السعودية تؤكد ضرورة اتخاذ إجراءاتٍ فعّالة للقضاء على الجوع وتلبية الطلب المتزايد على الغذاء حول العالم    دوري روشن: ثنائية حمدالله تقود الشباب لكسب مواجهة الخلود    شرطة النماص تباشر «إطلاق نار» على مواطن نتج عنه وفاته    أستراليا تعتزم حظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لمن هم تحت سن 16 عاما    «السوق المالية»: إدانة 3 بمخالفة نظام السوق المالية ولوائحه التنفيذية ونظام الشركات وتغريمهم 3.95 مليون ريال وسجن أحدهم    وكيل أعمال سعود عبدالحميد يكشف حقيقة عودة موكله إلى «دوري روشن»    الاتفاق يختتم تحضيرات الهلال    الأولمبياد الخاص السعودي يستعد لاستضافة المجلس الإقليمي للاعبين القادة في جدة    وزير الداخلية يستقبل سفير فرنسا لدى المملكة    سقوط 46 قتيلا.. مجازر إسرائيل مستمرة في قطاع غزة    «سلمان للإغاثة» يوزع 1.490 من السلال الغذائية والحقائب الصحية في محافظة إدلب    انطلاق أعمال مؤتمر النقد السينمائي الدولي في الرياض    إنطلاق أعمال المؤتمر العالمي لطب الأعصاب بمشاركة اكثر من 350 مختصاً    المربع الجديد يستعرض آفاق الابتكار الحضري المستدام في المؤتمر العالمي للمدن الذكية    جامعة الفيصل توقّع عقد إنشاء مبانٍ لكليتي الهندسة والقانون بقيمة 325 مليون ريال    "سلمان للإغاثة" يوزع 2.459 كرتون تمر في مديرية الوادي بمحافظة مأرب    أمير القصيم يرعى حفل تدشين 52 مشروعا صحيا بالمنطقة بتكلفة بلغت 456 مليون ريال    البنك الأهلي السعودي يطلق محفظة تمويلية بقيمة 3 مليارات ريال خلال بيبان24    القبض على يمني لتهريبه (170) كيلوجرامًا من نبات القات المخدر في جازان    حاكم الشارقة يفتتح الدورة ال 43 من معرض الشارقةالدولي للكتاب    فقيه للرعاية الصحية تحقق 195.3 مليون ريال صافي ربح في أول 9 أشهر من 2024 بنسبة نمو 49%    الأمير محمد بن عبدالعزيز يدشّن فعاليات مهرجان شتاء جازان 2025    بانسجام عالمي.. السعودية ملتقىً حيويًا لكل المقيمين فيها    "ماونتن ڤيو " المصرية تدخل السوق العقاري السعودي بالشراكة مع "مايا العقارية ".. وتستعد لإطلاق أول مشاريعها في الرياض    رحيل نيمار أزمة في الهلال    إيلون ماسك يحصل على "مفتاح البيت الأبيض" كيف سيستفيد من نفوذه؟    أمانة الشرقية: إغلاق طريق الملك فهد الرئيسي بالاتجاهين وتحويل الحركة المرورية إلى الطريق المحلي    مبادرة لتشجير مراكز إسعاف هيئة الهلال الأحمر السعودي بمحافظة حفر الباطن    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    محافظ جدة يشرف أفراح آل بابلغوم وآل ناصر    السعودية بصدد إطلاق مبادرة للذكاء الاصطناعي ب 100 مليار دولار    الذهب يقترب من أدنى مستوى في أكثر من 3 أسابيع    هاريس تلقي خطاب هزيمتها وتحض على قبول النتائج    إصابة فلسطيني برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال اقتحام بلدة اليامون    العام الثقافي السعودي الصيني 2025    المريد ماذا يريد؟    منتخب الطائرة يواجه تونس في ربع نهائي "عربي 23"    أربعينية قطّعت أمها أوصالاً ووضعتها على الشواية    «بنان».. سفير ثقافي لحِرف الأجداد    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    ترمب.. صيّاد الفرص الضائعة!    ربَّ ضارة نافعة.. الألم والإجهاد مفيدان لهذا السبب    رينارد يعلن قائمة الأخضر لمواجهتي أستراليا وإندونيسيا في تصفيات مونديال 2026    الدراما والواقع    سيادة القانون ركيزة أساسية لازدهار الدول    التعاطي مع الواقع    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    ليل عروس الشمال    التكامل الصحي وفوضى منصات التواصل    تقاعد وأنت بصحة جيدة    الأنشطة الرياضية «مضاد حيوي» ضد الجريمة    الداخلية: انخفاض وفيات حوادث الطرق بنسبة 50%    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    تطوير الشرقية تشارك في المنتدى الحضري العالمي    فلسفة الألم (2)    سلام مزيف    همسات في آذان بعض الأزواج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رداً على صلاح عز : . حياة للشعوب أم موت ... وماذا لو انتهت الصهيونية وبقيت الفاشية العربية ؟
نشر في الحياة يوم 10 - 01 - 2001

طالعتُ في "الحياة" بتاريخ 19/12/2000 تحت عنوان "رداً على أمين المهدي: عودة الى تسويق الحل الإسرائيلي والتبشير بهزلية الانتفاضة"، تعليقاً على مقالتي في "الحياة" بتاريخ 6/12/2000، وبعد القراءة تبين لي أن السيد صلاح عز قدم عينة مثالية وتكاد تكون تعليمية لطريقة تفكير العقل الديني المدافع أيضاً عن الإسلام السياسي، الأيديولوجية المتصدرة للساحة السياسية العربية الآن.
