قرأنا في "الحياة" خلال الأسابيع الأخيرة عدداً من المقالات التي تنحاز الى المحافظة على الطابع السلمي للانتفاضة ورفض جرها الى "مربع العنف". وقد جاء معظم تلك المقالات من يساريين حاليين وسابقين، ربما لأن النظرية الشيوعية ترى الانتفاضة الشعبية والجماهيرية اعلى اشكال النضال، وربما لأسباب اخرى نفسية لا شأن لنا بمعالجتها إن كان لها علاج أصلاً. المصيبة ان ذلك قد حدث بعد سلسلة عمليات عسكرية فلسطينية أدت الى بداية استنزاف دولة العدو مجتمعاً وقيادةً وحشرها في زاوية الخوف والهلع، واندلاع مقولات كثيرة تنادي بإخلاء المستوطنات والانفصال عن الفلسطينيين، وصولاً الى الانسحاب التام من الاراضي المحتلة عام 1967. في هذه السطور محاولة لمناقشة طروحات هذا الخطاب والمسوغات التي يقدمها في تبرير مطلبه المشار اليه. والسؤال الذي يطرح نفسه بداية هو: من الذي قال إن المطالبين بالكفاح المسلح يريدون إزهاق روح الانتفاضة السلمية، او خلط المسارين واحدهما بالآخر؟! ان إمكانية تواصل الحالتين لا مراء فيها، لا سيما عندما لا يجري خلطهما، عبر إبعاد السلاح عن الأعمال الشعبية. واذا كانت جنازات الشهداء هي الفعالية الأكثر جماهيرية، فقد كانت جنازات شهداء العمل العسكري هي الاكثر حضوراً. وهل خرجت في تاريخ فلسطين جنازة مثل جنازة الشهيد يحيى عياش، وهو الذي سقط بعد اوسلو واندلاع التعاون الامني في وضح النهار؟! يحاول البعض ترجيح رؤيته بضرورة ابعاد الانتفاضة عن "العنف المسلح" عبر مقارنتها بانتفاضة ال 1987، أي الانتفاضة الاولى، وتفضيل هذه الأخيرة بوصفها انتفاضة جماهيرية وشعبية تخلو من العمل المسلح، استطاعت تحقيق انجازات كبيرة. وعندما نتابع لنعرف اية انجازات حققت، سنفاجأ بقولهم انها أعادت منظمة التحرير الى الواجهة وانتجت اوسلو! في الرد على هذا الكلام، يمكن القول ان الانتفاضة الاولى كانت رائعة بالفعل في عاميها الاول والثاني، اما بعد ذلك فتحولت الى عبء على الشارع الفلسطيني اكثر من كونها عبئاً على المحتل الاسرائيلي الذي نخر عظامها بالعملاء ممن استفادوا من الزعران والجهلة في احباط الناس بالممارسات القذرة. وقد حدث ذلك بعدما عمد الطرف الفلسطيني الرسمي الى محاولة احتوائها، وهو ما اضطر فصائل اخرى عاملة في الانتفاضة الى التحول الى العمل المسلح، كما حصل من خلال العمليات الشهيرة لحركة "حماس" في غزة التي اصطادت عدداً لا بأس به من جنود الاحتلال. اما اعتبار أوسلو إنجازاً للانتفاضة الاولى فهو الهراء بعينه، لأن الاتفاق حقق للإسرائيليين ما لم يحلموا به، ولو حصلوا على أقل منه قبل الانتفاضة لما صدقوا انفسهم. الانتفاضة الحالية كانت ولا تزال أقوى وأكثر تاثيراً بالدعم العربي والاسلامي، والاهم بالعمليات المسلحة التي قتلت ما يقرب من اربعين جندياً ومستوطناً وعدداً أكبر بكثير من الجرحى، فكيف لو تعززت وتحولت الى حرب استنزاف حقيقية للعدو؟! مما يقال ايضاً في معرض ادانة العمل المسلح او المناداة باستبعاده ذلك، التحليل "الواقعي" لموازين القوى: بين طائرات ودبابات وصواريخ، ومجرد اسلحة بسيطة لدى الطرف الفلسطيني. هذه النظرية لا تصدر عن وعي بالحالة الإسرائيلية وتعقيداتها، والا فما الذي ستفعله الدبابات والصواريخ والطائرات في مواجهة عمليات تضرب في المستوطنات والعمق الاسرائيلي؟ هل سيفني الجنرالات شعباً بأكمله مقابل ذلك؟! هذا المنطق لا يقرأ تاريخ الشعوب ولا تاريخ المقاومة. وفي الحال الاسرائيلية هناك ما هو اكثر من ذلك: فقد خرج الاسرائىليون من جنوبلبنان بأقل من 300 قتيل، وهو رقم يمكن ان يدفعه الاسرائيليون في الاراضي المحتلة خلال أسابيع لو التحمت السلطة وحركة فتح بالشعب الفلسطيني في العمل المسلح. اما بوجود التناقض القائم واستمرار التنسيق الامني جرى اعتقال مخططي انفجار الخضيرة الكبير من طرف السلطة بعد ايام من تنفيذ العملية، فإن الامر سيبقى قاصراً عن تحقيق الانجازات. الشارع الاسرائيلي مدجج بالخوف ويكفي ان تناله اسلحة الرجال ومتفجراتهم لعام او اكثر حتى يركع ويطالب بالانسحاب من الضفة وغزة. والمطالب الشائعة حالياً بإخلاء المستوطنات لم تأت بسبب رماة الحجارة وانما بسبب العمليات المسلحة. يقولون ايضاً، ان الرد الاسرائيلي على العمليات سيكون بإعادة احتلال المناطق الفلسطينية، وهو امر قد يدعو الى الأسى لو كانت تلك المناطق قد تحررت فعلاً. اما الواقع فهو انها تعيش احتلالاً من نوع اسوأ. فقد ازدادت الحواجز والاحتكاكات مع العدو، ولا تسأل عن معاناة الناس من السلطة ذاتها. ان احداً في الدولة العبرية لا يمكنه تخيل العودة الى "المناطق" كما يسمونها، وهم الذين لم يصدقوا انهم تخلصوا من عبء ادارتها وسكانها الفلسطينيين او اكثرهم على الاقل. وعلى اية حال، فإن حدوث مثل ذلك الاحتمال سيكون وبالاً على الاسرائيليين اكثر من الفلسطينيين، وسيجعل اصطياد الجنود امراً ايسر بكثير من الوضع الحالي. يرفض الخطاب اياه القياس على تجربة حزب الله، ونسأل: ما هو الفارق بين الحالتين، اللهم الا في وجود سلطة هناك تؤيد المقاومة وسلطة هنا تطاردها وتؤكد خيار التفاوض بدل استنزاف العدو وصولاً الى دحره. ان الظرف الدولي هو ذاته في الحالتين، اما العربي فهو افضل هذه المرة شعبياً ورسميا، وفيما كان حزب الله شبه وحيد في ساحة المعركة، فإن بالامكان انخراط كل الشعب الفلسطيني في المواجهة هنا. الا يجعل ذلك فرصة انتصار انتفاضة الاقصى ودحرها الاحتلال افضل من الفرصة الاولى التي كانت مفاجئة في نجاحها؟ ينطوي الخطاب المذكور على اشكالية مهمة تتمثل في استبعاد فلسطينيي 1948 من حسابات الصراع في الحال القائمة، او في حال اندلاعه بصورة شاملة. ان اكثر من مليون فلسطيني داخل اسرائيل يمكنهم ان يتحولوا الى عناصر تدمير وتخريب في كل مؤسسات المجتمع الاسرائيلي، ولن تنفع معهم لا الطائرات ولا الاسلحة النووية، ولن يبيدهم الجنرالات بالكيماوي، او يضعونهم جميعاً في السجون. هذه الفئة على استعداد للانخراط في صراع تؤمن انه جذري لاقتلاع الاحتلال، اما الانخراط في انتفاضة تحفها المفاوضات واللقاءات السرية وبرامج التنسيق الامني من كل جانب، فهو ما لن يحدث. وقد ثبت هذا الامر عندما شاركت تلك الفئة في الايام الاولى من اجل الاقصى وقدمت ثلاثة عشر شهيداً ثم توقفت بعد ذلك، اثر اللقاءات التي بدأت ولم تتوقف حتى الآن. وبالمناسبة فقد كان لمشاركة المناطق المحتلة عام 1948 في بداية الانتفاضة، وسقوط شهداء وجرحى منهم، وقع الصاعقة على مؤسسة الاحتلال. لكن من اسوأ ما يردده الخطاب المذكور، الفصل بين رجال المقاومة ومؤيديها في الداخل واقرانهم في الخارج، عبر القول ان قادة الداخل يريدون انتفاضة سلمية، فيما يريد اهل الخارج، وهم على ارائكهم كفاحاً مسلحاً، وهذا لعمري جناية على الحقيقة. لقد كان الشيخ احمد ياسين، وفصيله يساوي حركة فتح في الداخل شعبياً إن لم يتفوق عليها، اول من طالب بإدخال الرصاص الى عمل الانتفاضة واستنزاف العدو. كما ان فتح نفسها او عدداً من رموزها واكثر عناصرها أيدوا ذلك ايضاً، وان ظلوا محكومين لإرادة السلطة للاعتبارات المعروفة. وختاماً، نسأل هؤلاء الحريصين على سلمية الانتفاضة بحجة الحفاظ عليها، هل يمكن لمثل هذه الانتفاضة ان تتواصل والدم يسيل من طرف واحد؟ الا يثير ذلك شيئاً من الاحباط في الناس لا سيما في ظل وجود جحافل العملاء الذين ساهموا بقوة في ضرب الانتفاضة الاولى، فيما بدأوا يعملون على تكرار التجربة مرة اخرى؟!