زيلينسكي: علينا محاولة إنهاء الحرب العام المقبل    ضيف الرأي: الفنانة التشكيلية مروة النجار    إطلاق مركز (Learning Hub) للتعامل مع التهديدات الصحية المعقدة    المربع الجديد استعرض مستقبل التطوير العمراني في معرض سيتي سكيب العالمي 2024    «سلمان للإغاثة» يوزّع 175 ألف ربطة خبز في شمال لبنان خلال أسبوع    مصرع 10 أطفال حديثي الولادة جراء حريق بمستشفى في الهند    يدعوان جميع البلدان لتعزيز خطط العمل الوطنية    استمرار تشكل السحب الممطرة على جازان وعسير والباحة ومكة    سوق بيش الأسبوعي.. وجهة عشاق الأجواء الشعبية    مهرجان صبيا.. عروض ترفيهية فريدة في "شتاء جازان"    اكتشاف مخلوق بحري بحجم ملعبي كرة سلة    وظائف للأذكياء فقط في إدارة ترمب !    تركيا.. طبيب «مزيف» يحول سيارة متنقلة ل«بوتوكس وفيلر» !    زيلينسكي يقول إن "الحرب ستنتهي بشكل أسرع" في ظل رئاسة ترامب    ترامب ينشئ مجلسا وطنيا للطاقة ويعين دوغ بورغوم رئيسا له    إسبانيا تفوز على الدنمارك وتتأهل لدور الثمانية بدوري أمم أوروبا    "أخضر الشاطئية" يتغلب على ألمانيا في نيوم    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    نيوم: بدء تخطيط وتصميم أحياء «ذا لاين» في أوائل 2025    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    "سدايا" تنشر ورقتين علميتين في المؤتمر العالمي (emnlp)    اختتام مزاد نادي الصقور السعودي 2024 بمبيعات قاربت 6 ملايين ريال    "الشؤون الإسلامية" تختتم مسابقة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة في غانا    منع استخدام رموز وشعارات الدول تجارياً في السعودية    نجاح قياس الأوزان لجميع الملاكمين واكتمال الاستعدادات النهائية لانطلاق نزال "Latino Night" ..    لجنة وزارية سعودية - فرنسية تناقش منجزات العلا    الأمير محمد بن سلمان.. رؤية شاملة لبناء دولة حديثة    منتخب مصر يعلن إصابة لاعبه محمد شحاتة    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    ابن جفين: فخورون بما يقدمه اتحاد الفروسية    بعثة الاخضر تصل الى جاكرتا استعداداً لمواجهة اندونيسيا    القوات الجوية السعودية تختتم مشاركتها في معرض البحرين الدولي للطيران    جدة تشهد أفراح آل قسقس وآل جلمود    إحباط تهريب 380 كيلوجرامًا من نبات القات المخدر في جازان    القمر البدر العملاق الأخير    تركي آل الشيخ يعلن القائمة الطويلة للأعمال المنافسة في جائزة القلم الذهبي    خطيب المسجد النبوي : سنة الله في الخلق أنه لا يغير حال قوم إلا بسبب من أنفسهم    خطيب المسجد الحرام: من ملك لسانه فقد ملك أمرَه وأحكمَه وضبَطَه    "الخبر" تستضيف خبراء لحماية الأطفال من العنف.. الأحد    ليس الدماغ فقط.. حتى البنكرياس يتذكر !    أمريكا.. اكتشاف حالات جديدة مصابة بعدوى الإشريكية القولونية    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير الدفاع البريطاني    «قمة الرياض».. إرادة عربية إسلامية لتغيير المشهد الدولي    الخرائط الذهنية    مدارسنا بين سندان التمكين ومطرقة التميز    في أي مرتبة أنتم؟    الشؤون الإسلامية بجازان تواصل تنظيم دروسها العلمية بثلاث مُحافظات بالمنطقة    باندورا وعلبة الأمل    خالد بن سلمان يستقبل وزير الدفاع البريطاني    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    استعادة التنوع الأحيائي    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"لم أدخل في حزب ولم أستعمل طائفة ولا رعتني دولة". أنسي الحاج يتحدث عن قصائده المترجمة وعالمه الأثير وثورته الشعرية
نشر في الحياة يوم 14 - 02 - 1998

مَن يقرأ الشاعر أنسي الحاج مترجماً الى اللغة الفرنسية لا يجده غريباً عن الشاعر الذي كتب بنزق وتوتر حيناً وبجمالية وشفافية حيناً آخر. فالقصائد التي صدرت في باريس في كتاب عنوانه "الأبد الطيار" دار أكت سود أتاحت الفرصة أمام القرّاء الفرنسيين والفرنكوفونيين ليقرأوا شاعراً أسس قصيدة النثر العربية وشرّع للشعر العربي أفقاً لم يكن معهوداً في السابق.
