سمو أمير منطقة تبوك يستقبل عضو مجلس الشورى احمد الحجيلي    جمعية البر الخيرية بالنويعمة توزع أكثر من 800 سلة غذائية على مستفيديها    17.6 مليار ريال إنفاق أسبوع.. والأطعمة تتصدر    موجز    تحذيرات أممية من شح الغذاء في القطاع.. وجنوب إفريقيا: إسرائيل تستخدم التجويع سلاحاً للإبادة الجماعية    الاحتلال يقضم أراضي الضفة.. وفلسطين تطالب بتدخل دولي    في الجولة ال 24 من دوري روشن.. الاتحاد في اختبار القادسية.. وديربي العاصمة يجمع النصر والشباب    في ذهاب ثمن نهائي يوروبا ليغ.. مانشستر يونايتد في ضيافة سوسيداد.. وتوتنهام يواجه ألكمار    ولي العهد يهنئ شتوكر بأدائه اليمين مستشاراً اتحادياً للنمسا    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع لجنة الحج المركزية    محافظ الطائف يشارك فرع وزارة الصحة حفل الإفطار الرمضاني    أفراح البراهيم والعايش بزفاف محمد    بيئة عسير تقيم مبادرة إفطار صائم    حرم فؤاد الطويل في ذمة الله    13 طالباً من «تعليم الرياض» يمثلون المملكة في آيسف 2025    ابنها الحقيقي ظهر بمسلسل رمضاني.. فنانة تفاجئ جمهورها    تفاصيل مهرجان أفلام السعودية ب"غبقة الإعلاميين"    نائب أمير منطقة مكة يشارك الجهات و رجال الامن طعام الإفطار ‏في المسجد الحرام    جمعية التنمية الأهلية بأبها تطلق برنامجي "أفق الرمضاني" و"بساتين القيم"    تحت رعاية خادم الحرمين وحضور علماء من 90 دولة.. انطلاق أعمال مؤتمر» بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية»    همزة الوصل بين مختلف الجهات المعنية بخدمة ضيوف الرحمن.. مركز عمليات المسجد الحرام.. عين الأمن والتنظيم في رمضان    8 فحوصات مجانية بمراكز الرعاية الصحية.. تجمع مكة الصحي يفعل حملة «صم بصحة»    طبيبة تستخرج هاتفًا من معدة سجين    تعليم جازان يطلق جائزة "متوهجون"    فوز برشلونة وليفربول وبايرن ميونخ في ذهاب الدور ثمن النهائي في دوري أبطال أوروبا    الاتفاق يتعثر أمام دهوك العراقي في ذهاب نصف نهائي أبطال الخليج    المملكة تؤكد التزامها بأحكام اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية    2.8% انخفاض استهلاك الفرد للبنزين    14 تقنية مبتكرة في البيئات الصناعية بالسعودية    مشروع "ورث مصحفًا" يستهدف ضيوف الرحمن بمكة بثمان وعشرين لغة    أمين الجامعة العربية: السلام خيار العرب الإستراتيجي    أهالي الدوادمي يشاركون في تسمية إحدى الحدائق العامة    «سلمان للإغاثة» يوزّع 48 سماعة أذن للطلاب ذوي الإعاقة السمعية في محافظة المهرة    نخيل العلا.. واحات غنية تنتج 116 ألف طن من التمور سنويًا    الاتحاد أكمل تحضيراته    غونزاليس: ندرك قوة الاتحاد    "تعليم الطائف":غداً إيداع أكثر من 4 ملايين ريال في حسابات مديري المدارس    أمير حائل يشهد حفل تكريم الفائزين بمسابقة جزاع بن محمد الرضيمان    تركي آل الشيخ وTKO يعلنان عن إطلاق منظمة جديدة للملاكمة بالشراكة مع "صلة"    بنك المنشآت الصغيرة والمتوسطة يطلق المرحلة الثانية من برنامج التمويل بالوكالة    ترمب وكارتلات المخدرات المكسيكية في معركة طويلة الأمد    محافظ جدة يُشارك أبناءَه الأيتام مأدبة الإفطار    لغة الفن السعودي تجسد روحانية رمضان    الصين تصعّد سباق التسلح لمواجهة التفوق الأمريكي في آسيا    أوروبا تبحث تعزيز قدراتها الدفاعية بعد تعليق الدعم الأمريكي لأوكرانيا    40 جولة لتعطير وتطييب المسجد النبوي    كيف نتناول الأدوية في رمضان؟    