من الواضح لمن يتتبع كيف كان الصحابة يقرأون، أو كيف كانوا يتعلمون، أنهم كانوا يدركون الهدف من القراءة قبل أن يقرأوا. وأنهم لم يقدموا حفظ القرآن الكريم على فهمه، وأنهم جمعوا بينهما، وأنهم لم يكونوا يستكثرون منه إلا بمقدار فهمهم، وأنهم ربطوا التقدم في العلم بالتقدم في السلوك، وأنهم ربطوا فهمه بالمعنى الحضاري في الدين، فلم يكن فهمهم تفسيرا لغويا جافا، ولا تفسيراً محدوداً للأحكام، إنما كان فهما شاملا لمراميه وتوجيهاته، حول الله والكون والانسان والحياة. ولم يكن يشغل بالهم كم جزءاً يقرأون؟ وكم مرة يختمون؟ بل كان يشغل بالهم كم معنى يدركون؟ وكم موقفاً يتدبرون؟ وكيف يعلمون؟ نموذجهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وقد توفيا ولم يختما القرآن ختمة واحدة لأنهما يدركان، كما كانوا يدركون، أن أجر القرآن الكريم ليس متحققا للإنسان بمقدار ما يقرأ، بل بمقدار ما يتدبر، وبمقدار ما يعمل، لأن القرآن رسالة وميثاق يقرأه المرسل إليه لتنفيذ ما فيه من تعليمات وتوجيهات. ومن الواضح من خلال تتبع الخلل الاجتماعي في المجتمعات الاسلامية أن الثقافة الدينية أصابها الاختلال، وأن هذا الاختلال أسهم في خمول الأمة، وحوّل الدين من دافع الى التقدم والازدهار إلى معوق عن السباق الحضاري، تحرف نصوصه وتؤول، لكي تصك منها مبادئ تهادن التخلف والنكوص. المشكل والحل ومن أجل ذلك فنحن اليوم قد حشرنا في مضيق حضاري صعب، فإما أن نستسلم للسقوط الحضاري وإما أن نزيل ما علق بتراثنا من قيم السلبية والجمود، بحرث حقل الثقافة ونبذ الاعشاب الضارة، وبث الهورمونات التي تقوي الجذور، من خلال عملية تفكيك وإعادة تركيب تهدف إلى غرضين: الأول تصحيح مفهوم القيم الإسلامية، وجلاؤها لتضيء كما وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، وكما فهمها وطبقها جيل الصحابة. أما ما عداهم من التابعين والعلماء والمفكرين والمصلحين فنستأنس بما لديهم، ونأخذ بنتائج تجاربهم إذا كان دليلها الأساسي الذي أشرنا إليه، لأنها ليست بذاتها أدلة، بل هي اجتهادات ينبغي فهمها، في إطار البيئة التي عاش فيها أولئك الناس، وفهمها في إطار حدود الأفهام البشرية. ويبقى لنا أن لا نأخذها بتفاصيلها معزولة عن ذلك الأساس، وإنما نأخذها بروحها العامة، بصفتها تجارب ثرية، وتأريخاً تؤخذ منه العبرة، لا صواباً يجب تطبيقه وتقفيه، على اختلاف روح العصر والمكان. الثاني مواصلة تفريع مبادئ وأفكار تربوية حضارية، على الأساس الأول، تسهم في سرعة قطع المسافة التي يعاني منها المسلمون، لكي يقفوا ندا للحضارة الغربية، لا من أجل أن يسابقوها في ترفها وماديتها وأسلحة دمارها الفتاكة، بل لكي يصنعوا ويقيموا القوة العملاقة، التي تجعل الغرب ينظر إلى المسلمين نظرة ندية، ولكي تنزع المسدس من يد القاتل لا لكي تقتله، بل لكي تحمي نفسها من عدوانه الحسي والمعنوي عليها، ولكي تسهم في بناء سلام ووئام عالمي يقوم على الندية والتعاون. وينبغي لذلك أن نؤمن إيماناً حقيقياً عمليا سلوكيا بأن مفتاح الحل يكمن في تجديد فهم الإسلام وفهم القرآن، لأن الإسلام منهج فهمه الرعيل