اختارت الصحف الأميركية عنواناً "عرفات يقبل مقترحات كلينتون" لاستئناف المفاوضات. ووجدت هذا العنوان من نوع "لا تقربوا الصلاة" فهو ناقص، وقد أوضح نص كل خبر قرأت أن أبو عمار وضع تحفظات تبدأ ولا تنتهي، حتى ان المفاوضات أصبحت غاية لذاتها فهي لن توصل إلى حل. العنوان أيضاً خاطئ، لأنه قد يوحي بأن الرئيس الفلسطيني تراجع، في حين ان الذي تراجع هو الرئيس كلينتون، فهو في البداية طلب رداً خلال فترة زمنية محددة ثم مددها، عندما اكتفى أبو عمار بارسال أسئلة إليه. وأهم من هذا أن كلينتون أعلن أنه يريد من الفلسطينيين نعم واضحة أو لا، ولم يتجاوب أبو عمار مع طلبه هذا. بل ان اقصى آمال كلينتون اليوم هو اتفاق مرحلي يزعم معه أنه حقق شيئاً نتيجة لمثابرته. في كامب ديفيد، رفع الرئيس كلينتون صوته على الرئيس الفلسطيني، وشاركت وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت في محاولة ارهابه، وهي تقول له إن عليه أن يفهم أنه يخاطب رئيس أقوى دولة في العالم. هذه المرة حذر الرئيس الأميركي الرئيس الفلسطيني من أن إسرائيل ستعلن الحرب على الفلسطينيين، وأن أميركا ستؤيدها. ولا أدري ماذا قال أبو عمار في المرتين، ولكن أتصور أن رده كان من نوع "ضربوا الأعمى على عينه، قال هي خسرانة، خسرانة...". الأميركيون لا يستطيعون أن يهددوا أبو عمار بشيء، فهو لا يتلقى مساعدات ببلايين الدولارات قد يحرم شعبه منها، والمساعدات العسكرية والاقتصادية الأميركية لإسرائيل لن تزيد أو تنقص، مهما كان الموقف الفلسطيني. فأبو عمار يواجه أميركا وإسرائيل معاً، لأنهما فريق واحد ضده، وضد العرب والمسلمين. في هذا الوضع هناك ثوابت ومتغيرات، فالرئيس كلينتون ورئيس الوزراء ايهود باراك من المتغيرات، وهذا ليس وضع أبو عمار فهو باقٍ حتى 20 من هذا الشهر، وحتى السادس من الشهر المقبل، ولا تهديد لمركزه على رأس شعبه. غير أن الثوابت الحقيقية هي حق الفلسطينيين في السيادة على القدسالشرقية، بما فيها الحرم الشريف، وانسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية كل إسرائيل أرض فلسطينية محتلة غير انني اكتب عن موضوع التفاوض لا رأيي الشخصي. هذه الثوابت لن تتغير، وقد أكدها وزراء الخارجية العرب في القاهرة، وهم يدعون إلى مزيد من التفاوض. غير أن ثمة ثوابت أخرى، أو حقائق، أرجو أن تتغير، فقد يصدم القارئ العربي أن يقرأ هنا أن الدعم العربي الموعود لانتفاضة الأقصى لم يصل بعد، وانها مستمرة بقدرة ذاتية ورحمة الرحمن. بل ان ما جمعت وسائل الإعلام العربية من تلفزيون وغيره، لم يصل إلى أبطال الانتفاضة. ويبدو أن هذه شنشنة عربية "ثابتة"، لأن هذا كان الموقف العربي الرسمي والإعلامي من الانتفاضة الأولى. وثمة ثابت آخر هو أنه في غياب السلام سيأتي اريل شارون رئيساً لوزراء إسرائيل، ما يعني احتمال انفجار حرب قد لا تقتصر على الفلسطينيين والإسرائيليين، بل تشمل المنطقة المجاورة كلها، وتهز استقرار الدول الأخرى. شارون مجرم حرب معروف لطخ يديه بدماء المدنيين في قِبْيَه وغزة وصبرا وشاتيلا، وخاض معارك لا حاجة لها سنة 1956، حسب التقارير العسكرية الإسرائيلية نفسها، في ممر متلا، وأشرف على ترحيل البدو قسراً في النقب، وسأل أخيراً "هل محمد دحلان لا يزال حياً؟" فقد جعل قتله شرطاً لدخول حكومة ائتلافية مع باراك. غير أنه يريد رئاسة الوزارة إلى درجة أنه بعث برسالة تهنئة إلى الرئيس عرفات في عيد الفطر، مع أنه كان قال مرة بعد مرة إن عرفات ارهابي. الثابت أيضاً ان الإسرائيليين يخافون من رئاسة شارون الوزارة أكثر من الفلسطينيين، فعلى مدى مسيرة السلام، وما تعرضت له من صعود وهبوط، كان الإسرائيليون في كل استفتاء يعودون بغالبية واضحة مع حل سلمي. كيف يمكن أن يفوز "صقر" معروف يتحدث الإسرائيليون أنفسهم عن جرائمه برئاسة الوزارة في إسرائيل؟ إذا فاز شارون فلن يكون ذلك بسبب مهارته، وإنما بسبب غباء باراك وأخطائه المتراكمة. باراك ليكودي في حزب العمل، وهذا ليس رأيي اليوم، فقد سجلته مرات عدة في السابق، وهو انضم إلى العمل عندما لم يجد مكاناً له في ليكود، فكان ذئباً في ثياب حمل، ولا يوجد ما يعكس شخصيته بشكل أفضل أو أسوأ من الرد على أطفال الحجارة بالصواريخ ومدافع الدبابات، فهذا هو باراك على حقيقته. وبلغ من سوء أداء باراك أن الإسرائيليين لا يلتفتون إلى الوضع الاقتصادي الذي تحسن كثيراً منذ جاء إلى الحكم، فقد أظهر تقرير أخير ان الانتاج زاد 9.5 في المئة من 3.2 في المئة سنة 1999، وان قطاع الأعمال زاد أربعة أضعاف عما سجل في الفترة نفسها، وبلغت النسبة 7.7 في المئة، وان دخل الفرد ارتفع 4.3 في المئة، وبلغ 500.17 دولار في السنة، بعد انخفاض سنتين متتاليتين. مثل هذا الوضع الاقتصادي وحده يكفي للفوز برئاسة الوزارة في إسرائيل أو غيرها، ولكن ايهود باراك يدفع ثمن خداعه وتردده، وكلامه الزائف عن السلام، وهو يقوض أسسه، والنتيجة أن الرجل الذي أطاح بنيامين نتانياهو خلق مناخاً يهزمه فيه من هو أسوأ منهما مجتمعين، إذا كان هذا ممكناً.