محافظ الخرج يشارك رجال الأمن الإفطار في الميدان    "مشروع الأمير محمد بن سلمان" يجدد مسجد القلعة    لأول مرة طالبة من تعليم الطائف تتأهل إلى مسابقة آيسف على مستوى المملكة    وزير الدفاع ونظيره السلوفاكي يناقشان المستجدات الدولية    طارق طلبة مديراً لمكتب «عكاظ» بالقاهرة    5 نصائح لضبط أعصابك في العمل    أمير جازان يستقبل منسوبي الأمارة المهنئين بشهر رمضان    التسامح.. سمة سعودية !    4 ملايين فحص لنقل الدم بالمناطق    وزير الدفاع يبحث مع نظيره السلوفاكي المستجدات    محافظ الطائف يشارك قادة ومنسوبي القطاعات الأمنية بالمحافظة الإفطار الرمضاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"خيركم من تعلم القرآن وعلمه" ولكن ... الانفصام بين القراءة والفهم ... هو بداية الانفصال المعرفي بين الذاكرة والذكاء العملي 1 من 2
نشر في الحياة يوم 18 - 01 - 2001

منذ مئة عام والجهود تتراكم في تعلم القرآن وتعليمه، جهود خيرة الدوافع والنيات، تقوم بها حكومات وجمعيات وأفراد، ولكن الجدوى ليست بقدر الجهود الضخمة.
هناك خلل إذاً، هذا الخلل هل ينحصر في المفهوم السائد لتعليم القرآن، الذي تكتسب به الخيرية، فهو إذاً في طرق التعليم ووسائله ، أم أنه-أيضا- في المفاهيم والأفكار، التي نعتبرها ثقافة إسلامية، فهو إذاً أعمق وأخطر، لأنه في المحتوى والمضمون، أي في المفهوم الشائع للفقه في الدين الذي تكتسب به الخيرية أيضاً، كما ورد في الحديث الشريف "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين".
خلل في منهج التعليم أولاً.
لماذا قصرت التربية الدينية السائدة؟ أليس ذلك لأن تلك الجهود أعادت إنتاج المفاهيم التربوية، التي تكرست أكاديمياً أواخر العصور العباسية والمملوكية؟ كثيرون من المخلصين حصروا المشكلة في التطبيق التربوي، فأنشأوا معاهد ومدارس وجامعات دينية أو إسلامية، ولكن الثمر المحصود، لم يكن متوازياً مع عظمة الجهود.
ولم يفطن هؤلاء إلى أن المشكلة أعمق، لأن الفكر الديني التربوي في العصر الإسلامي الوسيط" إنما هو - في الجملة - فكر ناسب بيئات زمانية ومكانية ماضية، وإعادة إنتاجه إنما هي عجز عن ابتكار تربية إسلامية حديثة، تستند إلى النص الديني المعياري المطلق الكتاب والسنة.
والجيل الراشدي، الذي أسس لنجاح القرون الثلاثة المفضلة" إنما نجح في رسم نظرية تربوية تكفل الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة" لأنه كان ينظر للتعلم عموماً ولتعلم القرآن خصوصاً، على أنه قوة معرفية عملية، تنتج قوة اجتماعية.
فالقرآن يحتوي على أسس النظرية المعرفية والتربوية، التي تلهم المسلمين - اليوم - كيف يفهمون العالم من حولهم، وكيف يطاولون التحدي الحضاري الذي يقتحم حضارتهم، وكيف ينجحون في عالم لا يرحم البائسين، ولا يحترم إلا الناجحين، من ألي الأيدي والأبصار،الذين يدركون أن المعرفة لا تكون قوة، إذا كانت استظهاراً للمعلومات من دون استثمار.
الفقه أولاً والحفظ آخراً
أدرك الصحابة رضوان الله عليهم" أن القراءة المطلوبة - في خطاب التكليف - هي القراءة الفاعلة المنتجة، التي لا تتوقف عند مستوى الطلاقة الصوتية والدلالية، بل تتجاوز ذلك إلى المستوى الفكري للغة، بصفتها وعاء للفكر" لكي تتجسد القراءة في المستوى التربوي للمجتمع، فأدركوا أن للقرآن مستوى صوتياً، هو مستوى الذاكرة اللفظية، ومستوى فكرياً هو الحيوية الذهنية، وأنه لا عبرة بهما إذا لم ينتجا مستوى اجتماعياً هو الحيوية المجتمعية، وأن المستوى الاجتماعي هو مقصد الشريعة، من التعلم والتعليم، فهو الهدف، وما المستوى الصوتي والفكري إلا وسيلة، والحكم على الوسيلة بالنجاح والفشل، إنما برهانه المحصول في البيدر الاجتماعي.
