إعادة إحياء فن المراسلة الأدبية التي باشرت بها "الحياة" الاثنين 4 أيلول - سبتمبر لفتت بعض الأدباء وأثارت فيهم حماسة المراسلة. هنا تكتب الروائية اللبنانية حنان الشيخ المقيمة في لندن رسالة الى الشاعر أنسي الحاج المقيم في بيروت. عزيزي أنسي، لم أنقطع عن كتابة الرسائل لك منذ رسالتي الأولى عام 1962، عندما كنت تلميذة في القسم الداخلي في المدرسة الإنجيلية في صيدا. أذكر الورقة البيضاء المخططة، وأذكر ما كتبته عن وحدتي ومعاناتي، على رغم أني بكيت وابتهلت لدى والدي وشددت شعري لأني أريد الالتحاق بهذه الكلية، بعيداً من البيت، بعيداً من بيروت. وكم احتواني النوم في اللحظة التي مددت فراشي فوق الرفّاص وتغامزت عليّ البنات لأنه أقل حجماً من السرير الحديدي. كتبت لك الرسائل من القاهرة، من افريقيا، سافرت وتنقلت، حططت ورحلت، ومع ذلك بقيتُ كزيزٍ رُبِطَ عنقه بخيط. استقرّ في لبنان ولا أتوقف عن الكتابة إليك ولو في الخاطر لأني منذ أن قرأت لك أولى الكلمات، شعرت بأني وجدت البوصلة، المرسى الذي كنت أبحث عنه من غير أن أدري، حيث تلتقي الأذهان وتتحاور، تتخاطب المشاعر وتتفاعل. فالقارئ يأتي بنفسه الى النص وأنا وجدت نفسي أفيض مع كلماتك، كأن "شارلوت، النسرة في الإصبع" فارقت قصيدتك وتقدمت مني، أمسكت بي تمسح جبيني وتطمئنني بأنها تفهمني. أكثر من ذلك، ألحق بك في ساحة البرج، بعد أن أنزلتك لي السماء ملاكاً بين الضجيج ورائحة الفلافل والضياع فأطلعك على كتاباتي، لتُصبح منذ ذلك الحين، العين التي تقرأ وتوجِّه، الأذن التي تسمع، النبض الصادق الذي يُحرِّضني ويُحرِّض غيري من الخيول لتمضي خلف ما تريده، ترتقي، هضبات الكتابة وتهبط أودية وأوردة المجتمع، تقفز غير مبالية فوق نار التقاليد. استهللت رسالتي قائلة بأني لم أنقطع عن كتابة الرسائل لك ولو في الذهن، إذ فراقي للبنان، نتيجة اندلاع الحرب أجبرني أيضاً على ترك نفسي ورائي، ويبدو ان الراحل يترك خلفه السنوات التي قاست طوله وقامت بعدِّ أسنانه، السنوات التي شذبته، والأيام التي تركت أثراً على روحه من جروح وضحكات، من أمانٍ ورعب، لذلك ارتبط لبنان الغائب عني بك وبصديقة عزيزة. كذلك ارتبط بزخرفة البلاط في بيتنا ومسكات أبوابه، ببعض الشجيرات والصوت الذي تحدته أذني كلما صعدنا الجبل ولا أخفي عليك أني حفظتكم جميعاً في قفص زجاجي واستأنست الى أن أخذت محتوياته تتسرب هاربة. حتى صديقتي العزيزة لم تعد سجينته، ما أن أخذت تمر على كلانا الأيام الجديدة والمدن والسنوات. ولم يبق في القفص سواك. أشعر بالشفقة عليك يا عزيزي أنسي، لأني ما زلت أسجنك في القفص لأني أعاتبك كلما أردت أن أعي موقع قدمي في لبنان، كلما شعرت بأني طفلة تائهة تود العودة الى "هناك" ولا تعرف أي هو "هناك". أفكر بعتابي لك في رسالتي الأخيرة وبجوابك لها فأطمئنّ وأُسعد: فنحن ما زلنا يا عزيزي نكتب الرسائل، ونقرأ الرسائل ونتأثر... ويعتذر كل منا للآخر ونضحك في زمن لم يعد المرء يكتب أو يقرأ الرسائل فكيف يتأثر؟ عدا أن الحرب قد مصّت اللب من العظام أخذ العمر كلما تقدم يسنّ بمنشار صغير ما تبقى لدينا من المبالاة والصبر والفضول والماضي. ... ولكن ما زالت البذور الحيّة تعيش حتى في قلب الورد اليابس، تنتظر التلقيح من أجل أن تشب من جديد، وكلماتك سوف تبقى مأوى أو شعلة محرّضة لكلِ من شَعَرَ وكتب، كذلك صداقتنا، مع حبي