«إن جزءاً من أهمية هذا الفيلم يقوم في كونه، - باكراً ومنذ عام 1924 -، أكّد إن كانت هناك حاجة الى التأكيد، أن في وسع السينما ان تقدم المواضيع المعقدة والمركبة بلغة بسيطة». هذا ما يقال عادة عن فيلم «آخر الرجال» للسينمائي الألماني مورناو، الذي لم يكن صدفة أن يحقق فيلمه المميّز هذا، في زمن وسط بين فيلمه الهزلي «خطيبات الارشيدوق»، وفيلمه المأخوذ عن موليير «طرطوف». ذلك ان «آخر الرجال» يمثل، موضوعياً، منطقة وسطى بين سينما اللهو وسينما النقد الاجتماعي المرّ. بل، كما سنرى، النقد الذي يتجاوز مظاهر المجتمع ليطاول جوهره. فهذا الفيلم المستوحى أصلاً من «المعطف» لغوغول، من دون ان يصرّح بذلك، أتى ليوجّه نقداً لعقلية «الرداء الموحّد» (يونيفورم) في وقت كانت فيه ألمانيا، وبعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، تعيش هوس هذا الرداء الذي سيقودها، بين أمور أخرى، الى النازية وانتظاميتها التي يعتبر توحيد اللباس احدى سماتها الجوهرية. غير ان ما لا بد من قوله منذ الآن، هو ان نقد مورناو (وكاتب السيناريو كارل ماير) لم يكن مباشراً، أي صريحاً، بل كان يتحقق عبر رسم الذهنيات، وهو النقد الاقسى والآمن في الوقت نفسه. ولئن كان مورناو، الذي يعتبر من كبار أقطاب المدرسة التعبيرية في السينما الألمانية أولاً ثم في السينما الأميركية لاحقاً، لم يتوقف منذ خاض غمار العمل السينمائي اثر انتهاء الحرب العالمية الاولى، عن توجيه سهام نقده الى ما آل اليه حال المانيا، فإنه قبل «آخر الرجال» كان يطاول المجتمع الألماني، في هواجسه ومخاوفه، من خلال أعمال سينمائية غلب عليها الطابع الاسطوري، مستخدماً على سبيل الكناية، شخصيات معروفة ومتعددة الدلالات، مثل «نوسفراتو» و «فاوست»، متحدثاً في أفلامه عن الأشباح والغيلان على سبيل الترميز، فإنه في «آخر الرجال» سلك، للمرة الأولى بمثل هذا الوضوح وعلى مثل هذه الدلالة، سلوك الواقعية، ليقدم عبر فيلم، يبدو للوهلة الأولى متأرجحاً بين الهزل والحنان، تلك النظرة التي يلقيها على المجتمع وذهنيته (العسكرية في نهاية الأمر). في هذا الإطار لم يكن سيغفريد كراكور، مؤرخ علاقة السينما الألمانية بالنازية سلباً وإيجاباً من خلال كتابه الفذ «من كاليغاري الى هتلر»، بعيداً من الصواب حين كتب في معرض تحليله ل «آخر الرجال» يقول: «لأن هذا الفيلم يؤكد أن السلطة، والسلطة وحدها، هي التي تمزج كل القطاعات الاجتماعية المشتتة في بوتقة واحدة، يصبح فقدان «اليونيفورم»، الذي يمثل السلطة خير تمثيل، باعثاً على وصول الفوضى». ومن هنا، يضيف كراكور، «منذ اللحظة التي يعلم فيها المرتدون ان البدلة قد ابدلت بالمريلة، التي هي دونها قيمة، يشعرون أنهم طردوا من العالم الأنيق الذي كان لهم، والذي كانوا فيه قادرين على التواصل... ومن هنا تقوم ثورتهم ضد فقدان هذه البدلة». في الأمثال القديمة كان يقال ان الثوب ليس هو من يصنع القسيس. ولكن في هذا الفيلم المبكر والاستثنائي والفذ، يأتي مورناو ليبرهن ان الثوب هو الذي يصنع صاحبه، أو سلطة صاحبه (والسلطة تتطابق هنا مع صاحبها مطابقة عضوية) في هذا الزمن الذي نعيش فيه، زمن يقدم التشابه كنقيض للاختلاف. وهل ثمة ما يصنع التشابه أكثر مما يصنعه الرداء الموحد؟ يتمحور فيلم «آخر الرجال» حول بواب فندق «اطلانطا بالاس» الفاخر. وهذا البواب (يلعب الدور بروعة استثنائية اميل جاننغر) يعيش سعيداً. عمله عيد دائم. وفي الحي الذي يعيش فيه ها هم السكان جميعاً يجلّونه ويحترمونه ولا يكفّون عن إبداء الاعجاب به. ومن الواضح ان مصدر هذا كله انما هو البدلة (يونيفورم) التي يرتديها وتنم، ببريقها وأناقتها، عن المكانة المميزة (السلطوية) التي يشغلها. ولكن، يحدث هنا ما لا بد من حدوثه: يدخل البواب سن الشيخوخة، وتحوّله ادارة الفندق الى العمل في المراحيض، ما يحتم عليه ان يبدل البدلة الأنيقة، بالمريلة. غير ان الظروف تشاء ان يتزامن