وقد لاحظ عبدالله بن مسعود رضي الله عنه الصورة النموذجية - لمنهج التربية والتعليم - عند الصحابة: كثرة في الفقه وقلة في الحفظ، ثم قارنها بالصورة المعكوسة، التي بدأت تحدث عند من بعدهم، فقال يخاطب مجايليه: "أنتم في زمان كثير فقهاؤه قليل قراؤه، تحفظ فيه حدود القرآن... وسيأتي على الناس زمان، قليل فقهاؤه كثير قراؤه، تحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده".
ولذلك انشغل الجيل الأول والتابعون له بإحسان" بالعمل العام عن التفرغ للقراءة والحفظ، لأنهم أدركوا أن الأمر الإلهي، الذي يقول: "خذ الكتاب بقوة"" إنما يتجه للعمل الاجتماعي، فكان عدد الذين يعملون بالقرآن" هو الأغلبية، بينما كان نادراً عدد القراء الذين حفظوا القرآن" في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لا يتجاوز أصابع اليدين.
فقد أخرج البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استقرئوا القرآن من أربعة: من عبدالله بن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب" وعد الذهبي- أيضاً - عثمان وعلياً رضي الله عنهما ممن حفظ القرآن" في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
على كل حال فإن عدد الحفاظ " لا يتجاوز العشرة، ولذلك قال أبو حامد الغزالي: "كان الذي يحفظ البقرة والأنعام ]يعتبر[ من علمائهم" الإحياء 1/253.
لماذا كانت نسبة عدد الحفاظ في الصحابة، ضئيلة جداً؟ على أنهم مقلون في الكتابة، وذلك يستدعي اهتماماً بتخريج الحفاظ، ولكنهم لم يفعلوا، وهذه ملاحظة مهمة تميز منهجهم التعليمي، عن مناهج المتأخرين في تعليم القرآن الكريم.
لم تكن القضية عندهم كما هي عندنا: كم جزءاً أستطيع أن أحفظ في السنة؟ بل هي: هل استطعت أن اجسد ما قرأت، لكي أواصل القراءة ؟
كانوا قليلي الحفظ، على رغم أنهم في بداية عهدهم كانوا أمة أمية، يقل فيها الكتاب، قبل أن يصبحوا بفضل القرآن أمة كتاب وثقافة وعلم. قلة هذا العدد من الحفاظ" لافتة تشير إلى البون الشاسع، بين أسلوبهم في التعليم وأسلوبنا.
كان الصحابة مدركين تمام الإدراك، خطر الفصل بين المستوى الصوتي والفكري من اللغة، وبين مستوى السلوك الفردي والاجتماعي أيضاً، لأنهم وجدوا القرآن يعلمهم الفقه الاجتماعي، وينبههم إلى خطر غياب الفاعلية الاجتماعية ، التي وقعت فيها الأمم التي أنزلت عليها الكتب، من الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني.
وذكر ابن تيمية ناقلاً عن ابن عباس وقتادة، معنى الأميين، الذين لا يعلمون القرآن إلا أماني" بأنهم غير العارفين بمعاني الكتاب، الذين يحفظون ولا يفهمون، وفسر الأماني بأنها التلاوة الصوتية الشكلانية، التي لا فقه فيها مع القرآن للغزالي: 14.
مفهوم قراءة القرآن
فهم الصحابة رضوان الله عليهم" أن القرآن رسالة، وأن الرسالة تطلب من المتلقي شيئاً معيناً، ولذلك اعتبروا القراءة وسيلة، والعمل هدفاً، فتجاوزوا الطلاقة الصوتية" إلى المستوى الفكري، وربطوا تقدم المستوى الفكري" بمستوى إنتاج السلوك، ومن أجل ذلك مكث ابن عمر ثماني سنين، في تعلم سورة البقرة، كما ذكر مالك في الموطأ.
وأثرت عنهم آثار تدل على هذا الربط، فقد روي أن أحد الطلاب، قال لأحد علماء السلف: "لقد قرأت القرآن عشر مرات في الشهر" فقال له: "ليتك قرأته مرة واحدة وفهمت ما فيه".
