هناك وجهة نظر، لا تعتبر نتائج حرب حزيران يونيو 1967 كارثة بالمطلق بالنسبة إلى الجانب الفلسطيني تحديداً. ففي ظل الاحتلال الإسرائيلي لبقية فلسطين التاريخية - تقول هذه الوجهة ضمن مبرراتها - استعادت الحقيقة الفلسطينية إلى حد بالغ تواصلها الجغرافي والاجتماعي على ضفتي ما يُعرف إسرائيلياً بالخط الأخضر. مما يقال عند مناقشة هذه الوجهة، انها يمكن فعلاً أن تكون قريبة من الصواب فيما لو ثبت أن حركة التحرر الفلسطينية تحركت على أرضية الواقع الجديد، وأدرجت شريحة عرب 1948 في برنامجها الكفاحي عملياً. وكان ميثاق منظمة التحرير يسمح بذلك من الناحية النظرية. غير أن هذا الفرض لم يتحقق، ولا بدت له تجليات قوية الدلالة. فبخلاف بعض المؤشرات الرمزية العابرة، ليس ثمة ما يشي في أن المنظمة مضت بجدية ملموسة نحو انتهاء الوحدة المستعادة جدلاً على الصعيدين الفكري والحركي. نجمت السياسة الفلسطينية بنقيضها عن رؤية كانت بدورها، ولعلها ما زالت، موضوعاً للجدال. لكن السياسة الإسرائيلية أظهرت وعياً مبكراً بالتداعيات المحتملة لفكرة الوحدة هذه، ومن ثم، اكترثت أكثر بمواجهتها، وبذلك كانت اسرائيل حازمة بشأن حجب ايجابيات الفكرة عن ساحة العدو الفلسطيني العربي، في الوقت الذي استغرق هذا العدو في جداله حول كيفية التعامل مع هذه الفكرة من حيث المبدأ. وفي هذا الإطار، اشتقت سياسة تجزئة المصير الفلسطيني الى مصائره التي بفعلها، أو بفعل التجاوب معها بالأصح، بات المعنيون أمام دوائر أربع: عرب 1948، عرب القدس، فلسطينيو الضفة وغزة. ومع أن الأصل هو معالجة مستقبل هذه الدوائر كأبعاد متفرعة عن "القضية الفلسطينية"، إلا أن الذي طُرح اسرائيلياً وجرى الترويج له، عن قصد أو بلا قصد من الآخرين، أننا بصدد "قضايا" بعينها، يمكن، بل وينبغي، البت فيها بمعزل عن بعضها البعض. وبمرور الوقت وتكرارية مفهوم التجزئة المسموم، أضحى أصحاب البصيرة والرؤية الشاملة، الداعون إلى تقعيد وحدانية المصير الفلسطيني، بمثابة تيار مطارد، يجب تغييب صوته الآتي من جوف "تاريخ قديم". والشاهد أن بعثرة القضية الفلسطينية أفرزت مساوئ كثيرة، أبرزها في زمن التسوية عموماً، وفي المرحلة الحالية بالذات، تطور المفهوم الإسرائيلي للقضية نحو ضرب أبعادها الفرعية بعضها بالبعض. ومن آيات ذلك، إزاحة مصير الأراضي المحتلة منذ 1948 لمصلحة التركيز على الأراضي المحتلة العام 1967، ثم المساومة أخيراً على مصير القدس مقابل مستقبل اللاجئين، وصولاً إلى استخدام أوضاع عرب أو فلسطين 1948 كأداة للضغط عند بحث مصير اللاجئين. ومن شأن منهجية كهذه، ذهاب بُعدٍ أو آخر من أبعاد القضية ضحية أو فداءً لبعدٍ آخر منها. وطبقاً للمناظرة الإسرائيلية الجارية بين هذه الأبعاد، يقول الإسرائيليون بايجاز، إن دولتهم، حتى من دون عودة اللاجئين، قلقة من خطر إنسلاخ الأقلية العربية الموجودة ضمن حدودها. فتعداد هذه الأقلية اليوم هو 18 في المئة تقريباً من مجموع السكان. في حين أن وزنهم النسبي في منطقتي الجليل والنقب المحاذيتين لأرض عربية في ما وراء الحدود مرتفع للغاية، ففي الجليل يدور الحديث عن نحو 50 في المئة إن لم يكن أكثر، ومن شأن "عودة" اللاجئين أن تزيد في حدة خطر الإنسلاخ وأن تهدد حدود 1967 الإسرائيلية، وحتى في حال ضعف هذا الخطر، ثمة مجال للتحسب بقوة من تأثير مجموع اللاجئين زائد الأقلية العربية على الطبيعة اليهودية للدولة. ضمن ما يفهم من هذا العرض، أن فلسطينيي 1948 بخطرهم المتوقع في الحال أو الاستقبال، يقعون في صلب حيثيات الرفض الإسرائيلي لتطبيق حق العودة الفلسطيني. وأن إسرائيل لا تنوي التخلي عن الهوية اليهودية بغض النظر عن نسبة العرب أو الفلسطينيين الذين جرت "أسرلتهم" فيها منذ 1948. وهكذا فإنها تبعث بأكثر من رسالة في الوقت ذاته: هي تقول إنها سوف تظل دولة اليهود فقط، ومن ثم لا مجال للتوسع في حقوق المواطنة المتساوية بين اليهود والعرب، ولا مجال للتعاطف مع عودة فلسطينية تعمق مأساة عدم التساوي الموجود حالياً والمستمر مستقبلاً في رحاب هذه الدولة. طبعاً، يقدم هذا التكييف الإسرائيلي مؤشرات على الأفق المظلم أمام عرب 1948، بيد أن ما يعنينا منه عاجلاً، هذا التحريض المضمر لأبناء هذه الشريحة ضد أبناء أرومتهم التاريخية من اللاجئين. فبمعنى لا يجمل استبعاده، تحث إسرائيل عربها على الامتعاض من عودة مكثفة للاجئين، بحسبها ستبرز أكثر الطابع الثنائي للدولة، وتضعهم تحت اجراءات ضاغطة اضافية، تحبط لديهم أية تطلعات تستقوي بالتزايد العددي لتحقيق المساواة الكاملة أو الاستقلال والانسلاخ بشكل ما. إذا مضينا مع هذا التكييف الخبيث إلى منتهاه، آخذين أو موقنين بوجود صلة بين السياسة الإسرائيلية تجاه كل من عرب 1948 واللاجئين، ربما عثرنا على سبب معقول - وهو غير معقول بالمنطق العادي - لجرعة الإرهاب القوية التي قوبل بها تضامن عرب 1948 مع انتفاضة الأقصى في زمن الحل الفلسطيني النهائي. فهذه الجرعة هي عينة لما ينتظر اللاجئين العائدين تحت حكم إسرائيل من جهة، ولما يمكن أن يحيق بعرب 1948 إن هم آثروا اللحمة مع القضية الوطنية الأم من جهة أخرى. لا توجد، على حد العلم، تقويمات لمواقف عرب 1948 من حق العودة على نحو دقيق، ولكن مشاركتهم المغموسة والمعمَّدة بالدم لمناسبات الانتفاضة المتوالية في فلسطين التاريخية، تغني عن هذه التقويمات. وظاهر الحال أن إسرائيل الصهيونية لم تعِ رسالة كهذه. ولعل الآخذين بمنهجية تجزئة القضية الفلسطينية لم يفوا بدورهم الرسالة حقها من التمحيص. * كاتب فلسطيني.