ينعقد في الأسبوع الأخير من الشهر الجاري، وككل عام، "المنتدى الاقتصادي العالمي" في دافوس سويسرا. وينعقد بالتزامن معه، وللمرة الأولى، "المنتدى الاجتماعي العالمي" في بورتو أليغري في البرازيل. وإذا كان لقاء دافوس نسج بسياساته ومواقفه وممارساته على مر السنين هوية "تيوليبرالية" واضحة المعالم، يسعى لقاء بورتو اليغري بدوره الى تكوين هوية، لكنه يريدها نقيضاً للهوية الأولى وبديلاً انسانياً عنها. لم يتم اختيار مدينة بورتو اليغري مسرحاً "للمنتدى الاجتماعي" مصادفة. فهذه المدينةالبرازيلية الجنوبية المتوسطة الحجم حوالى مليون ونصف مليون نسمة، والعاصمة لولاية ريو غراندي دو سول على الحدود مع الأوروغواي والأرجنتين، تشكل نموذج حكم أشبه بالمختبر السياسي لتجربة أساليب الإدارة الجماعية. وهي محكومة منذ عقد من مجلس بلدي يمثل تحالف قوى يسارية بقيادة حزب العمال. وجدد الناخبون للتحالف المذكور في الانتخابات الأخيرة في تشرين الأول - أكتوبر 2000، وحصل رئيس قائمته على نسبة فاقت 60 في المئة من الأصوات. ومردّ نجاح هذا التحالف يعود الى أدائه في ادارة شؤون المدينة الحيوية واحتياجات سكانها من جهة، والى أسلوبه المازج ديموقراطية الاغريق القديمة بأشكال العمل التعاوني الحديثة من جهة ثانية. فهذا المجلس قسّم بورتو اليغري الى "أحياء ادارية"، يجتمع أبناء كل منها على حدة، ويضعون مطالبهم المختلفة ويصوتون على أولويتها، ثم ينقلونها الى المجلس البلدي لمناقشتها ووضع موازناتها، فيوكلهم الأخير بعد الموافقة الإشراف على تنفيذها وادارة الانفاق المرتبط بها وضبطه ضمن الجداول الزمنية المعدة. بينما يتولى هو، في المقابل، وصل مشاريع الأحياء ببعضها وتنسيقها لتكون متكاملة ومتجانسة. وبهذه الطريقة، يشارك الجميع في تحمل المسؤولية، وتنتفي الحاجة الى الخصخصة واستقدام الخبراء الأجانب، كما يتقلص الهدر أو ينعدم نتيجة وضوح الموازنات واشراف لجان الأحياء على صرفها، وتحترم مواعيد انجاز المشاريع لكون منفذيها هم أيضاً المستفيدون منها. وتراجعت في عهد هذا المجلس نسب الأمية والبطالة، وتحسنت الخدمات التعليمية والطبية والاجتماعية المختلفة، فاستقطبت المدينة وافدين من أنحاء مختلفة من البلاد. الى هذه الشؤون، يولي المجلس البلدي أهمية خاصة للنشاطات الثقافية، فترى المدينة على موعد دائم مع المسرح والسينما والموسيقى والأمسيات الشعرية والمعارض، وترى سكانها على تماس مباشر مع النشاطات حضوراً ومشاركة وتنظيماً. حافظت بورتو اليغري بذلك، وعلى رغم الغزو العمراني ومشاريع الخصخصة في البرازيل كما في العالم، على مساحات عامة يديرها المواطنون من خلال تعاونياتهم الشعبية، وعلى توازن مديني اجتماعي وعمراني تضبطه الإدارة الجماعية. أما ولاية ريو غراندي دو سول، فهي بدورها مميزة لجهة فرضها الزراعات والأطعمة الخالية من الهندسة الوراثية، ولتقديمها مساعدات عائلية مخصصة لمنع عمالة الأطفال. وهي بذلك من الولايات التي تقل فيها حدة التفاوت الطبقي في المجتمع البرازيلي، وفاقمتها الأزمة