ومن قبله قال المعنى نفسه إياس بن معاوية : "مثل الذين يقرأون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره، كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلاً، وليس عندهم مصباح فداخلتهم روعة ]لأنهم[ لا يعرفون ما في الكتاب، ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجال جاءهم المصباح، وقرأوا ما في الكتاب".
وقد فهموا أن الحث على ترتيل القرآن، وتلاوته حق تلاوته، يرتفع إلى مستوى الإدراك المؤثر في الحراك الفردي والاجتماعي. فالفهم وسيلة، والعمل غاية، فتلاوة القرآن حق التلاوة هي العمل بمحكمه، والإيمان بمتشابهه، كما قال الحسن البصري.
ولذلك كانوا كما قال عمر بن الخطاب: "إذا مروا بأية رحمة سألوا الله، وإذا مروا بأية عذاب استعاذوا منه". كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل. ولم يفهموا التلاوة والترتيل، كما فهمهما المتأخرون، الذين قصروا مفهوم التلاوة على المهارة الصوتية.
وقد رويت آثار عدة، عن عائشة وابن مسعود وغيرهما، تدل على أن الصحابة كانوا لا يفصلون بين المستوى الصوتي والفكري للقراءة، وبين المستوى العملي، وكانوا يربطون حركة القراءة بحركة الفهم، وحركة الفهم بحركة العمل.
وبذلك أدركوا أن التعليم لا بد فيه من تدرج، لأن القفز فوق قدرات الذهن على الاستيعاب، وقدرة العلم على إنتاج السلوك، خلل تربوي يحول التعليم المدرسي، إلى تلقين ينفخ في الذاكرة اللفظية، ولا ينفح الذهن بالإشعاع والتلألؤ.
القرآن كتاب تنوير وتحرير للعقل والوجدان والسلوك، فهو أساس صالح في كل زمان ومكان، لتنوير الإنسان وتقدمه، وتحريره من أغلال التخلف الروحي والأخلاقي والاجتماعي، من أجل أن يؤتينا الله في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ولكن كيف يمارس القرآن دوره" وقد صارت القراءة شكلانية؟ ولذلك ينبغي تفكيك القراءة السائدة، للإجابة عن السؤال اللاهب: لماذا افتقدت قراءتنا الحرارة والإنارة؟
إن ربط القراءة بالفقه مسألة تبني الروح العملية، وتبني الذهن المدرك، الذي يحفز الوجدان على التفاعل، بين ما يقرأ وما يعمل، فإذا تنور الوجدان واشتعل وتلألأ، أنتج السلوك الراشد، وهذا يؤكد الربط بين وظيفة التعليم ووسيلته، وربط الاقتصاد الزمني بالإنجاز، وربط المحصول بالجهد المبذول ، فطاقة الذهن وطاقة الفراغ، لا يتم إنجاز" من دون استغلالهما بشكل فاعل.
مفهوم تفسير القرآن
ولذلك لم يكن تفسير الصحابة القرآن الكريم تفسيراً حرفياً، محدوداً بمفهوم الشريعة الذي شاع في الثقافة الإسلامية العباسية، يقف عند بيان أحكام العبادة الروحية، من صلاة وحج وصوم، ولم يكن تجريدياً يعتمد على كثرة المعلومات، كما صار في القرون الوسيطة، بل كان تفسيراً عملياً مهارياً كلياً، ولذلك أدركوا أن العمران أو التقدم المادي، هو الجانب الآخر الذي لا تتم التعادلية الإسلامية إلا به، بصفة الإسلام مشروعاً للتقدم الروحي والأخلاقي، وللتقدم الاجتماعي والعمراني معاً، وبصفته مشروعاً للسعادة في الدنيا والآخرة.
ولذلك لم يكن تفسير القرآن عندهم أيضاً تفسيراً لغوياً تجزيئياً، يقف عند إعراب كلمة أو بيان اشتقاقها اللغوي، بل كان تفسيراً مهارياً، يدرك روح القرآن كما يدرك ألفاظه.
وقد أتيح للصحابة ما لم يتح لجيل من بعدهم، بيئة عايشت النصوص، وفهمتها من خلال الوقائع والأحداث، فعرفوا أسباب النزول، وقد أتاحت لهم هذه المعرفة التفقه الصحيح، كما قال الواحدي: لا يمكن معرفة تفسير الآية، من دون الوقوف على قصتها، وسبب نزولها القطان: علوم القرآن 80.
