عندما عنون الباحث الألماني زيغفريد كراكور واحداً من أشهر كتبه "من كاليغاري الى هتلر" كان من الواضح انه يحاول أن يربط بين الاسمين، وأن يقيم علاقة واضحة بين الذهنية التعبيرية الألمانية التي كان فيلم "عيادة الدكتور كاليغاري" خير تعبير سينمائي عنها، وبين صعود النازية في ألمانيا. صحيح أن الفيلم حقق في العام 1919، يوم لم يكن هناك بعد خطر نازي مؤكد، لكن كراكور، كرؤيوي متميز، رأى ان مجرد وجود فيلم من ذلك النوع في ألمانيا الخارجة من هزيمتها خلال الحرب العالمية الأولى، دليل على أن شيئاً ما سوف يحدث. لأن الشعب الألماني الذي أفقدته الهزيمة كرامته، أدرك انه خاض تلك الحرب غير واع بها، وينتظر معجزة ترد على الهزيمة. لاحقاً سوف يخيل الى ذلك الشعب أن "المعجزة" تجسدت في ذلك النمسوي الربع القامة الذي تمكن بسرعة من أن يخدر شعباً بأكمله ويقوده الى الخراب، وسط صيحات الثأر والكرامة المستعادة وكراهية الآخرين. ذلك النمسوي كان اسمه أدولف هتلر. وفي معنى من المعاني لم يكن كثير الاختلاف، مضموناً، عن الدكتور كاليغاري، الشخصية الرئيسية في الفيلم. تماماً كما ان الاجواء العتمة والغرائبية - اللاعقلانية - التي سيطرت على الفيلم ككل، في انطلاق من هندسة حديثة وتعبيرية في الوقت نفسه، جعلت المكان كله يبدو رمزاً لألمانيا في ذلك الحين. وفي هذا كله، بالطبع، ما يبرر العنوان الذي اختاره كراكور لكتابه، الذي يؤرخ الهبوط الألماني الى الجحيم، منذ لحظة "عيادة الدكتور كاليغاري" حتى ظهور هتلر كتحقق لنبوءة ما... أو بالأحرى لتوقع حتمي. الفيلم الذي حققه روبرت فاين، عن فكرة للمخرج فريتز لانغ، موضوعه اختفاءات غامضة ومفاجئة تحدث في زمن ليلي مرعب. أما الأحداث فتدور على لسان شاب يحكي أمام جمهرة من المستمعين دهشته أمام الحكاية التي لا تصدق والتي عاشها. كما يرويها الشاب، تبدأ الحكاية في مدينة ملاه متلألئة الأنوار، عامرة بصنوف الترفيه. وبين العروض المقدمة هناك عرض يقدمه دكتور غريب الأطوار يعرض أمام متفرجيه قدرته الخارقة على التنويم المغناطيسي، وكيف ان في وسعه أن يحرك النائمين كما يشاء. وفي الوقت نفسه تنتشر في المدينة انباء عن اختفاءات غامضة لشبان، ومن بين المخطوفين جين، خطيبة الشاب الذي يروي الأحداث والتي اختفت تحت جنح الظلام. ويبدو واضحاً أن الدكتور ومساعده سيزار، الذي تلوح عليه سمات الجثة المتحركة والمطيعة لما تتلقاه من أوامر، هما المسؤولان عن الخطف. يعتقل كاليغاري الدكتور لكنه يتمكن من الفرار، وتتشابك الأحداث حتى النهاية التي يوحى الينا خلالها بأن كل ما رأيناه لم يكن أكثر من حلم هاذٍ رآه، أو ابتكرته مخيلة الفتى الذي يروي الحكاية، وان الفتى ليس أكثر من نزيل مأوى للمجانين تخيل كاليغاري على صورة مدير المصحة. هنا لا بد من أن نشير الى أن هذه النهاية انما أتت مضافة الى الفيلم الأصلي الذي كان خالياً منها. الى أهميته السياسية كونه يبدو جرس انذار يدق لتنبيه ألمانيا الى ما قد ينتظرها ان هي أسلمت قيادها الى مخدريها، يرتدي "عيادة الدكتور كاليغاري" طابعاً حديثاً وتجديدياً عززه تعاون رسامي حركة "العاصفة" من غلاة الانطباعيين في تصميم الديكورات التي تبدو طوال الفيلم كلوحات انطباعية، اضافة الى تصميم الملابس. ومن هنا بدا الفيلم، ولأول مرة في تاريخ السينما، عملاً فنياً متكاملاً يمتزج فيه علم النفس بالسياسة، ونظرية الحلم بالهندسة والفن التشكيلي بالشعر حتى وإن كان الفيلم صامتاً لأن السينما الناطقة لم تكن اخترعت بعد. بالنسبة الى الفيلسوف كراكور، يمكن النظر الى هذا الفيلم، الذي لا يزال يصنف الى يومنا هذا، وفي الاحصاءات كافة، في عداد أهم عشرة أفلام انتجتها السينما العالمية في تاريخها، يمكن النظر اليه على انه ادانة واضحة "للنزعة الشمولية البروسية، التي تتبدى دائماً على استعداد لإعلان عدم طبيعية كل من أو ما يتصدى لمقاومتها". ويرى كراكور، في كتابه آنف الذكر ان كاليغاري ليس سوى اشارة الى قرب ظهور هتلر الظمئ الى السلطة والمتعطش الى الدماء والجنون القاتل. وهنا يضيف كراكور الى انه لئن كانت صورة الدكتور المجنون والتسلط ذات حضور دائم في الأدب الشعبي الألماني، فإنها منذ ظهور "عيادة الدكتور كاليغاري" أصبحت من "كليشيهات السينما". بقي أن نذكر ان انتماء هذا الفيلم بقوة الى "التعبيرية الألمانية" إنما يتمثل في أشكاله الفنية، ولكن أيضاً في كونه يقدم رؤية مشوهة للواقع، تتبع "المعايير الذاتية التي يبدعها الفنان في لحظة تأزم عام، وهو يحاول أن يرسم عالم الجنون الذي يرفضه ويرفض هذيانه". ما يعني في النهاية نوعاً من العودة الشيطانية الى الرومانسية.