أقام الفنان المغربي عبداللطيف العصري معرضه الشخصي الشخصي الأخير في صالة تحمل اسمه، وهي حالة خاصة افترشت لوحاتها الجديدة طابقين رحبين منها. تقع الصالة في احدى حواري ساحة الباستيل التاريخية، ويستمر العرض خلال أيام شهر كانون الثاني يناير الجاري. تسافر معارض هذا الفنان ونشاطاته الكثيفة منذ أوائل الثمانينات ما بين فرنسا والمغرب. هو يعمل في محترفين متباعدين، يقع الأول في باريس والآخر في الدار البيضاء. وهو أسس في العاصمة الفرنسية جمعية تشكيلية خاصة بالفنانين المغاربة، وصالة خاصة به. يبدو أسلوب الفنان العصري في المعرض الراهن أشدّ استقراراً وتوازناً مقارنة بمعرضه الأخير في صالة "لوماند" العام الفائد، عانت تجربته خلال سنوات التأرجح والمراوحة بين خطين تجريديين متعارضين: التجريد التعبيري والتجريد البنائي الموسيقي أو التوقيعي. غلب الجانب الثاني بسبب قرابته من ثقافته المشرقية، ذلك انه يرتبط بالتحولات الرهيفة التي نقرأها في سطوح وجدر السيراميك والزيلليج والفسيفساء والشمسيات واتصال سطوع هذه الصناعات النورانية بالنظام المقامي في الموسيقة العربية الأندلسية المغربية. وهي الموسيقى التي توسم بأنها لحنية أفقية، لأن حركتها تتجه مع التحولات اللانهائية للمفردة البصرية أو اللحن المقامي. تنضبط تكويناته الأخيرة ضمن رقعة شطرنج فراغية متعامدة غير هندسية، تكشف رغبته في ضبط جموحاته اللونية، وتبدو مرصّعة مثل ألوان الزجاج المعشّق ونوافذه التي تدعو النور الطبيعي الى دواخل المعبد. قد تكون مستلهمة من سطوع زجاج الشمسيات الجصّية المغربية، والتي تترصّع في حرائقها الشعاعية ألوان الجمر والعقيق والزمرّد، اللازورد والارجوان والزعفران، جواهر معلّقة في فواصل ليلية تحتقن بالكحلي والأسود، مشبعة بالصباغة حتى الدرجة القصوى. هي الألوان الحميمة التي حملتها حقائب السفر من شموس جنوب المتوسط، لعلها ذاكرته الطفولية المشبعة باشعاعات جدران الطين المغربية، وحدّة زرقة السماء أو البحر. يعتمد العصري منذ بدايته على المضادات القصوى، وعلى ترويض وسائلها بقوة الانفعال واحتدام وفورة ونبض الحال الشعورية. فاللون سلوك صراعي مثله مثل سيلاناته وتسارعات لمساته ونزق كثافاته الصباغية أو العجينية، يحاول أن يغامر بقوة تضاريس السطح وأنسجته وخاماته المتباعدة والحركة المأزومة في الفرشاة والسكين، يستخدم الأخيرة غالباً، فتحمل ما طاب لها من المواد وتهرسها في بطن الفراغ، ولا يدعها في حال الفوضى الكيميائية، بل يعود فينسّق جنوحها البصري ضمن توازن قلق، خطر، حاد، يكشف ما كان يجري من تناحرات في ساحة الصراع الصباغي. يعني كل لون ضده، ينهش الأزرق الناري ويجتاح اللون الأحمر المساحة الخضراء، ولا يبلغ أبداً المقام الضوئي الموحّد، لأنه يتوقف عند هذه "الديناميكية" المنضبطة بتكوين يكاد يكون موسيقياً، ليس على مستوى التنغيم اللوني وإنما في حدود التوقيع الفراغي الشطرنجي كما ذكرت. تنم خبرته اللونية عن ذوقه المعاصر، وتمر بتجارب البصريات اللونية، وتستثمر تداخل الألوان السالبة بالألوان الموجبة كما هي في بعض أنماط تحميض الصور المعقدة، ثم يعبر من حساسية بعض الاتجاهات المعاصرة مثل ذوقية "البوب" الانكليزي التي ارتقت عن استهلاكية "البوب" الأميركي الشعبي. تذكّر قزحية عبداللطيف العصري بالثورة "الوحشية" في بداية القرن، إذ توصلت الى علاقات لونية لم يعهدها تاريخ الفن قبل ذلك، مثل ألوان الفنان الفرنسي هنري ماتيس، وذلك بالانطلاق من بعض الملاحظات، كالتي ساقها الفنان بول غوغان وأصبحت مقولة متوارثة في النقد: "عندما يطالع المصور أخضر الشجرة في الطبيعة عليه أن يختار أجمل لون أخضر على الياليتا صفيحة الألوان ويحمله الى اللوحة"، ثم قول سوريزييه: "ما اللوحة إلا مجموعة خطوط وألوان تجتمع كل مرة وفق منظومة خاصة". وللأسف فإن أشد الملونين رهافة مثل صليبا الدويهي كانوا أبعد الفنانين عن الفهم الكامل، خصوصاً أنهم بحاجة الى طباعات لونية أمينة. هذا هو شأن أمين الباشا وحامد ندا وأحمد الحجري. ولعل هذا ما يفسر انتشار تجارب الهواة في الحفر الأسود والأبيض على ارتباك اصحابها، لأنها لا تخسر في الطباعة. لقد تأخر اكتشاف قيمة العصري لهذه الأسباب.