وكالعادة ولتأكيد المنطلقات الاتهامية التي بدأت من العنوان راح عز يجتزىء وينتقي ويستخرج العبارات والأفكار من سياقها، وليته توقف هنا، لكنه زاد فأخذ يغير من الألفاظ على لساني، ويضع كل ذلك في سياق آخر مضاد، مفسراً لي من عندياته، حاجباً كل التحليلات والتفسيرات في طول مقالتي وعرضها. واذا كان كل ما سبق يمكن توقعه باعتباره عيباً عربياً شائعاً، إلا أن ما أثار استغرابي هو تجاهل الكاتب للفكرة المحورية والعمود الفقري لمقالتي، وهي عن التحالف الإقليمي غير المباشر والموضوعي بين قوى الفاشية العربية وقوى الحرب والتوسع الصهيونية الفاشية هنا هي اختصار الوطني في فكرة أو شخص. هذا التحالف الذي حاصر دائماً كل احتمالات السلام، وحول قضية فلسطين إلى قضية الفرص الضائعة بحق، وكيف أن زيارة شارون إلى الأقصى حملت تلك الرمزية السياسية، وأنه ترك للفاشية العربية أن تكمل ما بدأه كي يحاصر آخر فرص الحل السلمي التفاوضي. وختمتُ مقالتي بأنه إذا كانت البربرية الصربية سقطت في البلقان، وتم احتواء البربرية الهندوسية في الدول المدنية الهندية، فقد تبقت بربريتان في قلب العالم القديم هما الصهيونية التوسعية والإسلام السياسي المتطرف، وأن السلام الحقيقي يشترط زوال الصهيونية الاستيطانية والأنظمة العربية غير الديموقراطية، اضافة الى محاولة تشخيص أزمة العقل العربي وانحصاره في طور العقل الديني، أي ما قبل الفلسفي، وبالتالي ما قبل العلم، أي ما قبل المعرفة والدولة والمواطنة والصناعة والبرلمان والحداثة والرأسمالية والتنوير والحرية الاجتماعية والفردية والدستور والقوانين المدنية. كل ذلك لم يعلق عليه السيد عز، فهل هي غريزة الاتهام سبقت الرغبة في الحوار؟ أم لأنها الطريقة المفضلة للعقل الديني في تجريد الأفكار والظواهر وتبسيطها ثم فهمها؟
بدأ الكاتب تعليقه بعبارة لنتانياهو: "إننا نخوض صراع وجود وليس صراع حدود". حسناً، إنها عبارة تحمل الرمزية السياسية نفسها لزيارة شارون، ألم يكن الوكلاء الأغبياء على الجانب العربي يرددون ذلك لنصف قرن؟، ثم ألا تصلح تلك العبارة أن تكون الطبعة الحديثة لشعاري "إسرائيل الكبرى" و"إزالة إسرائيل" اللذين تبادلا الشرعية والتبرير طوال نصف قرن واضاعا الحريات والتنمية والسلام مع إضافة "بسيطة" وهي أن الخاسر على الدوام كانت الشعوب العربية وفي مقدمها الشعب الفلسطيني.