وأهمية القصائد التي ضمّها الكتاب أنها تمثل معظم المراحل التي اجتازها الشاعر بدءاً ب"لن" وانتهاء ب"ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة؟".
هنا حوار مع الشاعر حول قصائده المترجمة وحول تجربته عموماً:
صدرت اخيراً ترجمة بالفرنسية لمختارات من شعرك. كان يجب ان يحدث ذلك قبل اليوم. في اي حال، ماذا يعني لك هذا الحدث؟
- يعني لي فرصة التعرض لنظرة جديدة، بما في هذه الفرصة من حظوظ سلبية وايجابية. وبنسبة ما أتمنى ان ألاقي، عبر الترجمة، من يلتقيني، وأتخوّف في الوقت نفسه من احتمالات تكرار سوء التفاهم. وهي لن تكون، اذا حصلت، وعلى كل حال، سوى تكرار لما حصل لي مع ابناء لغتي.
اما لماذا ترجمت اليوم لا قبله، فلاني لم أسع الى الترجمة. وقبل سنين سنحتْ فرصة رفضتُها، لان ظروفها لا تلائمني. الترجمة التي حصلت اليوم تمت في ظروف تلائمني تماماً، والفضل يعود الى عبدالقادر الجنابي الذي اخذ الموضوع على عاتقه وتبناه وسهر عليه حتى إنجازه، ولفاروق مردم بك فضل كذلك، في تجاوبه الحار وتعاونه، على رغم عدم معرفتي به شخصياً. وهذه هي الظروف التي قلت انها تلائمني: شاعر صديق يتطوع بنخوة نزيهة لعمل شاق لا شروط له فيه ولا "مصلحة" الا الاقتناع والمحبة، وصديق آخر بلا معرفة ولا علاقة ولا غاية سوى ما يرضي اقتناعه. لم أشأ ان اسعى، ولا ان ادخل في شبكة العلاقات الاعلامية او السياسية او الصالونية، فتأخرت ترجمتي الى اليوم. ولكن، هذا افضل. انها الطريقة المثلى، وأنا سعيد بها.
من المعروف ان ترجمة الشعر هي مسألة صعبة وغير مضمونة النتائج دوما. هل انت راضٍ عن الترجمة التي تمت الى الفرنسية؟
- حسَب القصائد. بعضها ممتازة الترجمة. بعضها اضعف، والضعف ليس سببه المترجم دائماً، بل احياناً لعبت اللغة الاصلية، في القصيدة، دوراً يتجاوز امكانات الترجمة. هناك، في المقابل، قصائد تبدو وكأنها "ارتاحت" في الترجمة الفرنسية حتى بدت غير مترجمة.
ان الشاعر ربما لا يكون شاعراً كبيراً الا اذا "امتحنت" شعره اللغات الاخرى. اي جواب يتملكك وانت تسمع هذا الكلام، بل وانت تقرأ شعرك في لغة اخرى؟
- لا "ربما" بل من المؤكد. وليس على سبيل الامتحان، بل لان الشعر هو لغة انسانية لا حدود لها. قد يكون في شعر ما ومن المؤكد، في شعري انا ايضاً، ان لم اقل خصوصاً ما لن "يصل" بالفرنسية. ولكنه ايضاً قد لا يصل بالعربية، اي باللغة الاصلية. كما ان العكس صحيح.ولكن، هذه استثناءات، يضاف اليها الشعر الذي يقوم على تلاعب بالكلام، أو على "روح" اللغة الاصلية أو انفاسها، فتتعذر ترجمته. كذلك شعر الكتابة الاوتوماتيكية.
