فهم الصحابة القرآن وظيفة القراءة، وأدركوها إدراكاً حقيقياً من دون زيف أو توهم. فالقراءة أداة للفهم والتحصيل الدراسي، والإنسان يتعلم لكي ينجح في الدنيا والآخرة، فليس العلم لذة مجردة من الهدف، ولذلك بيَّن الله تبارك وتعالى أن أكثر الناس خشية له هم العلماء "إنما يخشى الله من عباده العلماء"، فكانوا قراء جيدين وممتازين للآيات الكريمة، أدركوا وظيفتها، وطبقوا الأسس الصحيحة للقراءة الفعالة، وأدركوا أن فهم المقروء هو أساس تحويل الاستيعاب الذهني إلى تطبيق، وأدركوا أن للنص القرآني أفكاراً أساسية على القارئ أن يدركها قبل التفصيلات. وهذا الإدراك يحتم ربط السنة بالقرآن لإدراك الأفكار الأساسية من التفصيلية، ولكي يكون فهم القرآن فهما حسنا، لأن الفهم السيء يكوَّن القيم والاتجاهات المنحرفة، كما في قراءات الخوارج وأهل الظاهر، ونحوهم من الفرق التي اعتمدت النص القرآني، من دون أن تفهم ضرورة الربط بين اللفظ وفحواه ووظائفه ومقاصده. ما القلوب المقفلة! أسلوب قراءة الصحابة يمكن صياغته بالمبدأ القرائي "أقرأ لكي أتعلم، وأتعلم لكي أفهم". وهذه القراءة هي التي تمكن الإنسان من أن يعقل ما يقرأ، لكي يستطيع أن يعمل. وأدركوا أن هذا القرآن مفتاح للعمل والنهوض، فإذا استطاع المسلمون الإمساك بأسباب النهوض وأحسنوا التعامل معها نهضوا "وعندما يتنكرون لها يكون السقوط" حسنة: مع القرآن - 126. ولذلك نقل عن بعض السلف أنه قال: "إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهم بكيت على نفسي، لأن الله قال: "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون". أدركوا ارتباط العلم بالعقلانية إذن، فلم يكن التميز للعالم بمجرد العلم والحفظ، بل كان تميز العالم بما له من عقلانية تتيح له فهم الحياة والأحياء، فتؤهله للرقي في سلم "الرسوخ". وهذا معنى يستحق الوقوف. وهو وارد في قوله تعالى "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟". القلب المقفل إذن نمط من أنماط الثقافة الشكلانية التي تنفصل فيها النظرية عن التطبيق. أما المسلمون الأولون فقد أدركوا العلاقة بين التنظير والتطبيق. وكان التعليم عندهم يشبه التعليم في الورشة والفصل معاً، كما يتعلم الزراعي والطبيب والمهندس والحاسوبي والكهربائي حرفته جزءاً جزءاً، فقرة نظرية ثم أخرى تطبيقية، ثم الدرس الثاني، وهكذا دواليك. وأدركوا هذا حق إدراكه. وأدركوا أن معنى الفقه واسع، يشمل فقه الكون والحياة والإنسان، وفقه النفس والجسد، وإدراك أسرار البرق والرعد والحديد وكل ظواهر الطبيعة والحياة، ولم يحصروه بعلم من العلوم، وربطوا الربانية في العلم بهذا الفقه، قال الضحاك : "حق على من تعلم القرآن أن يكون فقيهًا" وتلا قوله تعالى "كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب" الذهبي 6/455. ومن أجل ذلك كانوا يتهيبون حفظ القرآن وقراءته، لأنهم يدركون ماذا يعني التصدي لذلك، إذ كان الإنسان يفكر كيف يعمل قبل أن يفكر كيف يحفظ. فقد روي في حديث حسنه الترمذي وصححه ابن حبان أن الرسول صلى الله عليه وسلم استعرض بعثا معداً للغزو، وأراد أن يولي أحد الأفراد عليه، فكان يسألهم ع ما حفظوا من القرآن، وسأل أحدهم عن محفوظه، فاعتذر بما يدل على إدراك الوظيفة، وكان الرجل من أشراف العرب فقال: "والله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة إلا خشية أن لا أقوم بها". ليس هذا الموقف سلبياً ينتهي بالإنسان إلى ترك القراءة كي لا يعمل، بل هو إدراك لعظم التبعة، ولضرورة الاستعداد لها قبل ممارستها. لقد أدرك الرجل أن الواجب المتعين على المسلم من القرآن هو القدر الضروري الذي يقيم به صلاته، وأدرك أن زيادة في العلم تعنى زيادة في العمل. نظروا إلى أن قراءة القرآن كالقسم الذي يؤديه العسكري أو الطبيب، لا بد أن يتقدم إليه، ولكنه يتقدم بوجل وإدراك، لأنهم أدركوا أن القرآن "ميثاق" غليظ: "وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً". وهذا المصطلح يتكرر في القرآن عشرات المرات. فليست المسألة هينة، وليس جوهر المسألة أن يقرأ الإنسان الحروف من دون فهم للمعنى، وفي ذهنه أن يؤجر على كل حرف قرأه عشر حسنات. فالأمر أخطر، إنه "عقد" بين الله عزّ وجلّ والقارئ، عقد مثقل بالتبعات، وأمانة عجزت عن حملها الجبال، ولو حملها جبل لتصدع كما وصفه الذي أنزله: "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله" الحديد. وبناء على هذا العقد بين الله والقارئ، يجب على كل من علم علما أن يعلمه الناس، ويجب على كل من تعلم حكمة أن لا يكتمها. ولكن الأجيال اللاحقة تخلت عن هذا العهد والميثاق إلا نادراً، بل إنها فرقت بين الرسول والنبي، فتقرر في وجدانها أن الرسل فحسب هم الذين يأمرون بأداء الرسالة، أما الأنبياء فليس التبليغ واجباً عليهم. ففرقت بين الأمرين، وغفلت عن أن كل نبي رسول وكل رسول نبي، لأن الله أخذ الميثاق بالبلاغ على العلماء، فكيف لم يأخذه على الأنبياء. هذا الإحساس بقيمة الميثاق الغليظ هو الذي جعلهم يعرفون أن حامل هذا الميثاق عليه أن يكون أسوة وقدوة، وإن لا… فما امتيازه؟ "لشعورهم بعظم المسؤولية من الواجبات والتكاليف... حصلت عندهم الملكة على تحملها بكاملها ورعايتها حق رعايتها" كما يقول الشيخ عبدالرحمن الدوسري تربية الإسلام - 151. من حافظ القرآن الحقيقي؟ وكان لديهم فهم آخر غير فهمنا المعاصر لمعنى حفاظ القرآن. وكان سالم مولى حذيفة نموذجاً حيا، فقد شمر في حرب اليمامة وتقدم، وظن بعض الناس أنه قد يتأخر، فقالوا له: "احذر يا سالم أن نؤتى من قبلك" فقال: "بئس حامل القرآن إذن، إن أوتيتم من قبلي"! ولم يبرح مكانه، حتى أسلم روحه مقبلاً غير مدبر. وهذا النموذج جسده القراء كلهم في حرب اليمامة أيضاً، فقد انكشف المسلمون لأن عددهم كان ضئيلا، فهم ثلاثة عشر ألفاً مقابل مئة ألفٍ يقودهم مسيلمة، فنادى القراء من كبار الصحابة قائد الجيش خالد بن الوليد، وطلبوا منه أن يفصل كتيبة القراء عن الأعراب، ففصلهم وكانوا ثلاثة آلاف، صدقوا وقاتلوا قتالاً شديداً، وهم يتنادون: يا أصحاب سورة البقرة! حتى انتصروا بعد أن قتل منهم خمس مئة قارئ، كما ذكر ابن كثير فضائل القرآن 58. هذا فهم متفرد لوظيفة القرآن، فلنقارن قراءتنا بقراءتهم، وأجرنا بأجرهم، وقراءنا بقرائهم. الحمار والأسفار: كانوا يدركون أن القرآن رسالة إلهية، تلقى على الإنسان ليتذكر ويخشى. كانوا يدركون إذن كما قال الشيخ الدوسري رحمه الله أن القرآن أمر إلهي على الإنسان أن يستجيب له، "لأن هذا القرآن لم يجعله الله كتاب قصة أو أدب وتاريخ، إنما جعله ميثاقه العظيم المتين" الدوسري 