ذلك مع عرس ابنته. وفي مثل هذا العرس، أمام ضيوف يقدّرون قيمته من خلال بدلته، لا يجدر بصاحبنا ان يبدو وقد هبطت مكانته. فلا يكون منه إلا ان يسرق بدلته القديمة ويرتديها، ليحافظ على تلك المكانة. وبعد العرس، يودع البواب السابق البدلة في خزائن محطة القطار، وقد آلى على نفسه ان يعود الى ارتدائها في كل ليلة حفظاً للمظاهر. غير ان أمره ينكشف. وهكذا يدير له الجميع ظهر المجن: أهله وجيرانه واصدقاؤه. اما هو فإنه، اذ يشعر بخطورة ما فعل، يعهد الى صديق له، يعمل حارساً ليلياً، بإعادة الثوب الى مكانه. فإذا انكشف أمره، ولم تعد بدلته تمثل أية سلطة، لأنها صارت شكلاً من دون مضمون، لم يعد هو في حاجة الى البدلة. لقد انتهى كرجل. غير ان الفيلم لا ينتهي هنا، فقط ينتهي قسمه الاول. أما النسخة الأكثر اكتمالاً من هذا الفيلم، فإنها تحمل عند هذه النقطة منه لوحة كتب عليها: «في الحياة الحقيقية، من العسير لهذا العجوز البائس ان ينتظر شيئاً آخر عدا الموت، غير ان كاتب سيناريو هذا الفيلم شعر بالشفقة على الرجل، لذلك وضع للفيلم نهاية أخرى غير ممكنة الحدوث في الواقع، على اية حال». وهكذا بعد هذه اللوحة يبدأ القسم الثاني من الفيلم: فالبواب يصبح هنا ثرياً بفضل رجل غني غريب الاطوار يقابله ويغدق عليه ثروته. ويبدأ صاحبنا بارتياد المطاعم الفاخرة. ثم يرتدي ثياباً باهظة الثمن ويتوجه الى قاعة فندق «اطلانطا» وفي رفقته الحارس الليلي، ليتعشيا. وهناك يخاطب مدير المطعم مخاطبة الندّ للندّ، ويوزع البقشيش على العمال. ثم يحل للحظة محل حارس المراحيض حيث ينتقم من الزبائن الذين يأخذ عليهم ان ذاكرتهم من القصر حيث نسوا مكانته المحترمة السابقة وراحوا يعاملونه كعامل مرحاض حقيقي من دون تاريخ. وفي النهاية يركب صاحبنا وصديقه الحارس الليلي عربة تذهب بهما في أعماق الليل، وفي رفقتهما شحاذ كان البواب الجديد يريد طرده. انطلاقاً من هذه الحكاية بنى مورناو، إذاً، فيلماً شاءه ان يكون درساً يلقيه على المجتمع «ذلك البروليتاري الرث الذي لو أعطي الامكانات لعرف كيف يعيش» كما كان يمكن برتولد بريخت (الذي أبدع في رسم مثل هذه الشخصيات: شخصيات البروليتاري عشية الثورة، وحين يكتسب وعيه ويعرف كيف يستخدمه) ان يتصوّر. والحال ان معظم النقاد والمؤرخين الذين تناولوا الفيلم ركّزوا على مسألة «البدلة» معتبرينها رمزاً للنزعة العسكرية المتسلطة على ألمانيا. أما مورناو نفسه فقال انه انما أراد، أولاً وأخيراً، ان يصوّر الأحاسيس البشرية عبر حكاية من الصعب إعطاؤها أبعاداً ايديولوجية. لكن هذا لم يكن صحيحاً بالطبع. فردريك فلهلم بلوجي، الذي سيعرف باسم مورناو منذ اتخاذه السينما، تمثيلاً ثم إخراجاً، مهنة له، ولد في وستفاليا عام 1888 لعائلة تنتمي الى البورجوازية التجارية الكبيرة. لكنه منذ صباه أبدى ميلاً الى المسرح والتمثيل، على رغم دراسته الفلسفة وتاريخ الفن والادب في برلين وهايدلبرغ. وفي عام 1910 دخل مدرسة ماكس رينهاردت المسرحية، وبدأ يمثل تحت اسم هلموث ثم مورناو. في عام 1914 جنّد في سلاح المشاة، وفي عام 1917 خاض الحرب طياراً في الجيش الألماني. غير انه سرعان ما ترك الجندية ليعيش فترة في سويسراً عليلاً. وفي عام 1918 بعد مشاهدته فيلم «عيادة الدكتور كاليغاري» أغرم بالسينما وأسس شركة انتاج تولت تمويل معظم أفلامه التي راح يحققها تباعاً في ألمانيا، حتى كان عام 1926 حين حقق «آخر الرجال» نجاحاً عالمياً تزامن مع إطباق النازيين على خناق ألمانيا، فتوجه الى هوليوود محمّلاً بسمعة جيدة صنعتها له أفلام مثل «نوسفراتو» و «طرطوف» و «آخر الرجال». وهناك حقّق فيلم «الفجر» (1927) الذي يعتبر من أجمل أعماله الهوليوودية. ثم حقق «أربعة شياطين» (1928) و «خبز يومنا» (1929). وهو، بعدما شارك فلاهرتي في انجاز «تابو» في تاهيتي، توفي عام 1931 في حادث سيارة بالقرب من سانتا باربارا في كاليفورنيا. [email protected]