك الى جانب اسماء كبيرة وعاش مراحل الازدهار والنهوض، كما انه عايش مراحل الانحطاط الفني الذي يحاصرنا اليوم. وبين الماضي والحاضر، تمتد ذاكرة أفيوني جامعة الكثير من مشاهد الأيام التي غادرت ولم تعد. اما صوت أفيوني فهو أيضاً يمثل خصوصية في الذاكرة الفنية الى جانب اتقانه العزف على العود، لكنه اليوم غير قادر على العزف بسبب امراض القلب وهذا ما يجعله يعيش في حسرة كبيرة. في هذه المقابلة حاولت مجاراة الذاكرة الفنية من خلال بعض الأسئلة وجهتها الى الفنان ماجد أفيوني. ماجد أفيوني أين أنت اليوم؟ - الفنان إذا اتخذ الفنون مهنة، لا تستطيع أن تسأله أين أنت الآن، فالفنان هو في كل مكان وخصوصاً اليوم، أمام هذا التطور العلمي في البث التلفزيوني والتسابق الفضائي لإيصال الصورة والخبر. أنا كفنان وأنت كشاعر، في كل مكان. الى أين وصلت بالفن؟ - ليتني أستطيع أن أتقدم سنتميتراً واحداً. الفن هو موهبة إلهية معقدة جداً، لا أحد على هذه الأرض يستطيع ان يقدم الفن خطوة واحدة، إذ لو فعل فهو اكتشاف وليس اختراعاً. ماذا تخبرنا عن آخر أعمالك؟ - آخر عمل قمت به هو للمرحوم سعدالله ونوس "منمنمات تاريخية" للسيدة نضال الأشقر، ولعبتُ دوراً أعطيته شيئاً من عقلي وبعضاً من روحي، إذ جذبني هذا التصوّف الأخّاذ وقمت بدور "التاذلي" وهو شيخ وصاحب طريقة وله أتباع ورأس ماله "صلاح أمرك للأخلاق مرجعه/ فقوّم النفس بالاخلاق تستقم/ والنفس من خيرها في خير عافية/ والنفس من شرها في مرتع وخم". عرفناك بشخصية "أستاذ بلبل"، أين صارت هذه الشخصية؟ - لا غياب لنجم في السماء عن انسان في الأرض كما يعتقد العرب، لكل انسان نجم، وأنا لا أقول كما قال ابن الزبير "قد غاب نجمي ولم يعد لنجمي من طلوع". الاستاذ بلبل شخصية منوطة بمحيطها، إذ لها تاريخ زمني وأناس من الطينة نفسها، أي طيبون، جدي وجدك وأجدادهم، الذين كانوا يتعاملون بأغلى ورقة نقدية وهي، الكلمة. كيف تقوّم بين فن اليوم والأمس؟ - الفن الأكاديمي لم يتغير كقاعدة منذ "ستلزلفسكي" صاحب أول اكاديمية للفنون في موسكو. وان دخلنا في التاريخ أكثر، فمن عهد "سوفوكليس" الذي ترجمه طه حسين، لم تتغير قاعدة واحدة لأنه مبدأ أساس وقاعدة. أما الفنان البشري فهو الذي يغرق وينهل ويتقدم، إما ان يكون فناناً خلاقاً أو أن يكون محدوداً ويبقى في زاوية مدهوشة. ألا ترى استسهالاً في الفن السائد اليوم؟ - المطروح اليوم على الأرض ان كان على المسرح، باستثناء القليل، أو في الشاشة الصغيرة، إذا اردنا ان نجرده أو نضعه تحت التشريح، فعندما نفتح الصدر فلا نجد قلباً ولا رئة ولا كبداً. انه نوع من التهريج وارضاء لغرائز بعض الناس التي تهوى "النطنطة". كيف تنظر الى التجارب الشابة التي تعرض في الشاشة الصغيرة؟ - الدراما بحد ذاتها كونية، عالم كبير من المشكلات وتتراوح فيه الأعمار وتتعدد مشكلاتها، فلا بأس من المشكلات الشبابية، ولكن البأس وكل البأس في طريقة علاجها المنقوصة، إذ ان الدراما كما نعرفها هي عصا ارسطو، أي يجب ان تسير الى الهدف المقصود من دون أن تسير من دون انفلاشات وتعرجات كي لا تقع في الملل والسير الطويل. فهذا ما يجب علينا ان نتعلمه جيداً، وهذه العصا يجب أن تشير الى شيء، فالعاملون اليوم في التلفزيون لا يعرفون الايماءة ولا الاشارة، عملهم خبط عشواء كما قال زهير بن أبي سلمى: "رأيت المنايا خبط عشواء/ من تصب تمته/ ومن تخطئ يعمر/ فيهرمِ". ألا تحنّ الى الماضي بما كان يحوي من فنون؟ - طبعاً، ومن دونه أشعر بأنني يتيم. نعم أنا يتيم الفن، والفن كما تعلم هو علاقة صادقة مع الآخرين، وإلا لن تتم المشهدية. تأسيساً على ما تقدمت به، برأيك، كيف يمكن استعادة الأصالة الفنية؟ - الأصالة كامنة في الأصيل كمون النار في الحجر، لا يقدحها إلا قادح من أهلها. الفن أعني به فن الممثل الذي له أعماق وموهبة. إذ روى لي والدي حكاية حلوة صغيرة عن حكواتي كان يقرأ في المقهى كل ليلة قصص عنترة والزير وألف ليلة وليلة وأحياناً الكتاب الممنوع في ذاك الزمان "رجوع الشيخ الى صباه"، وكان هذا الحكواتي عندما يقرأ وينهب الليلة، يطوي الصفحة ويغلق الكتاب كي يستأنف في الليلة التالية القصة، وقرأ على الناس ثلاثين سنة، وكم طوى من الصفحات... وبعد أن غيبه الموت، عرف الناس أنه أُمّي لا يقرأ ولا يكتب. هنا يكمن الممثل، إذ يجب أن يقنعك بالشيء وهو غير موجود. أنا إذ كنت ممثلاً ناجحاً اقنعك وأنا على الخشبة بأن الذئب يريد أن يأكلني وليس هناك من وجود لهذا الذئب. كيف ترى المسرح اليوم؟ - المسرح اليوم في العالم العربي يعاني. المسرح في أوروبا تصادمي وفي البلاد الاسلامية معدوم، وفي الشرق الأوسط طقوسي، لم يتطور عن ذلك قيد أنملة. نعرف انك تُغني وصوتك جميل، ماذا تخبرنا عن صوتك اليوم؟ - أعود وأقول، شخصية الأستاذ بلبل، إذا ظلمنا الكوميديا وقلنا انها كوميدية يضحك، اتخذت من الغناء شيئاً يطبق المثل الحلبي القائل: "الصوت يا بيضحّك يا بيطرب". فأنا نهشت الضحك. علاقتك اليوم بالعود كيف صارت؟ - العود شيء جميل وآلة صعبة جداً، لأنه غير مقطّع. فالنقاط تتعلق بأصابعك وروحك. علاقتي بالعود انه صديق، أنظر اليه بعد أن أصابتني الجلطة، ويدي لا تطاوعني كثيراً. أنظر الى العود فأشعر بأنه يكلمني ويقول "اشتقنا يا حلو والله اشتقنا". ولكن للاسف...؟! هل تعتبر نفسك مطرباً؟ - لا، انما لدي إلمام بالموسيقى والعزف على العود، ولا أغني الا اذا احتاج العمل الفني الى ذلك، أليس اسمي "بلبل أفندي"، فكيف لا أغني؟ يضحك. عملت مع الفنان الراحل حسن علاء الدين شوشو، ماذا عن تلك العلاقة؟ - الفنان الراحل شوشو كان يعمل بتلقائية وعفوية أوصلت المسرح الى النجاح والاستمرار طوال عشر سنوات. هل حاولت تقليد شوشو؟ - لو حاولت تقليده لكنت خسرت موهبتي وفني. الى أي مدرسة فنية ينتمي ماجد أفيوني؟ - في الفن لا يوجد شيء اسمه ممثل كوميدي أو ممثل دراما أو تراجيديا، الممثل الناجح يجب أن يؤدي جميع الأدوار. الكوميديا عند العرب مفهومة في شكل خطأ، لأنه اما ان تقوم على التشويه الخلقي، مثل الفم الكبير والاسنان البارزة، وهذا عيب كبير لا يدعو الا الى قول سبحان الله والله الشافي، أو أن تقوم على التشويه اللفظي وهذا أسوأ، لأنه اذا كان التشويه الخلقي غير مقصود، فإن اللفظي مع سابق الاصرار والتصميم يستحق اصحابه المحاكمة لأنه مبني على الألفاظ المؤذية. أين تجد نفسك أكثر: في المسرح، التلفزيون، السينما؟ - عملت في المسرح ما يقارب الأربعين سنة، وأجده الأقرب إلي لأنه يعطيني الحرية في العطاء بعفوية وطبيعية أكثر من بقية المجالات. هل عملت مع الأخوين رحباني؟ - في الواقع تربطني صداقة حميمة مع الرحابنة، فقد كنا نعمل سوياً في محطة الشرق الأدنى حتى عام 1956، وكان أول عمل معهم مسلسل "من يوم ليوم" وبعدها شاركت في مسرحية "بترا" بطولة السيدة فيروز. لم يتسن لي العمل معهم كثيراً لأنني كنت مرتبطاً بالعمل مع شوشو إضافة الى انشغالي بالمسرح الوطني. نعرف انك عملت في تقديم البرامج في تلفزيون لبنان، ماذا تخبرنا عن تلك الفترة؟ - بدأت في تقديم البرامج في تلفزيون لبنان عام 1959، أي من بدايته وكان العمل شيئاً جميلاً، وأذكر ان تلفزيون لبنان كان أول تلفزيون ملون في دنيا العرب. نعرف انك أسهمت في كتابة بعض الأعمال، ماذا عن كتابة النص عند ماجد أفيوني؟ - أنا لست كاتباً، انما اضطر أحياناً الى التدخل في تصحيح بعض النصوص من أجل رفع مستواها اللغوي، فقد تكون مكتوبة باللهجة المحلية اللبنانية، لذا أحاول أن أضبطها وأُحمّلها بعض الأفكار. كيف تقوّم حياتك الفنية؟ - لو أردت أن أضع الأوسمة التي منحت لي لما استطعت المشي، انما كل هذه الأوسمة لن تأتيني بثمن سندويش "فلافل". كيف تعيش أيامك في هذه المرحلة؟ - أبكي الآن لأنني غير متزوج، وأشعر بالابوة في جميع شباب لبنان الذين يهاجرون، أبكي وأتذكر ما قاله لي جدي، وكان جدي مزارعاً: "يا ولدي هذه الأرض اللبنانية التي أزرعها ازرعني بها". انك شبه مقيم في المقهى، لماذا؟ - لم يعد مقهى، انه مكتب. من يريد أن يراني فأنا هنا، لضيق ذات الوقت. المقهى هو مكتب للأشغال والأعمال الزاهرة! يضحك طويلاً.