ولما أشكل فهم آية على مروان بن الحكم" لم يزل إشكاله "إلا عندما أبان له عبدالله بن عباس سبب نزولها القطان: 80. أما في الثقافة الإسلامية العباسية، فقد تم عزل النص الإلهي والنبوي أيضاً عن مناسبته، فأغفل كثير من أهل العلم السياق الاجتماعي للنص، وبلوروا هذا الإغفال من خلال قاعدة أصولية، قالوا فيها "العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب" وهي قاعدة اجتهادية، وليست قضية مسلمة.
وأبسط الأمثلة على حاجتها إلى التمحيص" فهم كثير من الناس الحديث الشائع عن فضل العمرة في رمضان، بأنها تعادل حجة مع الرسول صلى الله عليه وسلم،واعتبارهم ذلك حكماً مطلقاً، ولكن الحديث قيل لامرأة تتلهف كيف فاتها أن تحج مع النبي المرشد المعلم. والحج مع النبي صلى الله عليه وسلم مسألة بركة صحبة موهوبة، وقدوة استقامة مكسوبة، فكيف تتاح لكل من اعتمر في رمضان، وكيف تصبح عُمَر التابعين في درجة حِجج الصحابة الذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا يتبين أن ذلك الأجر خاص بالمرأة السائلة.
ولكن لما أرسى المتأخرون منهج العلم والتعليم، احتجوا بما استحدثوه من قواعد ونظريات، على القرآن والحديث، وربطوا فهم القرآن والسنة بقواعدهم، وحصروا الدخول إلى مناطق الاجتهاد، بسلوك هذه المعابر. ولو ربطوا ذلك بمقاصد الشريعة أيضاً، لأدركوا أن ما قرروه" إنما هو اجتهاد ورأي، وليس حكماً قطعياً من الوحي. على أن هذه الأصول التي رسخوها صحيحة - في الجملة لا بالجملة -، وهي كقواعد أهل النحو والعروض،لكنها ليست فوق مستوى اللغة، وإنما هي توصيف محدث، واللغة العربية نموذج لغوي سبق مرحلة التوصيف، وكذلك أصول الفقه ليست قرآناً ولا حديثاً معصوماً، لا يجوز مراجعتها على ضوء الكتاب والسنة، ولذلك فإن الصحابة اجتهدوا في أمور كثيرة، على رغم أنهم لم يدرسوا هذه الأصول، وعلى رغم أن علمهم لم يكن كعلم المتأخرين سعة ولا كثرة، وأصول الفقه علم آلة، كعلم النقد والبلاغة لا يصنع أديباً، ولكنه يسهم في فهم الأدب، ولذلك فإن فقه النهضة الإسلامية اليوم، سبق إليه مثقفون ومفكرون، لم يتبحروا في أصول الفقه.
ونتج من أغفال مناسبات القول" أن صارت النصوص وهي محصورة محدودة، معزولة - أحياناً - عن محورها، الذي تدور حوله ، وصارت معزولة عن الأطر الاجتماعية، التي تعين على فهم دقتها وكيفية تطبيقها، في وقائع غير محصورة ولا محدودة.
ولم يكونوا مثلنا نتعلم الفصحى، بأسلوب اصطناعي، ولا نتحدث بها في منازلنا وأسواقنا، بل نقصرها على المقامات الاحتفالية والروحية.
ولذلك لم يتساءل الصحابة عن المقاصد العامة للتشريع ، ولا عن المعاني التفصيلية إلا نادراً. وكانوا يعيشون في الحقل التطبيقي للشريعة، الذي أشرف عليه النبي وخلفاؤه الراشدون، الذين كانوا قمة الفقه الحضاري للدين، وبهذا المحضن التعليمي الخاص الفريد، لم يجهلوا أمراً أساسياً في الدين. فعرفوا الآيات المكية من المدنية، وعرفوا أول ما نزل وآخره، وعرفوا أسباب النزول ومناسباته، لأنهم عايشوها، فردوا الغامض إلى الواضح، والمتشابه إلى المحكم، والمجمل إلى المفصل، وأدركوا الخاص من العام، والمطلق من المقيد، والمنطوق والمفهوم، فلم يقفوا في الترجيح والجمع مثلما وقف المتأخرون.