أخذ الكاتب بعد ذلك يفتش في ضميري في ما يشبه الاستتابة السياسية: "وتنقلب الدهشة الى اشمئزاز عندما نبحث في المقال الطويل عن رأي الكاتب في قضية القدس - خصوصاً أنه - يهاجم الانتفاضة التي انطلقت منها - فلا نجد لهذا الرأي أثراً..."، وهكذا أخذ السيد المشمئز يحاسبني على ما لم أكتب! هذه مقالة تحليلية وليست بياناً، واذا كان يعنيك رأيي فعليك بكتابي عن الصراع أو مقالتي قبل الأخيرة في "الحياة" 14/10/2000. ويواصل عملية الاستتابة السياسية تلك: "لا يبدو الكاتب وكأنه تأثر بأحداث الشهرين الماضيين"... ماذا تقصد بتأثر؟ هل هذا تعبير عاطفي أم عقلاني؟ ألم تكن تكفي تسع نقاط مقارنة بين انتفاضة 1987 الوطنية المدنية وبين العصيان المسلح أو الحرب الدينية الحالية؟ وأزيد عليها الهجرة المسيحية الحالية الى كندا وأميركا من أراضي السلطة الفلسطينية وبخاصة من مثلث بيت ساحور وبيت جالا وبيت لحم، وعملية قتل الاسرى والتمثيل بجثثهم ونبش القبور وقتل الأطفال، وبعد كل ذلك أين ذهب الزخم الشعبي الذي بدأت به؟ لقد بددت تجاوزات الإسلام السياسي وشعاراته الأصولية تضحيات الشعب الفلسطيني وقللت من بروز أهمية المستوطنين والشرطة وجيش الدفاع الإسرائيلي، وهذا هو أهم أسباب عزلة هذه الحركة عن الرأي العام العالمي وعن التأثير الفاعل في الداخل الإسرائيلي، بعكس انتفاضة 1987 التي تم تعيين قادتها في أجهزة الأمن والمباحث وحراسة السجون الفلسطينية! وتجدر الاشارة هنا الى الصدامات داخل المخيمات بين بعض التنظيمات، وعودة القرى والمدن إلى الأطر التقليدية المناطقية والعشائرية، وانهيار مؤسسات السلطة والاختراق المعلوماتي والتنظيمي على نطاق واسع، ناهيك عن الخسائر المهولة. وهل ينبغي أن نذكر بفتنة الناصرة والعدوان على حرم كنيسة البشارة على رغم وساطة بابا الفاتيكان والعديد من الأمراء والشخصيات العربية. والأدلة كثيرة على أن الإسلام السياسي المتطرف يقيم وثنية جديدة أو لعلها صهيونية إسلامية بوضعه العقارات والجدران الدينية فوق العدالة الإنسانية وحقوق البشر. ليس معنى ذلك أنه ليس لهذه الحرب جوانب ايجابية من بينها التركيز على الاستيطان كعقبة أمام السلام وتوجيه ضرابات موجعة له، ولكنها لا تتناسب مع الكلفة، لذا نسب إليّ الكاتب "... إقحام مضلل للإسلام السياسي الذي يصفه تارة بالفاشية وأخرى بالدموية وأخيراً بالبربرية...". وأزيد ما نسيته أنت "الانقسامية المكلفة"، سأدع لك أو للقارىء من باب الرياضة الذهنية أن تتذكر عشر دول على الاقل يسيل فيها الدم وتدور فيها المجازر بصفة شبه يومية تحت شعار الإسلام السياسي في أنحاء العالم الإسلامي. اما في مصر فيكفي ان أذكرك باغتيال أحمد ماهر باشا وفهمي النقراشي باشا حكم الانكليز عليهما بالإعدام خلال ثورة 1919 ولم ينفذ الحكم والمستشار أحمد الخازندار وفرج فودة، وقتل الأقباط ورجال الأمن ومجزرة السياح في الأقصر. ويأخذ عليّ السيدُ المشمئز: "فانطلق يستنكر اتفاق الانظمة العربية والتيارات القومية مع القوى الإسلامية - حول موقف موحد من القدس ومقاومة الاحتلال - بوصفه تحالفاً بين الأنظمة العربية والقوى الفاشية الدينية والقومية"، لم أقل هنا الأنظمة العربية وانما أنظمة الاستبداد السياسي، واضف أنه التحالف الداخلي المعادي للديموقراطية والسلام، والذي هو أكثر كلفة من الصراع العربي - الإسرائيلي، وهو نفسه الطرف العربي في التحالف الإقليمي غير المباشر مع الصهيونية التوسعية، وما الجديد في ذلك؟ إنه التحالف الذي أدار الصراع بكل نتائجه الكارثية، ولنصف قرن، وقبله نصف قرن آخر في ظل شعارات الاصولية، ونذكر هنا قيادة الحاج المفتي أمين الحسيني. ومن المفيد أن نذكر بحرائق وتفجيرات "الإخوان" و"مصر الفتاة" في ممتلكات اليهود المصريين لتهجيرهم الى إسرائيل، ثم أكمل عبد الناصر المهمة بشكل منظم وقانوني بعد انقلاب 1952. والشيء نفسه قام به ما سمي بكتاب الفداء في سورية ولبنان، وقامت به عصبة ضباط المربع الذهبي ورشيد الكيلاني ثم حكومة توفيق السويدي في العراق. وفي اليمن قام الامام بتكفير اليهود للغاية نفسها، وفي ليبيا هُجروا بدعوى عدم القدرة على حمايتهم في 1967، والأمر كان اسوأ في باقي العالم العربي. وهكذا قُدمت الانتصارات والاراضي والسكان اليهود العرب الى إسرائيل، وهكذا أقالت الفاشية العربية الصهيونية من عثرتها عندما فشلت في جلب الهجرة اليهودية الكافية من أوروبا، وبعد ذلك قامت عمليات "حماس" و"الجهاد" الفلسطينيين بإنجاح نتانياهو ونظريته عن الأمن والسلام في العام 1996، والآن تدور بنشاط عملية تمهيد الأرض أمام اليمين بقيادة شارون، وسأترك للكاتب أن يسمي ذلك طامعاً في بعض أمانة فكرية ليس أكثر.
وفي اعتداء آخر على الموضوعية ونزاهة الحوار يقول: "... فانطلق يترافع عن إسرائيل وترويج حججها كما لو أنه أصبح ناطقاً بلسان حكومتها" و"إدانة تمجيد الانتحار والقتل واحتقار الحياة من جانب الفلسطينيين". إنها غريزة الاتهام سبقت النزاهة هذه المرة، والعبارة الاصلية هي: "لقد اثبت العقل العربي مراراً أنه لم يتعد طور العقل الديني أي نسق المعرفة والثقافة والعلاقات الاجتماعية و... و... الذي رافق المعتقدات الإيمانية عند ظهورها... لذا تحول الحق من عمل عقلي الى ما يزنه من كراهية وعنف، وحلت الغرائز السياسية محل العقل السياسي، وساد تمجيد الانتحار والقتل واحتقار الحياة، كل ذلك في ظل استبداد سياسي همجي معاد للتغيير والتطور". لقد أثبت السيد عز من حيث لا يدري بعض صفات التطرف الديني. ثم يقول عني: "تسفيه نداءات مقاطعة البضائع الأميركية بتعديد الكاتب لأفضال أميركا على العرب... حماية منابع النفط وحفظ التوازن العربي - العربي... الخ". ليتك اكملت "والتوازن العربي - الإيراني، والمصدر الاول للمعونة والسلاح والاستثمارات، ورعاية المفاوضات العربية - الإسرائيلية، وقضايا داخلية مثل السودان، كل ذلك لا يعني سوى أنه - أي المقاطعة وإعلان الحرب على أميركا - أصبح طقساً فولكلورياً أقرب الى طبول "التام تام" الافريقية. لماذا تحسب هذا افضالاً أميركية على العرب ولا تحسبها خيبة وفشل عربي كي تستقيم الأمور أكثر؟ أم أنه رصيد نقد الذاتي تناقص الى درجة الصفر.