ما عدا ذلك، اذا لم يكن الشعر، في اي لغة يترجم اليها، شعراً، فمعنى ذلك ان ثمة مشكلة في شعريته اصلاً. أقصد في شعريته كما افهمها ويفهمها جانب كبير من الشعر الحديث والنقد الحديث، لا الشعرية اللفظية او الشكلية.
في العودة الى بداية مسارك الشعري، نود ان نسألك من أين هبط ديوان "لن" ومقدمته على المشهد الشعري والادبي اللبناني لا بل العربي ؟
- من قوة اليأس. ومن حاجتي الى التعبير ب"لغتي".
بصيغة اخرى، وانت القائل ان الشعر هو الصباح الشعري السليقي، فهل لديك جواب حول كيف "حصل" لك الشعر وكيف يستمر؟
- الحالة الشعرية كانت دائماً موجودة. كتابة الشعر حصلت على ثلاث مراحل: الاولى، في مطلع المراهقة، وقبل ان اعرف هوية ما أكتب. كانت تلك مرحلة شبه عفوية. الثانية، خلال صدور مجلة "شعر" ارادية، وقد اصبح من هواجسي موضوع شكلي، الى جانب المعاناة، هو تأسيس قصيدة النثر وترسيخها. والثالثة، بعد صدور "لن" و"الرأس المقطوع" كانت استمرت المرحلة العفوية، التي اعتقد ان الافتعال راح ينتفي منها اكثر فاكثر، وصارت كتابة الشعر تدفقاً لا غاية له سوى ذاته.
منذ ديوانك الاول حتى اليوم، مرّ ثلث قرن من الكتابة الشعرية لديك نلاحظ خلالها انك انتقلت من كتابة مغلقة الى كتابة اكثر "انفتاحاً". هل توافق على هذه الملاحظة؟ والى ماذا يشير هذا التحول لديك؟
- صرت اكثر شفافية. اكثر تواصلاً. صرت "أنا" اكثر. ففي "لن" ذاته، مخبوءة أو متكبرة، شفافية، وفيه، ومن قبله ايضاً، رغبة تواصل.
هل يشير هذا التحول أو هذا النمو الى غير ما يقوله الشعر؟ وهل من يقرأ ليقول لي؟ ثمة من قرأني سوسيولوجياً وسياسياً فقال اني بعد "لن" و"الرأس المقطوع" استرحت استراحة المحارب. وسرت كنار في هشيم المتربصين بخونة ذاتهم. ولكن هل من يقرأني فعلاً، يقرأ من دون رغبة في تحنيطي، ليقول لي؟ وها هم بعض من قالوا باستراحة المحارب يعودون بعد ثلث قرن ليعلنوا انهم اخطأوا، وان المقياس كان خطأ. وهذه هي الحقيقة. المقياس كان خطأ، والمقياس كان: الثورة! التمرد! الرفض! ولكن، في شعاراتها السطحية. بعض الذين استهواهم التمرد والعصيان في "لن" استهوتهم، في الواقع، الفاظ بذيئة ولغة متوترة متوحشة، ولكنهم لم يذهبوا أبعد من ذلك. لم يروا النفس التي في الداخل، لا حبها، لا خوفها، ولا الطفل الراجف فيها، لا الصلاة، ولا الدموع. رأوا فقط شخصاً شبيهاً بجنكيزخان كما تصوره السينما الاميركية، او الشيطان، بلحيته وكفره وفجوره. لقد رأوه، وهو كان هناك، و لكنهم لم يروا فيه الا هذه الصورة النافرة. وهو كان بالفعل هناك، لكنه كان ايضاً، وربما بالمقدار نفسه، شيئاً آخر، شخصاً آخر، ولم يره احد. الا واحد او اثنان.