النقدية منذ سنتين بلغت حصة 5 في المئة من البرازيليين ما نسبته 35 في المئة من الدخل الوطني مقابل 13 في المئة من هذا الدخل ل50 في المئة من البرازيليين عام 1997. واتسع التفاوت اليوم. ومن هنا جاء انتقاء بورتو اليغري مسرحاً للمنتدى سياسياً ورمزياً، وأضيفت اليه تسهيلات تنظيمية كبيرة وضعها المجلس البلدي بتصرف اللقاء، كما ان الجامعة الكاثوليكية في المدينة الأضخم والأكثر تطوراًَ قدّمت مقرها للمنظمين لعقد ورشات العمل وعرض الأفلام واقامة المعارض. ويتوقع ان يتوافد ثلاثة آلاف "مواطن" من القارات الخمس جلّهم من النقابيين والباحثين السياسيين والاقتصاديين والناشطين في الحركات الاجتماعية والقوى البيئية والشبابية والنسائية الى بورتو أليغري الأسبوع المقبل، بدعوة من نقابات العمال والمزارعين البرازيليين وحركة "سان تير" بلا أرض ومنظمة "أتاك" و"التحالف من أجل عالم متضامن ومسؤول" ومجلة "لوموند ديبلوماتيك" والمجلس البلدي للمدينة. اضافة الى يساريين من مختلف الاتجاهات، من بينهم المفكر المصري سمير أمين والباحثة الفرنسية سوزان جورج والكاتب الأوروغوياني ادواردو غاليانو والاسبانيان خوزي ساراماغو وايغناسيو راموني والباكستاني طارق علي والمصور البرازيلي سالغادو، والمزارع الفرنسي خوزي يوفي، والرئيس الجزائري السابق أحمد بن بلة، سيلتقون كلهم للتفكر بسبل التصدي الجماعي لديكتاتورية السوق التي يوجهها صندوق النقد والبنك الدوليان ومنظمة التجارة العالمية وعدد من حكومات الشمال. وسيكون من أهداف المؤتمر البحث في كيفية تحويل سياتل وواشنطن وبراغ ونيس من محطات احتجاج واعتراض الى أطر عمل هجومي يظهر ان البدائل للسائد ممكنة. وسوف يتوزعون على ورشات عمل ضمن أربعة محاور: انتاج الثورة وتوزيعها واعادة الانتاج الاجتماعي، السبيل الى الرفاه والتنمية المتوازنة، المجتمع المدني والحيز العام، والسلطة السياسية والأخلاقية للمجتمع الجديد. ويسعى المنظمون الى ان تتخطى المداخلات وأوراق العمل تشخيص الواقع الراهن في الرقع الجغرافية المختلفة باتجاه طرح اقتراحات وبناء شبكات تواصل وتحاور بين المشاركين ومنظماتهم لاكمال العمل بعد انتهاء المنتدى الاجتماعي وتحويله الى موعد سنوي تماماً كما هو حاصل في دافوس. ويأملون أن يتمكنوا من نقل ما يجري في منتداهم مباشرة عبر الهواتف والانترنت والصحف الى رفاقهم المحتشدين على المقلب الآخر من الأطلسي في ساحات دافوس المحيطة بموقع انعقاد "المنتدى الاقتصادي". هؤلاء "الرفاق" الذين يُتوقع ان يتقاطروا بالآلاف الى المدينة السويسرية للتظاهر تأييداً لبورتو اليغري، واعتراضاً على المجتمعين في "المنتدى الاقتصادي" وسياساتهم التي يرونها توسيعاً مضطرداً للهوة بين الجنوب والشمال. "ثمة عالم آخر ممكن، وسوف نبنيه". بهذه الكلمات، سترحب المدبنة بالمشاركين ورفاقهم، وبرسائل من تشومسكي والمناضل المكسيكي ماركوس قائد جيش زاباتا للتحرير الشعبي وسيفتتح السياسي البرازيلي طانسو جانرو من حزب العمال المنتدى، وتستمر أعماله خمسة أيام. * كاتب لبناني.