وعندما يشرع الكاتب في تقديم تحليل مباشر للمرة الأولى لأسباب عزلة العصيان المسلح أو الحرب الدينية الحالية الانتفاضة الثانية كما يسميها، في حين حصلت الانتفاضة 1987 على دعم دولي وإسرائيلي داخلي جارف، يقول: "إن إسرائيل فوجئت تماماً بالأولى من دون أن تستعد لها انتفاضة 1987 استمرت سبع سنوات، اما الانتفاضة الحالية فقد كانت إسرائيل تعد لها طوال العقد الماضي، الذي استرخى فيه العرب واستكانوا لأوهام السلام، وذلك بعد ان تعلمت الكثير من دروس الانتفاضة الأولى". إذا أردت أن تكون مضحكاً فهذا شأنك، ولكن الفهم بالقطعة وتجاهل الفروق بين النضال المدني والعصيان المسلح فهذا تجاهل للتركيب والجدل الداخلي للظواهر وللأوضاع العالمية ومتغيراتها، ولا يعود هنا للكتابة معنى اذا كان الغرض هو مخاطبة العقول. وحين ورد في مقالتي ان مؤتمر القمة العربي بعث برسالة سلام لا لبس فيها، قام الإعلام العربي الرسمي في معظمه بشن الحرب وإشاعة مناخ الحشد والتعبئة بغرض الاستهلاك المحلي. تعليقاً على ذلك يقول الكاتب إنني أدعو الى حجب الحقائق ثم يضع عبارة إعلام الانتفاضة بدلاً من الإعلام الرسمي. أعرف أن العقل الديني ما قبل المنطق، ولكنني لم اتوقعه بهذا الوضوح. ثم يستمر في عملية محاولة إغراق السمك تلك بقوله عني: "اتشدق بالديموقراطية من ناحية واستنكر تفاعل الأنظمة مع نبض الشارع العربي". منذ متى كانت الأنظمة تتفاعل؟ وهل في غياب الديموقراطية يوجد نبض للشارع؟ فقط ديماغوجيا استعمال الجهل كوسيلة سياسية وشعبوية هذا هو المسموح به، ولكنني اعترف هنا إنني استشعر أن بعض العبارات ترقد وراءها الأفاعي مثل "نبض الشارع"، "الإجماع القومي"، "الصف الوطني"، "إرادة الأمة"، "صوت الجماهير"، "ثوابت المجتمع"، خصوصاً أنها لا تخلو من سوء سمعة" فلقد جاءت كلها من قواميس الطغاة من أمثال هتلر وموسوليني وفرانكو وسالازار وستالين وتيتو وعبد الناصر والخميني. واعترف أنه حتى الوطنية والمصالح العليا للدولة لا يمكن الثقة فيها عند صياغتها خارج الديموقراطية" فهي ستتحول بالتأكيد إلى كود شفري للحفاظ على استمرار نظم الطغيان. وهكذا يا سيدي يصبح الشارع الوحيد الذي أعرفه هو الشارع السياسي، في الأمة الوحيدة التي أعرفها وتعرفها الديموقراطية وهي الأمة السياسية المدنية. بعد ذلك يستدرج الكاتب نفسه الى الخلط بين أهداف باراك وبين "الحل الوسط النسبي والتفصيلي والإنساني"، ثم يتورط أكثر ويقول إن الصحافة اليمينية الإسرائيلية تطلب ذلك، اعتقد انه حان وقت الاخطاء الرقمية، الحل الوسط يا سيدي هو اتفاق السلام الذي يوافق عليه عدد كاف من الإسرائيليين وعدد كاف من الفلسطينيين، والحل الوسط السلمي التفاوضي ليس هو الحق وليس السلام الحقيقي، هذان عبارة عن عملية عقلية للتفاعل مع الواقع وتطويره. لقد وقعت اليابان والمانيا اتفاقات استسلام من دون قيد أو شرط، حتى أنهم وقعوا وقوفاً ولم يجلسوا امام الحلفاء، انظر ماذا اصبحت عليه احوالهم في أقل من نصف مدة الصراع العربي - الإسرائيلي، فما بالك بحل وسط شبه متكافئ. ويرى الكاتب أن حرب 1973 وانتصار المقاومة اللبنانية استثناء من ثنائية الحرب والهزيمة العربية، لقد كان السادات يتحدث ليل نهار عن "نصر أكتوبر" وعندما ذهب الى الكنيست قال: "حرب أكتوبر" وانها آخر الحروب، وفي اعتقادي أن حرب أكتوبر مهدت المجتمع الإسرائيلي لقبول السلام، وهي صفحة مشرفة للشباب المصري والسوري حين قاتلوا المدرعات بأسلحة المشاة، وهي قرار سياسي ذكي أخرج صراع الشرق الاوسط من مظلة الحرب الباردة وهو ما سهّل الحل السلمي التفاوضي. ولكن الحرب نفسها تظل في حدود العمل التكتيكي، خصوصاً أن السادات كان يقول عنها دائماً إنها حرب "تحريك". واذا كانت انتصاراً كما يقال فلماذا الحال هكذا على الجبهة السورية؟ أعيد وأكرر أن الفارق بين الجبهتين هو الحل السلمي الوسط التفاوضي. والحال نفسها تنطبق على انتصار المقاومة اللبنانية مع مقياس أصغر كثيراً، فهو انتصار حقيقي بارع، ولكنه انتصار تكتيكي محدود بمسرح العمليات الصغير والأهداف المحدودة، والدليل انه لم يغير من علاقات موازين القوى، بل واسقط النظرية السياسية العربية عن تلازم المسارين، وكانت المبالغة في حجم الانتصار هذا الانتصار سبباً في تغذية ذهنية الحرب الدينية او العصيان المسلح الحالي. أعرف أيضاً أن المبالغة لم يكن هدفها مقاومة الاحتلال بقدر ما كانت عملية تجميل للمشروع الديني الظلامي.