وفي ما بعد، لعب هذا الشخص نفسه لعبة اخرى، فأخرى، فأخرى، وفي كل مرة كانت النظرة اليه من الخارج تنتقده لانه "خان" اللعبة السابقة. وفي كل مرة كان يتبين، في ما بعد، انه هو ذاته، لا خيانة ولا أمانة، بل مسيرة يهودي تائه من قارة الى قارة، من جحيم الى نعيم ومن نعيم الى جحيم، وما يتغير هو ما يجب ان يتغير، وما يبقى هو ما يجب ان يبقى.
وفي السنوات الاخيرة تعدد الذين رأوا ذلك اخيراً، وبعضهم كتب فيه ما كدت افقد الامل في رؤيته يكتب، وبعضهم اعطاني واحبني اكثر مما استحق.
انت ابن المعشوقة وغريبها ومملوكها كما تقول. اتعتقد انه يمكن اختصار "المسألة البشرية" عبر المرأة؟
- لكلّ سِكرُه.
ينضح شعرك بخوف الموت، من موت الام الى الموت المستمر في كل شيء، في داخلك، في الحب، في الجمال، في الوطن. الخوف والموت يشعان في الظلمة والنهار وتسعى دائماً الى اعتقال هذا الموت. اما زلت في عراكك المستمر أم تهب عليك نزعة الاستسلام؟.
- اذا جاء الموت لن تزول الحياة. اشعر بان حياتي، ولا اقصد مؤلفاتي، بل حياتي، ستبقى. سيظل لها مكان في شكل ما. لا اعرف كيف. هذه الطفولة التي تغمرني منذ الطفولة ولا تزال تنمو في حقولها وحقولها تتسع. هذه الطفولة لا يمكن ان لا تُعطى فرصة اخرى بعد توقف هذا الجسد. فهي تتخطاني وتفيض عن حياتي هذه.
انا سأموت، لكن طفولتي الجريحة والقوية سوف تعود وتجد امها.
التنازع وحتى التناقض حق بديهي من حقوق الشاعر. نقرأك تغتسل بمرارة الخيبة وراغباً في المستحيل في آن واحد. كيف يجتمع ذلك في لحظة واحدة، في جسد واحد؟ وكيف يتحمل الشاعر والانسان اجتماع الحريق والرماد؟
- ربما لأن شعري نتاج التجربة الحية لا ابن الايديولوجيا. الحياة، أليست على هذه الصورة التي تصفها انت، اجتماع الحريق والرماد؟ واذا ابتعدنا الى الهامش، والى الخيال، أليس الحلم ذاته حريقاً ورماداً؟ عندما تريد ان تنفي حداً من الحدّين تصطدم بالتناقض. كذلك عندما تريد ان تجمع بينهما. في الحالة الاولى تنحاز الى واحد منهما دون الآخر، وفي الثانية توحدهما فيك مجازفاً بالانصلاب على المحاولة. لن أقول اني ملاك وشيطان قررا التصالح على رغم ارادة من فَصَل بينهما، بل أقول اني انسان. انسان يريد حياة اذا اصابها جرح فجرح الحب لا جرح البشاعة. حياة يحلم بها ويكتب عنها الانسان منذ وُجد. هذه الحياة هي أغنى وأجمل وأقصر وأعمق من ان تشوهها بالتقسيم الروحي والاخلاقي والجسدي والاجتماعي والسياسي. كل ثنائية هي فخّ. الواحد الموحّد بالكاد يكفي، فهل نجزئه ونقاتل بينه وبينه؟ الكون كله فيّ وانا كلّي في الكون. الخيبة تصيبني نعم، ولكنها هزيمة. مجرد هزيمة. الجسد الواحد لا يزال مجمع الحريق والرماد، والجمر الدائم هو الجامع بينهما.
في الباب عينه يلاحظ الناظر اليك انك منجذب في الوقت نفسه او في اوقات متقاربة الى أمرين: الهامشية و"المكانة" الاجتماعية اذا سمحت بالتعبير. كيف توحد بين هاتين النزعتين؟
- انا شخص محب للعزلة والانفراد. لو واتتني الشجاعة الكافية لكنت اكثر من هامشيّ. الحياة الاجتماعية لا تعنيني على الاطلاق. ولا العلاقات الشخصية. ليس عندي علاقات. هناك اشخاص يحبونني واحبهم، وهم قلائل. أقصد الذين اعرفهم ويعرفونني شخصياً. وحتى هؤلاء ليست بيني وبينهم علاقات، وقد يمضي وقت طويل جداً ولا نلتقي.