الأول فهما صحيحاً فبنى الحضارة، وفهمه المتأخرون فهماً رديئاً فهدموا البناء. التحدي التقني أخطر من العسكري ونحن اليوم نواجه حضارة ساحقة هي أقسى مما واجهه أجدادنا، حضارة تحاربنا بالعلم والتقنيات والاقتصاد والتربية والمصنوعات وأنماط اللباس والمعاش، قبل ان تحاربنا بالسلاح التقليدي أو الذري أو الكيماوي أو النووي. وهي ستفكك - وقد بدأت فعلاً - شبكة دفاعنا الثقافية والتربوية، تمهيدا لتحويلنا إلى سوق استهلاكية. وهي كأي قوة تنزع نحو السيطرة لن تتوقف عن السيطرة إلا بقوة مكافئة. وبناء القوة العسكرية المكافئة من دون قيم مدنية مغامرة تقفز فوق خطوات التطور الحضاري، وتختزل الأسلوب والهدف معاً، وتجهل روح العصر. ومن أجل ذلك قد تتعرض للتدمير وتجد في خطواتها سبب حتفها. ولكن العلاج الشافي هو التعليم الذي ينتج المجتمع المتحضر، الذي يؤسس على شروط النجاح الإسلامي الأول، مع صهرها بروح العصر: الإيمان والعقلانية والروح العلمية وإرادة التفوق والنجاح. هذه أربعة شروط، ولكي تصل مجتمعاتنا إلى تحقيق مشروعها الفردي بالوصول إلى الجنة، فلا بد من نجاح مشروعها الجماعي الدنيوي بالحياة الكريمة الحرة، لكي تستطيع أن تزرع الدنيا التي هي مزرعة الآخرة، كما في الحديث الشريف. إن لم نفعل ذلك، وإن لم نقبل هذا التحدي الحضاري، فسنظل على ما نحن عليه من تخلف، وإن كثرت نقوش القرآن الكريم في المصاحف أو في الصدور، لأن المسألة مسألة تحويل القراءة إلى طاقة فعالة، وإن لم نفعل ذلك فستهد الحضارة الغربية على كل معتزل زاويته وتكيته، وهو جالس يحفظ القرآن، وصائم الاثنين أو الخميس، أو يوم عرفة أو عاشوراء، أو هو قائم يصلي ويقنت. وعليه إذن أن يؤمن بأن هذا هو آخر الزمان، الذي يفسد في كل شيء ما عداه، وأن دوره أن يجهز الكفن والمغسلة للأموات، لا أن يشارك في علاج المرضى. وعليه أن يكرس النكوص، وينتظر المهدي والمسيح، ليحلا له المشكلة حلا غيبيا لا جهد له فيه ولا دور. وهذه المبادئ التربوية إذن تراعي حالة المرض الذي نعانيه، فإذا كنا نعاني من ضعف إيمان وقلة صلاة وقراءة، فليكن الخطاب التربوي مقدماً ذلك، وإذا كنا نعاني من ضعف في الروح العقلانية وجدب في الفكر الناقد والمبتكر، فليعن الخطاب التربوي بذلك، وإذا كنا نعاني من ضعف في الصناعة والإنتاج والزراعة والروح الإدارية، فليكن الخطاب التربوي مراعياً ذلك. القضية إذن ماذا نريد؟ وكيف نعمل؟ وليست القضية أن نقول إن كل ما في صيدلية القرآن والسنة من أدوية مطلوب الآن بالمقادير والكيفيات نفسها التي تعالج بها الأولون. بل القضية أن ندرك أن المريض بحاجة إلى غذاء ودواء معا، فالغذاء هو العناصر الأساسية لطعام كل إنسان، من البروتين إلى الزلال والسكريات، وهكذا هي أحكام الدين وفروضه. ثم بعد ذلك نحن بحاجة إلى جرعة الدواء المناسبة التي تنهض بهذا المريض الذي فقد المناعة الطبيعية، فغزته الدبابير والنمل وجحافل الجراثيم والفيروسات، ولا بد أن تكون درجة تكثيف جرعة الدواء متدرجة بقدر طاقة الإنسان، ومتناسبة مع حاجته إلى الدواء أيضاً، ليكون مضادا حيويا يطردها، ويقوي عوامل المناعة