151. وهذا الميثاق أو المعاهدة ينبغي أن يوجه سلوك القارئ بأن "يقرأ الكتاب كقراءة الجندي والموظف... كتاب رئيسه ليعمل بمقتضاه وينفذ وصاياه" الدوسري 151. وهذا المعنى أشار إليه الإمام الغزالي عندما ضرب مثلا للعاصي الذي يقرأ ولا يعمل، بمن جاءه كتاب من الملك، فطفق يكرر قراءته مراراً كل يوم، وقد أمره الملك بعمارة المملكة، ولكنه ترك عمارتها أو انشغل بتخريبها، واقتصر على تكرار قراءة الكتاب، فلو ترك القراءة عند المخالفة لكان أبعد عن الاستهزاء والمقت الدوسري 136. ومن قبله قال المعنى نفسه إياس بن معاوية : "مثل الذين يقرأون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره، كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلاً، وليس عندهم مصباح فداخلتهم روعة، لا يعرفون ما في الكتاب. ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجال جاءهم المصباح، وقرأوا ما في الكتاب". إدراك هذه الرسالة هو الذي ارتفع بهم إلى مصاف الخواص في السلوك، وكانت أمامهم صورة الحمار الذي يحمل أسفاراً، معادلة لصورة المثقف الذي لا يستفيد ولا يفيد من علمه، وصورة "بلعام" الذي رسب في الامتحان السلوكي، فلم يرتفع بالتلاوة، ولكنه "أخلد إلى الأرض" لقد حفظ الآيات التي آتاه الله، ولكنه "انسلخ منها" عند التطبيق الدوسري 141. التلاوة سلوك لا أصوات ومن أجل ذلك كان الترابط بين القراءة والصلاة والزكاة "إن الذين يتلون كتاب الله، وأقاموا الصلاة وأنفقوا من ما رزقناهم، يرجون تجارة لن تبور". فاطر : 29. هذا هو فهم التلاوة الحقة، فالتلاوة الحقة عمل وسلوك، ولذلك استحقت الثناء: "الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته" البقرة: 121. لقد أدركوا أن "حق التلاوة" هو العمل الذي يدل على الهداية، وينبثق من التدبر، وليس حق التلاوة هو "إجادة الحروف ومعرفة الوقوف"، كما نسب الى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو قول شاذ لا يتناسق مع الموقف العام له، بل إنه يناقض ظاهر الآية نفسها "الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به، ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون" البقرة: 121. فلم تكن القضية التي تناقشها الآية مسألة طلاقة لغوية، أو قراءة جيدة فصيحة مجودة وقراءة رديئة ضعيفة، لكنها القراءة الفعالة في السلوك، ولذلك جاءت المقابلة بين الرابحين الذين تلوه حق تلاوته، والخاسرين الذين لم يتلوه حق تلاوته. فالقضية تتجاوز المستوى اللغوي إلى المستوى النفسي والعملي. ولذلك جاءت المقابلة بين القارئ المؤمن والقارئ الكافر: الأول أجاد التلاوة، والثاني لم يجدها ومعادله صورة "بلعام". لكن عندما تأخر المسلمون أحالوا مصطلحات معنوية كحق التلاوة إلى مصطلحات شكلانية، وتحول مفهوم الترتيل والقراءة والتغني إلى المستوى الصوتي، وسيطرت الظاهرة الصوتية على قراءة القرآن الكريم، وأساء الناس فهم الأحاديث، كما أساءوا فهم الآيات التي تتصل بمستوى الأداء، كقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن". وتحت هذا الإطار صار علم التجويد هو نموذج التلاوة الحقة، وصار من أخطأ فيه فقد لحن في القرآن لحناً خفياً، لا يقل خطورة عن اللحن الجلي، على مستوى الصرف والنحو انظر الإتقان للسيوطي: 1/132. * أكاديمي سعودي.