عن اية "مكانة" اجتماعية تتكلّم؟ لم يرفض هذه المكانة احد مثلي. في بلدي وخارج بلدي. ولعلي احد افقر الناس في لبنان. اجيبك ببرود، بلهجة تقريرية لا عاطفة فيها. أمضيت من 1977 الى 1980 في باريس ولم أحاول ان اعقد اية علاقة ادبية او اجتماعية كان يمكن ان تعزز "مكانتي" الادبية. سنحت لي فرص عديدة ورفضتها. في العالم العربي لا البّي دعوة الى مهرجان ولا الى ندوة ولا الى أمسية شعرية ولا الى مجرد لقاء. وأنا لا املك شيئاً غير شقة بحرية مساحتها ثلاثون متراً مربعاً اشتريتها بالتقسيط أواخر السبعينات وعلى مدى سنتين. ليس عندي سيارة، وبيتي الحالي، بالايجار، هو ذاته منذ اربعين سنة، بلا مصعد ولا ملجأ، ومساحته 110 او 115 متراً مربعاً. لم أقبل ولن أقبل وساماً. لم أقبل ولن أقبل وظيفة. لم أدخل في حزب ولم استعمل طائفة ولا رعتني دولة. هل تقصد عملي في الصحافة؟ رئاسة تحرير "النهار"؟ دعني أضحك. انها أرهق وظيفة مارستها حتى الآن. أعمل في الجريدة كأي محرر. وأعمل في جريدة، لاني لا اعرف مهنة اخرى غير هذه. ولعل ممارستي لهذه المهنة بالذات هي ذروة تناقضاتي واشدها ايلاماً.
عبارة "مكانة اجتماعية" هي من اغرب ما يُلصق بي من اوصاف. اعتقد ان لا مبرر لاستعمالها هنا غير التوهم او سوء الفهم.
لا شك بأن مصير لبنان امر يهمك الى حد بعيد. لكن هذا القلق الظاهر في "كلماتك" و"الخواتم" لا يبرز دوماً في كتاباتك الشعرية "البحتة". لماذا؟ هل هو الحذر من "الادب الملتزم"؟ وما هي العلاقة بين الذاتية التي تميز شعرك والاهتمام بالجماعة والذي هو من همومك الكبيرة؟
- الشعر هو الذات. الذات هي ايضاً ما حولها وما خارجها، ولكن الحوادث والاحداث الخارجية يمكن ان تستحيل اجزاء من الذات. عندئذ يعبّر عنها الشعر ولكن غالباً بطريقة غير مباشرة. ويمكن ان لا يعبّر عنها ابداً. هذا متوقف على كيفية تفاعل الذات مع الحوادث والاحداث الخارجية. شرط الشعر ان ينبعث من الذات، لا من "التزام" مزعوم. ان اتفه ما حصل في الادب العربي هو ما سمي الادب العربي الملتزم، وهو ليس الا نوعاً آخر من البروباغاندا الحزبية والعقائدية. نوع آخر من الفصام ومن التعصب. الالتزام جزء طبيعي من الكتابة، ما من كاتب لا يُحس زمنه وازمات عصره ويتفاعل معها. ما من شاعر لا يحمل هموم محيطه وعالمه في عينيه وروحه والحياة في احشائه وخياله. وهو يعبّر عن ذلك حتى عندما لا يقوله بشكل مباشر، بل خصوصاً حين لا يقوله بشكل مباشر. كل قضايانا وهمومنا موجودة في ما نكتب، تارة مباشرة في المقال وحواليه، وطوراً غير مباشرة، باطنية، جوفية، معقّدة، وهذه من صفات العمل الفني حين "يلتزم" صاحبه حرية النظرة وشمولها، حين يلتزم الانسان والحياة في لاحدودهما، ولا يجتزىء نفسه ويقزّم دوره.