لا فهم بلا تدرج
يؤكد التربيون أهمية التدرج في التعلم، بسقي الذهن قطرة قطرة، وفق نظام التنقيط المعروف في الزراعة، أو بصعود السلم التعليمي خطوة خطوة من دون قفز، ف "الكتاب أشبه الأشياء بالسلم، ... ينبغي صعوده درجة درجة، وإن لا سقط الذي يحاول القفز". هذه العبارة المعروفة عند المربين، تصوغ مبدأًً تعليمياً، من المبادئ التي لم يشكك في صدقيتها منهج تعليمي ناجح، وهي -عندما نعبر عنها بمصطلح تربوي، -مبدأ التدرج، الذي هو أساس التعليم الناجح، وهو تدرج بالنسبة الى المهارات والمعلومات معاً، حيث يكون التعليم شيئاً فشيئاً، يبدأ بالأمور المبسطة، ثم يصعد إلى الأمور المعقدة.
مثل تعليم الجملة النحوية: يبدأ بالجملة البسيطة فالجملة المركبة، ثم الجملة المعقدة. ولا بد إذن من مراعاة عمر الدارس، ليس العمر الزمني والنمو الحسي فحسب، بل المعرفي والعقلي والوجداني معاً، ولا بد - أيضاً - من مراعاة الرصيد اللغوي .
وهكذا كان التدرج ولوازمه، من التمهل والتدبر والتفكر، هو طريقة الصحابة رضوان الله عليهم في تعلم القرآن الكريم، لم يكونوا ينظرون إلى تعلم القرآن على أنه مهارة صوتية، أو طلاقة لغوية، يمكن تعلمها خلال بضعة أشهر، ولكن كانوا ينظرون إليه على أنه محور تعليمي تطبيقي، يكون أساس التفقه في الدين، والدين عندهم شامل القيم الروحية والأخلاقية، والاجتماعية والعمرانية.
لم يكن أساس التدرج عند الصحابة كمياً، كم يحفظ الدارس من سورة في الشهر أو السنة؟ بل كان كيفياً، كيف يفهم ويستوعب؟ وكيف يحول مهارة القراءة إلى مهارة فكرية؟ ثم كيف يحول المهارة الفكرية إلى مهارة عملية.
وكانوا يدركون أن الانفصام بين القراءة والفهم، هو بداية الانفصال المعرفي بين الذاكرة والذكاء العملي، وهو الذي يؤسس القطيعة التربوية بين القول والعمل.
ولذلك كانوا يقرأون بتؤدة وتأن، ويتدبرون المعاني، ويتعرفون إلى المعنى الحضاري الشامل في القرآن، ويعتبرون بالقصص والمواعظ، كما قال عبدالرحمن السلمي: "حدثنا الذين يقرئوننا القرآن، كعثمان بن عفان، وعبدالرحمن بن عوف، أنهم كانوا لا يتجاوزون عشر آيات من القرآن، حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قال: فتعلمنا العلم والعمل جميعاً"، "ولم يكن همهم مقصوراً على الاستكثار من قراءته، كحالنا في هذا العصر"، كما وصفنا الشيخ عبدالرحمن الدوسري رحمنا الله وإياه تربية 151.
وكما ذكر مالك في الموطأ، "أن عبدالله بن عمر مكث في حفظ سورة البقرة ثماني سنين"، ولم يكن عبدالله قليل الذكاء، ولا منشغلاً بأمور أخرى عن التعلم والتعليم، ولكنه كان يفهم الحفظ فهماً آخر، غير ما استقر في أذهاننا اليوم، كان الحفظ يتجاوز اللفظ والصوت، إلى المعنى والهدف والسلوك، ولم يكن القارئ يتساءل: كم أختم في الشهر أو في رمضان؟.
تعلم سورة البقرة في ثماني سنين تجربة ثرية، ينبغي أن يتأملها الذين يتعلمون القرآن كله حفظاً وتجويداً، خلال مرحلة زمنية قصيرة، وينظرون إلى القراءة على أنها جمع واختزان، وينظرون إلى التعلم على أنه تلقين شكلاني، أولئك الذين اشار إلى نموذجهم أبو الدرداء، في ما رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد، أن رجلاً أتى أبا الدرداء فقال: "إن ابني جمع القرآن، قال أبو الدرداء: اللهم غفراً! إنما جمع القرآن من سمع له وأطاع".
* كاتب سعودي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.