لو أن أسلافنا شاهدوا حالنا في هذا الزمان لكان داخلهم الشك انهم تركوا لنا هذا الإرث العظيم من التراث المتسامح والمفتوح على المعارف والعلوم وحرية التعبير عن أحوال الدين والدنيا: فهم كانوا سيرون انقلاب الحال وشيوع التزمت والتضييق على الحرية، والخوف من جعل المقدس جزءاً من حياتنا وثقافتنا. حكاية ابراهيم نصر الله مع المشايخ السوريين تدخل ضمن هذا السياق الذي يذبح فيه الأدب لمصلحة التفسير الحرفي وليّ أعناق الكلمات كأن يُكفّر الشاعر لأنه استخدم تعبيراً دارجاً في الحياة اليومية، ولأن المؤول لا يحسن قراءة نص شعري! بدأت الحكاية عندما شنّت مجموعة من رجال الدين السوريين حملة في الصحافة السورية على ديوان ابراهيم نصرالله "بسم الأم والابن" المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1999 لافتين ان الشاعر ما كان ينبغي له أن يستخدم البسملة في غير سياقها. وذهب بعضهم الى ان الشاعر ملحد إذ قاموا بقراءة مقطع شعري من قصيدة "في حديثها عن وداعه صبحاً" بطريقة ملتوية تدل على جهل فاقع بالقراءة عموماً لا بقراءة الشعر وحده. ان السطور الشعرية في هذه القصيدة تقرأ كما يلي: "صدري أحق بك الآن من هذه الريح/ صدري أحق/ لأنك من دون خلق إلهي /منذ عرفتك/ كنت الأرق" ولا أظن ان قارئاً لديه القليل من المراس في قراءة الشعر وفهمه يعجز عن فهم المعنى الذي يقصده الشاعر في قوله "من دون خلق إلهي/ كنت الأرق"، فهو يريد القول "انك كنت أرق خلق الله جميعاً"، ولا يجوز أن نؤول المعنى بليّ معنى الكلام ونقول انه يقصد ان يقول "انك من دون أن يخلقك الله كنت الأرق" لأن هذا التأويل يعكس جهلاً أو سوء نية مبيتة لتقويل الشاعر ما لا تحتمله الصيغة الدلالية للبيت الشعري. أما في ما يتعلق بإيراد لفظ البسملة والحاقها بغير لفظ الجلالة "بسم الأم والابن"، والعيب على الشاعر أنه يستخدمها لأنه "نصراني"!، ولنلاحظ الاستنتاج العبقري من اسم ابراهيم نصرالله انه مسيحي وليس مسلماً وهو مسلم، فهذا يدل على جهل فاضح بطريقة استخدام الألفاظ في الحياة اليومية حين نقول: باسم الوطن، باسم الأمة... كما ان استخدام نصرالله للكلمة في عنوان مجموعته الشعرية ملتبس ما بين البسملة والحاق حرف الجر بكلمة "اسم" وهو أمر شائع في الشعر الذي يعمل على خلق علاقات ملتبسة بين الألفاظ والسياقات لأغراض جمالية. لكن الفاضح في هذه الحملة الجديدة، التي تصطف الى جانب شقيقاتها من الحملات التكفيرية الدائرة في راهننا العربي، يتمثل في غياب القراءة والاستناد الى الإشاعة والاكتفاء بقراءة العناوين والسطور الملبسة. فمن الواضح ان من كتب من مشايخ سورية عن ابراهيم نصرالله لم يقرأ مجموعته الشعرية، وهو إن قرأها لم يفهم قصائدها وسياقاتها. ان القصائد تصور ايمان الأم وتتحدث في مقاطع طويلة عن صلاتها، التي هي صلاة مسلمين. وتشيع هذا الجو المناقض لما استنتجه المشايخ من القصائد. ولنقرأ السطور الشعرية التالية: "أخبئ أيام عمري /لأرجع ثانية لجرار مياهي /ووقع خطاي على بيدر القمح /أنى توجهت وجه لربي /وأنى ركعت هنالك سجادة لصلاتي /وأنى مضى الدرب بي/ سيعيد المدى خطواتي" ولنسأل أنفسنا: ألا يشيع ما سبق روحاً ايمانية غامرة ويضفي على الأم صورة المرأة الصابرة التي تستعيد سيرة أيامها كمهاجرة فلسطينية فقدت رفيق عمرها وقاست العذاب في حياتها؟ فمن أين تأتي التأويلات الشاحبة والغريبة ان لم يكن من أرض الجهل وعدم الإلمام بقراءة الشعر؟ لنقرأ السطور الشعرية التالية لنتبين الأسباب الواهية للحملة: "وتصعد للسطح عند الغروب /تلوح للشمس /تسمع صوت الأذان على درج الظلمات /تلملم دمعتها وتعود لركنها لتصلي العشاء /تطيل الركوع... /تطيل السجود /تطيل الدعاء كأن أبانا - هنا - في الصلاة". فهل يمكن اطلاق وصف الكفر على مثل هذا الكلام الذي يصور صلاة الأم وخشوعها واستعانتها بالصلاة لتخفيف مصابها بفقد زوجها الأب المذكور في السطر الأخير؟ انها بالفعل كوميديا سوداء تلك التي نعاينها في هذا الزمان العربي العجيب. فإلى أي جانبيك تميل أيها المبدع العربي؟