عطفاً على السؤال السابق: هل ان المقاربة لمسألة لبنان في قصائدك الاخيرة تعود الى شعورك بتهديد كبير تتعرّض له "فكرة ما عن لبنان" ترعرعتَ عليها؟
- قصائدي عن لبنان في "الوليمة" هي طبعاً عن "بلدي" لبنان ولكنها ايضاً عن اي لبنان آخر. لبنان هنا أضحى رمزاً للحياة تعتدي عليها قوى الحسد والموت لا لشيء الا لانها فرحة رغم ضعفها وجميلة رغم فقرها وحرة رغم كل ما يكره الاحرار ورغم كل من يستبيح قتل الابرياء ويستلذ رائحة الدم. انه الحمل، مرة اخرى، امام الذئاب. حمل قد يكون غبياً أو محدوداً او مغروراً أو عديم التربية، ولكن الذئاب ليست بأفضل منه. لبنان هذا هو انت وأنا، وهو خصومنا ايضاً ذات يوم، وهو فلسطين، والعراق، والجزائر، وبلدان افريقيا، والبوسنة - الهرسك، وبلدان جنوب شرق اسيا، ومن كان فريسة من قبل، ومن سوف يصير.
في الانتقال الى جانب آخر نلاحظ انه في كل تظاهرة "تأبينية" بالشعر العمودي يحتشد الآلاف ويصفقون. نحب ان نسمع رأي شخص مثلك في استمرار هذه الظاهرة...
- الهدف في مثل هذه الحفلات الخطابية، كان دائماً وسيبقى هو التصفيق. وكان وسيظل هناك هواة لهذه الحفلات. انا شخصياً لا تعنيني، سواء كانت موزونة مقفّاة أو عادية. احس حيالها بما أحسّه حيال كل الظواهر الغوغائية: غربة ورعب.
الا تجد انه يصعب في العالم العربي ان يكون المرء شاعراً من دون "قضية"، من دون مواضيع كبرى..! وربما شاعراً من دون طرب؟
- اكبر من "موضوعات" الحب والخوف والحلم والعزلة والكفر والايمان والشقاء والجنس والامل واليأس... ليس هناك شيء. هناك عالمان عربيان: عالم عربي غوغائي متخلف متعطش للشعارات يدمنها وهي تضحك عليه، وعالم عربي يدرك اكثر فاكثر ان ليست هذه "القضايا" هي القضايا، وانما تثار، على كل حال، وهي تفتقر الى الحد الادنى من حرية التفكير والمعتقد والقول والكتابة. سيظل هناك من يهوون شعر التظاهرات والمنابر والاحزاب، شعر الانظمة وخصومها من ارباب الانظمة المقبلين، وهو لن يكون شيئاً في المستقبل كما انه لم يكن شيئاً في الماضي.
اما الطرب فمن قال ان ثمة جمالاً، لا شعراً فقط، بل ان ثمة حقيقة ايضاً من دون طرب؟ أقصد بالطرب النشوة. النشوة الروحية والحسية الغامرة. كل شعر لا يحمل اليك النشوة، وبالتالي طرباً ما، هو شعر ناقص. انت تقصد، مستهزئاً، الطرب الخارجي، الذي تعودناه مع الشعر التقليدي، وايضاً مع بعض الشعر الحديث، دعني اعترف لك باني لست ضده، فلا بأس به، بل وما اجمله حين لا يكون بديلاً من كل العناصر الشعرية الاخرى. لكن الخطر معه وعندما يطغى ولا يعود من غاية للشاعر سوى الطرب الخارجي. عندئذ يموت الشعر ليحيا النظم. تموت الرؤيا لتحيا القافية. تموت التجربة ليستقيم الوزن. يموت الداخل ليهرّج الخارج. هذا النوع من التطريب اخذ بدوره يتساقط، وحتى شعراء الاغنية باتوا يحاولون تجنبه.
