اذا كان عرف عن السينما التعبيرية الألمانية انها اهتمت بالهندسة والديكور والاضاءة وسمات شخصيات الأفلام لكي تضفي على الأحداث والمعاني التي تتضمنها هذه الأفلام البعد الذي ميّز هذه السينما، فإن فيلم «نوسفراتو» لفردريك مورناو، تخلّى الى حد ما عن بعض تلك السمات «الشكلية» الخارجية ليتبدّى «تعبيرياً في كتابته وروحه» بحسب تعبير المؤرخ جورج سادول الذي يضيف ان هذا الفيلم أتى تعبيرياً في روحه «طبيعياً الى حد ما في ديكوراته». مهما يكن من الأمر فإن فيلم «نوسفراتو» يمكن اعتباره فيلم نضوج التيار التعبيري. ومن هنا، حتى وان كان الكثير من المؤرخين ينفي عنه «أي طابع سياسي»، فمن الواضح ان الفيلم تكاد تنطبق عليه، اكثر من اي فيلم الماني معاصر له، سمة السينما التي بدأت باكراً تنبه الى المخاطر المقبلة. ولئن كان الباحث الالماني، سيغفريد كراكور يتحدث في كتابه «من كاليغاري الى هتلر» عن نزوع تلك السينما التي ازدهرت بعد هزيمة المانيا في الحرب العالمية الأولى، الى التنبيه الى المخاطر المقبلة، فإن «نوسفراتو» يشارك «عيادة الدكتور كاليغاري» في تركيزه على ارتباط ما هو مقبل، بالشر. ولئن كان نوسفراتو يمثل الشر المطلق، فإنه سيعتبر دائماً رمزاً مسبقاً لهتلر ولنازيته ذات الطابع «الغولي». ذلك لأن نوسفراتو، أولاً وأخيراً، «غول». يبدأ فيلم «نوسفراتو الغول» بالحديث عن وباء عنيف، هو الطاعون، يصيب مدينة بريم الألمانية في عام 1838، حيث يشرع السكان على الفور بالتساؤل عن السبب الذي يمكن ان يكون وراء استشراء ذلك الوباء. ثم تبدأ الأمور بالاتضاح، وكذلك تبدأ احداث الفيلم: فالبداية الحديثة تكون مع رحلة يقوم بها موظف في وكالة عقارية، يدعى جوناثان هاركر، الى قصر غريب يقع في جبال الكاربات. ما الذي يريده هاركر من قيامه بتلك الرحلة؟ الجواب فيه بعض الغموض، وكذلك يحيط الغموض بشخصية جوناثان نفسه. اذ انه يصر على القيام برحلته على رغم تمنّع الأدلاء الذين يرافقونه، وعلى رغم تحذيرهم له إزاء الاخطار التي تنتظره. في النهاية يصل جوناثان الى القصر ويكون مضيفه هناك غول (فامبير) يدعى نوسفراتو. ويتبين لنا بسرعة أن نوسفراتو هذا هو « ميت – حي» يعيش بفضل الدماء التي يمتصها من شبان يجتذبهم الى قصره، لأنه من دون دمهم لا يمكنه ان يواصل العيش. وحين يحدث لنوسفراتو ان يخرج من قصره فإنه انما يخرج منه لكي يزرع الرعب والدمار في المناطق المجاورة. ولئن كان نوسفراتو قوياً كل القوة فإن نقطة ضعفه الأساسية تكمن في انه لا يمكنه ان يرى ضوء النهار وإشراق الشمس. لو فعل لانتهى وزال الى الأبد، لذلك عليه دائماً ان يعود الى قبره قبل الفجر. ولأن خطيبة جوناثان تشعر اكثر من هذا الأخير بالخطر الذي يحيق به، تلحقه وتتمكن عند نهاية الفيلم من ابقاء نوسفراتو في الغرفة غير قادر على أن يبرحها، حتى طلوع الفجر، وبذلك تتمكن من القضاء عليه. حتى الآن، لا يزال هذا الفيلم يعتبر الأكثر تعبيراً عن «الروح الجرمانية» ومعاناتها، من أي فيلم آخر. وما هذا القول هنا سوى التعبير الأكثر قسوة ووضوحاً عن غريزة الموت الماثلة في وعي - ولا وعي - كل جرماني متحضّر. غير ان الباحث الفرنسي جان دوماركي يرى ان الفيلم يتجاوز، في معناه، الانسان الجرماني، ليعبّر عن الميثاق الذي يعقده الانسان المتحضر، في شكل عام، مع قوى الظلام والموت والعدم. ويرى دوماركي انه اذا كان يمكن القول عن فيلم «عيادة الدكتور كاليغاري» انه ذو بعد اجتماعي، فإنه يمكن القول عن نوسفراتو انه ذو بعد ميتافيزيقي، طالما انه يخفي خلف واقعيته الشكلية، تأملاً عميقاً في الشر وفي نزوع الانسان المتحضر الى هذا الشر. والحال ان هذا كان البعد الذي استقبل وفهم فيه الفيلم حين عرضه ونشطه كاتب هذه السطور في «النادي السينمائي العربي» في بيروت عند بدايات الحرب الاهلية اللبنانية حيث فهم الفيلم ونوقش بالترابط مع الحرب نفسها ومساوئها! أما بالنسبة الى كراكور فإن نوسفراتو، الغول، يمكن اعتباره مثل السفاح أتيلا، مظهراً من مظاهر غضب الله على الانسان المتمدن. ومن هنا ذلك التشابه بينه وبين داء الطاعون الذي يرتبط به منذ بداية الفيلم: انه طاغية ظمآن الى الدماء، يعيش في تلك المنطقة من العالم التي تلتقي فيها الاساطير بحكايات الجن. غير ان الجديد لدى مورناو، ودائماً كما يلاحظ كراكور في كتابه الأشهر عن السينما التعبيرية الألمانية، هو ان «الحب ينتصر لديه على قوة الشر»، فنلاحظ ان من يقهر الغول انما هو خطيبة جوناثان التي تنصرف، ليس بدافع انساني أو بطولي، بل فقط انطلاقاً من حبها لجوناثان ورغبتها في انقاذه. والحال ان في امكاننا ان نرى في هذا البعد، نوعاً من التمهيد لانتصار النازية، انما من دون ان نحدد ما اذا كان الفيلم يعني بانتصار النازية، وجود الغول نفسه، أم وجود الفتاة وحبها المنقذ. فالحال ان الأمور، مع مثل هذا النوع من الافلام تبدو شديدة الاختلاط. مهما يكن من الأمر فإن النقاد رأوا دائماً ان هذا الفيلم، ومهما كان تفسيرنا الايديولوجي له، يبدو متفوقاً على رواية «دراكولا» للانكليزي برام ستوكر التي اقتبس منها. وعلى الأقل في الكثير من مشاهده، ولكن كذلك في قدرته على الانتماء الى التعبيرية الذي سيظل يعتبر، سينمائياً، احد اعمدتها، تلك التعبيرية التي كانت ذات أربع سمات رئيسية: اعطاء بعد أسلوبي للشيء بهدف تكثيف طبيعته. استخدام الانعكاسات والظلال والمرايا، كما لو أن ثمة هنا نمط انتقال من عالم الى آخر في شكل متواصل. استخدام الضوء بوصفه عنصراً درامياً. اخضاع الحركات وتعابير الوجوه الى نوع من التضخيم المسرحي، أو المقترب من منظور الباليه. ولد فردريك فلهلم مورناو، الذي يعتبر الى جانب فريتز لانغ وروبرت فاين، أحد أعمدة المدرسة التعبيرية الألمانية، في عام 1888 في مدينة بلفيلد، ومات في كاليفورنيا في الولاياتالمتحدة الأميركية في عام 1931. وهو بدأ حياته كاتب سيناريو ومخرجاً للكثير من الأفلام القصيرة، بعد ان مرّ لمرحلة من حياته، بالمسرح. ولقد حقق مورناو أولى بوادر شهرته العالمية مع فيلم «نوسفراتو» الذي أقبل عليه الجمهور في شكل واسع، خصوصاً ان النقاد تباروا في الحديث عنه وفي اضفاء التفسيرات عليه، وخصوصاً أيضاً انه كان أول فيلم رعب حقيقي في تاريخ السينما الألمانية. ومن الأفلام الكثيرة التي حققها مورناو، قبل رحيله الى هوليوود، فيلم «طرطوف» عن مسرحية موليير الشهيرة و«فاوست» عن غوته، وبخاصة «آخر الرجال» الذي كان يعتبر واحداً من اهم الأفلام في تاريخ السينما العالمية. وفي هوليوود لم يحقق مورناو أعمالاً كثيرة، وذلك لأنه قضى شاباً في حادث سيارة. أما أهم ما حقق في عاصمة السينما العالمية فكان فيلم «الفجر» الذي تحدث فيه عن موضوعة تتناقض مع المغزى الذي أعطي سابقاً ل «نوسفراتو» عن موضوعة استحالة الحب في عالمنا. [email protected]