مشكلة المثقف العربي والسلطة هي مشكلة في النسق الثقافي ذاته، ذلك النسق المتحكم فينا منذ زمن العصر الجاهلي حينما تواطأ الشاعر المداح مع السلطان الممدوح وتمت الصفقة التبادلية الثقافية بين الطرفين وتجددت في العصر الأموي، وفي زمن التدوين الثقافي في العصر العباسي. وانبعثت في زمن التكوين الحزبي والإيديولوجي السياسي في القرن العشرين، وهذا رباط أو تواطؤ عريق متجدد بين المثقف والسلطة، نسي فيه المثقف أمرين مهمين، هما الناس وعموم الشعب، والقضية بوصفها المبدأ والشعار. واختلط عنده الرمز المثالي، متوهماً ان الباب الى التغيير والتنوير هو عبر التغلغل الى السلطة ومن ثم توجيهها نحو التغيير، غير ان ما لم يكن في حسبان المثقف هو ان لعبة السلطة تملك من الحيل والإغراء والتشويش وسائل بها تحتال على كل المتعاملين معها لتحولهم الى أدوات تتحرك بحسب شرطها مع قدرتها على لفظ المنشقين والمخالفين في أي لحظة. هذه نتيجة لا يصعب أبداً تبين شواهدها باستمرار واطراد، ومع هذا الوضوح، فإن اللعبة تظل تتكرر، مما يفسر لنا نكوص معظم المثقفين العرب في نهايات مطافاتهم واستسلامهم للواقع. كل هذا لأن المثقف لم يعتبر من عِبَر التاريخ والتجارب، ولم يحرر نفسه من وهج السلطة، ومن الاعتقاد بأن التغيير يأتي من فوق وليس من القاعدة الشعبية. ولهذا ظلت ثقافتنا نخبوية ومتعالية ومنبتة الصلة بالناس. وتنتهي دائماً في ان تكون عميلة للسلطة ومستخدمة منها. وهذه نهاية حتمية لكل من مد يده وأخضع الفكر للحاكم بدلاً من أن يكون مع الوعي النقدي المعارض بالعقل والجدل. وخذ مثلاً من طوابير الكتبة الذين هللوا لاتفاقات السلام مؤمنين ان التفكير السياسي هو فن الممكن كما هي السياسة ذاتها، ولم يخطر ببالهم الدور النقدي والحس الواعي بحركة الثقافة الحرة ومسؤوليتها النقدية والتبصيرية. وإذا ما جاءت النتائج على نقيض أوهامهم راحوا ينتكسون بحس انهزامي مر، ويظل التبرير الواقعي هو ديدنهم لأنهم يعجزون عن تصور ما هو فوق الواقع. وتظل النتائج الواقعية هي مدار شروحهم للظواهر مما يجعلهم بعيدين من التأثير في الواقع أو تغيير حركة التاريخ ما داموا يرحلون الى وهم التواطؤ مع السلطة بما انها هي أداة التغيير. ولم تكن السلطة إلا أداة للترسيخ والتثبيت، أي تحويل الأمول الى واقع مسلّم به وهذه حال ثقافتنا. وما دام المثقف متعالياً على القاعدة الجماهيرية البسيطة في ظاهرها والعميقة في رؤيتها غير المعبر عنها، وما دام يخلط بين القضية والسلطة ويظن ان السلطة هي أداة القضية ، فإنه سيظل هو نفسه أداة بيد السلطة ووسيلة من وسائلها. وسيكون معرضاً في أي لحظة لأن تلفظه السلطة إذا وجدته محرجاً لها أو لم يعد نافعاً لتنفيذ خططها، وعلى مر قرون وأجيال، وهي قصة متكررة ودائمة التكرار. كاتب وأكاديمي سعودي.