بعد حديثي أمس عن "العام" في سياسة الرئيس الجديد جورج بوش، انتقل اليوم الى "الخاص"، وهو خاص بنا، فالاهتمام العربي الأكبر بالسياسة الخارجية الأميركية، هو من زاوية تعاملها مع قضايانا، خصوصاً القضية الفلسطينية، والمواجهة المستمرة مع العراق. واستطيع ان انتهي من الموضوع الثاني بسرعة، فقد كان بوش انتقد خلال حملته الانتخابية أداء ادارة كلينتون إزاء العراق، ووعد بحزم أكبر، غير أنني أغامر اليوم فأقول ان لا تغيير كبيراً سيرافق دخول بوش البيت الأبيض، فالحصار في تراجع، وان استمر، والادارة الجديدة لن تعكس هذا الاتجاه من دون ثمن باهظ هي بالتأكيد على غير استعداد لدفعه. كان ديك تشيني وزيراً للدفاع وكولن باول، رئيساً للأركان المشتركة، عندما قرر الرئيس بوش الأب وقف القتال سنة 1991. وقد عاد تشيني نائباً للرئيس، وباول وزيراً للخارجية، وهما ربما كانا أهم عضوين في الادارة الجديدة كلها، ولا سبب أن نتوقع منهما أن يسعيا اليوم الى ما رفضا عندما كانا قادرين. ثمة مبادئ معروفة في العمل التزمها باول على مدى 35 سنة من حياته المهنية التي قضى أكثرها جندياً محترفاً، مع فترة قصيرة مستشاراً للأمن القومي، وهي باختصار عدم استعمال القوة العسكرية الأميركية إلا إذا تعرضت مصالح استراتيجية حيوية للولايات المتحدة الى الخطر، واستعمال قوة عسكرية هائلة لتنفيذ المهمة المطلوبة في أسرع وقت ممكن، والانسحاب فور تنفيذ المهمة. هذا ما حدث في الخليج، وهو ما سيحدث غداً، والتدخل سيكون مرتبطاً بتهديد للمصالح الأميركية من حجم غزو العراقالكويت، وتعريض امدادات النفط من الخليج كله للخطر. اما إذا صدر صدام حسين النفط أو لم يصدره، وانتهك الحظر الجوي، أو رفض استقبال المفتشين الدوليين، فالمستر باول أصرّ على ان يخاطب ب"مستر" بدل "جنرال" عندما زار وزارة الخارجية بعد ترشيح بوش له وزيراً لن يسعى الى حرب أو يهدد بها، ولن يصدقه كثيرون اذا فعل. وربما اضفنا كلمة سريعة عن ايران، فخلال الحملة الانتخابية هدد بوش باتخاذ موقف حازم من الدول التي تزودها بأسلحة أو معدات تساعد على بناء قوتها، وصنع أسلحة دمار شامل، وكان التهديد موجهاً بوضوح الى روسيا، إلا أن موقف البيت الأبيض لا بد أن تطرأ عليه تعديلات، فالعلاقات الأميركية - الروسية متشابكة ومعقدة، وهي أهم من أن يحكمها عامل واحد هو العامل الايراني. وتبقى القضية الفلسطينية أكثر القضايا الخارجية تعقيداً وربما أخطرها، ولا سر هناك في أن الرئيس بوش كان يتمنى أن ينجح بيل كلينتون في الوصول الى حل نهائي يقبل به الفلسطينيون والاسرائيليون، ما يعفي الادارة الجديدة من التعامل مع هذه الجمرة الحامية. هذا لم يحدث والرئيس بوش أقل اهتماماً بالشرق الأوسط من سلفه، وأقل معرفة بالتفاصيل. غير أن باول وأركان الادارة الآخرين يعرفون الموضوع جيداً، وقد سبق لبعضهم أن تعامل معه مباشرة. وبما أن منسق عملية السلام دنيس روس سيخلي الساحة فإن اختيار من يخلفه مهم جداً، والاسماء المطروحة كثيرة، من السفير السابق ادوارد جرجيان الى السفير في القاهرة ألان دانيال كيرتزر، والسفير في عمان وليام بيرنز. والقرار سيتخذ خلال أيام فلا حاجة للضرب في الرمل، ولكن يمكن القول بثقة ان أي خيار قادم للمنصب سيكون أفضل من روس الذي يعتبره مراقبون مثلي مسؤولاً عن ارتكاب سلسلة من الأخطاء الواضحة التي أوقع الادارة بها، مثل قمة جنيف الفاشلة بين الرئيس حافظ الأسد والرئيس كلينتون، وقمة كامب ديفيد الأخيرة. جرجيان يفضل أن تهتم الادارة بالمسار السوري أولاً، وهو يرى انه أقل تعقيداً من النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي، وربما رأت الادارة رأيه، حتى إذا لم يخلف روس في عملية السلام. بل ربما فضلت الادارة في البداية ان تحدّ من الاهتمام بالشرق الأوسط وتركز على قضايا أخرى داخل الولاياتالمتحدة وحول العالم. غير أن هذا موقف لا يمكن أن يستمر طويلاً، فهناك انتخابات قادمة في اسرائيل، وإذا فاز اريل شارون برئاسة الوزارة كما هو متوقع، فإن مواجهة ستقع حتماً، وقد تتجاوز حدودها الأراضي الفلسطينية، ما يعرض مصالح استراتيجية كبرى للولايات المتحدة في المنطقة للخطر. الشرق الأوسط حقل ألغام، وهو وصف قرأته في صحف أميركية عدة، ورأيي الشخصي ايضاً، والادارة الجديدة ستضطر الى التعامل معه شاءت أو أبت، وهي إذا فعلت فعندها الدروس المستفادة من فشل الادارة السابقة، وقد لمح بعض المسؤولين القادمين الى أنه لا يجوز الانتقال من اتفاق مرحلي الى اتفاق آخر، فهذه دون توقعات الطرفين، وتجعل كل اتفاق لاحق أصعب، لذلك يجب العمل لتحقيق تسوية نهائية، فيحسم الموضوع مرة واحدة. كلينتون فشل لأنه حاول ان يبيع الفلسطينيين والعرب تسوية اسرائيلية، أما بوش فقد يفشل لأسباب كثيرة، الا انه لن يكون بينها هذا السبب.