قبل النهاية يقول انني استبعدت من مثلث العجز أو المأزق الحالي أهم أضلاعه وهو المقاومة الشعبية، وهل النضال المدني الذي نحبذه بما يمكن أن يحتويه من عصيان مدني ليس مقاومة شعبية؟ انه أرقى انواع المقاومة وأنسبها للشعب الفلسطيني وللمتغيرات العالمية ولتكوين المجتمع والقوى في إسرائيل، وانتفاضة 1987 والمرحلة الاخيرة في قضية الاضطهاد العنصري في جنوب أفريقيا خير دليل.
في النهاية يأتي دور الشعب في تعليق الكاتب، ويتحدث عن الشعوب التي لا تهاب الموت، كنت اعتقد ان الشعوب الحرة المبدعة التي تحب الحياة هي التي تنتصر، ولكن ربما أفشى لنا السيد عز بسر خطير، لعله السبب باستثناء الاستقلال عن الاستعمار في أنه لم يحل صراعاً طوال القرن الماضي كانت اطرافه أو احدهما من العرب أو المسلمين. ليس هذا فقط، بل يبلغ الصراع احياناً درجات مذهلة من الهمجية ولحقب طويلة، وعلينا بعرض الشكل العربي - الامازيغي وأزمة الصحراء المغربية وأوضاع الجزائر ونيجيريا والسودان والصومال، وأزمة القوى المدنية والاقباط في مصر منذ 1952، والمشكل العربي - الكردي، والسني - الشيعي ولبنان، ثم ايران وافغانستان والباكستان والفلبين واندونيسيا 4 صراعات قومية ومذهبية اساسية، وفي مقابل ذلك تفترق قوميتان بسلاسة وديموقراطية في الفراش كما يقال في اوروبا هما التشيك والسلوفاك، وسقطت البربرية الصربية امام صندوق انتخابات ونضال مدني، وعشرات الاحزاب في اوروبا الشرقية تركت السلطة بعد أن حكمت لنصف قرن أو يزيد من دون طلقة رصاص واحدة - باستثناء رومانيا -. وشهد الكثير من الدول تطوراً ديموقراطياً للمرة الأولى في تاريخها، وقام حكام من الجنرالات بإنهاء جمهوريات عسكرية بأيديهم ثم دخلوا السجون بأقدامهم في اليونان وأميركا اللاتينية وآسيا.
ومن الطريف أن الدبابات السوفياتية التي كانت تنوي القيام بانقلاب توقفت أمام إشارات المرور في موسكو وتراجعت امام العصي في ايدي المدنيين. واعترف هنا انني أخشى ان ينجح اليسار والعلمانيون في إسرائيل في الولوج الى "الدولة الامة المدنية الحديثة" وبذلك تنتهي الصهيونية وتصبح إسرائيل دولة لكل مواطنيها، والقوة الأولى اقتصادياً واستراتيجياً وسياسياً وديموقراطياً وثقافياً في الشرق الاوسط. وتتبقى لنا القوى الفاشية العربية المعادية للديموقراطية والتطور والسلام، كما حدث عندما رحل الاستعمار الغربي، واستفحلت هذه القوى واستشرت واستولت على الحكم في العديد من الدول العربية، وأقامت جمهوريات عسكرية قومية ودينية، وكان من أدواتها الحاسمة العقل الديني المتطرف والاستهلاك المحلي والمتاجرة بعذابات وحرمان الشعب الفلسطيني.
* كاتب مصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.