الذاتية، ليستأنف المسلم دوره من جديد. ومن أجل ذلك لا بد من تجديد فهم الدين، وإعادة بناء المهاد الإسلامي لحضارة إسلامية حديثة تنطلق من الثوابت الإسلامية، وتحريك المتغيرات في تشكل هندسي جديد يتجاوب مع روح العصر ومتطلباته. ولا بد من إعادة تنظيم القيم والعناصر التربوية لتجابه التحدي الذي نجابه. فنحن اليوم لا يحل معضلتنا إعادة إنتاج القيم الإسلامية بصورة جاهزة فحسب، بل لا بد من ترتيب الأولويات، ومراعاة المتغيرات، بصورة تمكننا من مقاومة التدمير الذي نتعرض له. الأمة الاسلامية تعاني اليوم من الانهيار الحضاري الذي أفقدها المناعة الذاتية، فأمست ذيلا وسوقا استهلاكيا للقيم الغربية. وهذا الأمر إذا استمر من دون علاج سيذيب المثل والقيم الإسلامية، وسيقضي على شخصية الأمة. وسبيل ذلك أن نحارب القيم الغربية الحداثية بقيم إسلامية حداثية، فالتفوق الاقتصادي لا يحارب إلا بمثله، وكذلك التفوق في الروح العملية والابتكارية والصناعية والإدارية والتربوية والاعلامية والعسكرية. هذه الأسلحة الفتاكة لا تحارب إلا بمثلها، ومن هنا يجب أن يؤسس التعليم هذه القيم التي تنتج الروح الحضارية التي تحارب بسلاح العصر نفسه. وإذا أردنا أن يستأنف القرآن الكريم دوره بصفته هورموناً يحيي الخلايا البالية، ومولداً للنهوض الحضاري، فينبغي إذن أن يكون منهاج تعليم القرآن خصوصاً، والعلوم التي تسمى "الدينية" عموماً منشئاً لهذه الروح. فما هي القيم التي نحتاج إليها؟ لكي تنهض الأمة وتكتسب الذكاء الجماعي الثقافي الذي يدب في الشرايين والأوردة، وليكون إرادة النجاح في الدنيا والآخرة، انها بحاجة الى الإيمان الشامل الذي لا يفصل عمل الدنيا عن عمل الآخرة، فيذكي مفهوم وحدة الديني والدنيوي، ويعيد اتساقهما بعد الانفصام، ويعيد النشاط الدنيوي الذي انقطع حبل سرته الديني إلى حضن أمه. فإذا لم ندرك أن النشاط الدنيوي عبادة غير مباشرة، تكمل العبادة المباشرة، فكيف ننهض إذن تحت راية الدين؟ ونحن نحتاج الآن إلى ثلاث قيم تنبثق من وحدة الدين وشموله: قيمة الربط المتجدد بين النشاط الدنيوي والنشاط الديني الخاص، بالنظر إلى الأولويات والتوزانات، وربط العلم بالعمل، وربط الوسيلة بالهدف. وإدراك أن المقدمات الصحيحة تفضي إلى النتائج الناجحة، وإدراك فروض الكفاية التقنية والصناعية والتعليمية إدراكا ينبع من تخطيط استراتيجي. ونحتاج إلى قيمة العقلانية وروح التفكير الإسلامي الحر الذي يتميز بالفحص والنقد والابتكار، ويسهم في إنتاج الافكار العملية. ونحتاج إلى قيمة الحيوية، التي تبث هورمون الخصوبة والنشاط والمبادرة. ونحتاج إلى الروح العملية التي تحفظ الوقت والجهد، وتستثمر الزمن والمال والإنسان أفضل استثمار. ونحتاج إلى عناية كبرى بالأمور المادية التي يترتب عليها النهوض الاقتصادي والإعلامي والتقني والفني والصناعي، بأشكاله كافة. الحذلقة اللغوية وعلى ضوء هذه القيم، يكون منهاج تعليم القرآن خصوصاً، والعلوم الدينية عموماً، مولداً للنهوض الحضاري. ولكي يكون فهمنا للقرآن الكريم وتفسيرنا له شرعيا حقيقيا، لا بد من أن يكون تفسيراً حضاريا. فكيف نفسر القرآن ونعلِّمه ؟ كثير من الناس المتفكرين، ومنهم التربويون، مقتنعون بضرورة الربط بين الفهم والقراءة. لكن القضية حول منهج الفهم منهج التفسير. فما التفسير الذي ينبغي التعويل عليه ؟ هل هو هذا التفسير اللغوي الذي يقول معنى الكلمة كذا وكذا، أو إن في الآية ضميراً مستتراً لا يتم فهم المعنى إلا به؟ هذا التفسير اللغوي جيد إذا لم يتقعر فيه، وإذا سلم من الحذلقة النحوية والصرفية التي جرها تأثر بناء النحو بالعقلية الفلسفية التجريدية التي أفسدت النحو والبلاغة معاً. وأنت تجد هذا الفساد، وقد وصل إلى تفسير كتاب الله، وخذ نموذجاً لذلك لا في "لا أقسم بمواقع النجوم"، إذ يقولون زائدة. سبحان الله! الله يقول: "لا أقسم" وهذا النحوي يقول: بل الله يقسم، فاعجب لمخلوق يزعم أنه أعلم من الخالق في بيان مراده. وكيف تكون لا زائدة حينا في الكلام وحينا نافية؟ هذا منطق لغوي فاسد. هل يمكن في أي لغة بشرية أن تكون أداة النفي زائدة، هذا خلل في التفكير يفقد اللغة مصداقيتها في التعبير عن الأفكار. ما رأي هؤلاء لو جاء معاند وقال: لا زائدة في كلمة التوحيد "لا إله إلا الله"؟ واللغة نظام من العلامات المتسقة، لا يجوز فيها هذا التخريف. هذا الذي يقول إن لا زائدة، لو حوكم على طريقة بعض العلماء في التكفير، لقيل: إنه كافر، فكيف يزعم أن في القرآن كلمة زائدة، ثم يلطف القول بأنها صلة. ولا ريب أن في الذكر الحكيم ليس فيه شيء زائد، فهو محكم، ولكن هذا المنهج اللغوي الافتراضي التجريدي في عيونه زائدة دودية، صارفة له عن الاستقامة في الفهم. ولو استقام المنهج لاقتبس الحكمة من العوام الذين يقولون عند تأكيد الشيء: "مالك عليّ يمين، إن الأمر كذا وكذا"، أي إن الأمر لا يحتاج إلى قسم، لأنه واضح جليّ، أو لأني صادق الرؤية أو الطوية، أو هما معاً. ومثل ذلك الذي يقول أيضاً إن وراء أتت بمعنى أمام في قوله تعالى "وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا". هذه حذلقة لغوية، وجمع لو صح بين لغتين لقبيلتين، وليست مستوى لغويا واحدا. وفي التفسير من هذا التشويه ترهات وهنات هينات وغير هينات. وليس التفسير بالذي يقدم الأحكام الفقهية الجافة على طريقة بعض القدامى، في التعريف الجامع المانع، أو في ذكر الشروط، وعرض المادة الجاف. بل هو تفسير فقهي حقا، بمعنى الفقه الشرعي الأول الذي يربط الحكم بالدليل، يفصل ما أجمل، ويرد المتشابه إلى المحكم، والخفي إلى الجلي، ويبين الخاص من العام، ويعتمد الأحاديث الصحيحة والروايات الموثوقة. فيكون القرآن الكريم محوراً تدور حوله هذه المعاني. ومن الضروري أن يكون هناك توازن بتقديم القيم والأنماط السلوكية والأفكار التي تعنى بتكوين الاتجاهات الإيجابية، نحو أمر من الأمور الحسنة مثل برّ الوالدين. وتكوين الاتجاهات السلبية نحو الأمور الرديئة، كالسرقة والرشوة. وأن يكون هذا المحتوى شبكة من القيم المترابطة المناسبة للعمر العقلي والزمني، وأن يكون تكراره مدروساً بقدر ما يرسخ المواقف في ذهن القارئ، وأن يكون تقديم هذه القيم ضمن شبكتها الاجتماعية من دون فصم العرى بين الدنيا والآخرة. * اكاديمي سعودي.