الشعر الحديث له طربه. يجب ان نحسن الاصغاء اليه. ان نحسن القراءة. هل هناك من يقرأ؟
كان ثلث القرن هذا انطلاقة عارمة للشعر الحديث في اللغة العربية، كان لك الدور البارز في احداثها. كيف تقوّم الآن هذه الحركة وما ادت اليه من انتاج ومن علاقة مع القراء؟
- أهم ما فيها وضعها حداً فاصلاً بين زمنين، وتركيزها على الفرد، والمغامرة، والتجربة، والحرية. على صعيد النصوص، حملت هذه المرحلة تأليفات مهمة، واحياناً روائع حقيقية، الى جانب كميات هائلة من التفاهة، بطبيعة الحال. ولا بد للنقد والدراسة ان يلعبا دورهما في جلاء هذه المرحلة، فهي بدون شك أخطر مرحلة عرفها الشعر العربي منذ نشوئه في الجاهلية.
هل الشعر الحديث كما هو الآن في العالم العربي بما حمله من تكسير للغة التقليدية، هل هو لغة مكتملة، ام لغة تجريبية ساعية الى اكتمال ما؟ الى أين هو ذاهب هذا الشعر؟
- عندما تصبح لغة ما مكتملة تدخل قبرها. كل شعر، كل قصيدة، كل سطر في قصيدة هو بداية لغة. لا بمعنى التجريب البارد المفتعل، بل بمعنى الشعور "الجديد" الذي يقارب الكلام وكأنه اول الكلام. الى أين يذهب هذا الشعر؟ الى عتبة شاعر آخر "يبدأ" معه الشعر من جديد.
عودة الى التجربة الفرنسية. من الظاهر في السنوات الاخيرة ان الادب العربي يلاقي اهتماماً في فرنسا والغرب عبر حركة الترجمة المتنامية. ماذا يستطيع الادب العربي الحديث ان يقدّم، في نظرك، الى الغرب والتراث العالمي المعاصر.
- يستطيع ان يقدم بعض المساهمة، الجانب الاكبر من ادبنا يفتقر الى الصدق مع الذات والى الجرأة في الغوص الحقيقي على التجربة الشخصية والانسانية. كما يفتقر الى الحرية. لكن القليل منه الذي يستطيع المساهمة لا يقل شأناً عن اي نتاج معاصر آخر، شرط البحث عن هذا النتاج العربي حيث هو حقاً، بمصباح البحث المجرد الموضوعي، بعيداً عن المصالح السياسية والتجاربة وزعبرة العلاقات الشخصية.
ممّ قرّبتك الحرب وعمّ أبعدتك؟
- كلما كانت مظاهر العبثية تشتد وتبرز، كانت تتراءى خلفها أشباح العقول المدبّرة السكرى بدماء الضحايا، او المستمدة سلطانها من انعدام الشعور وانسطاح الخيال. كلما كانت العبثية تصيح بأعلى فجورها، كنت ازداد اقتناعاً، ومنذ اللحظة الاولى، بان كل شيء مدبّر، ولا عفوية الا عفوية الدُمى، ولا عبثية الا وهم الاغبياء أو جبن الجبناء.
وكلما كان اليأس يضربني، كنت ازداد لمساً للمطلق.
الليل هو الوقت على الجدار
السؤال: تقول انك تسهر لعدم شفائك من الحياة. هل الحياة مرض؟ وفي مكان آخر تقول ان الليل هو ليل الضوء ولا يشعر به الا الذين حررهم الرعب من خداع التمييز بين النور والظلام. كيف تحدد علاقتك بالليل، وخصوصاً انك تعتبر ان منتصفه بمثابة الشفير وانه اللحظة الحاسمة؟
- جواب انسي الحاج: من فرط ما قلت في الليل اخشى ان أكون قد قلت اموراً وعكسها. الليل هو، طبعاً، الانسحاب. لملمة الذات بعضها حول بعض. هو هدوء البحر وتوقف الموج عن حركته العمياء. انه المصغي، المخيف. السهر في الليل تأجيل للموت. طبعاً يموت الناس ايضاً في النهار، ونوم النهار لا يقل خطراً عن نوم الليل، ولكن النهار يطمئنك ولو خدّاعاً، يطمئنك بضجيج الناس حواليك، بلونه السطحي، بشمسه المعربدة، الليل هو ان تضيئه بالكهرباء فلا تطبق اشباحه عليك وتسهره لينتهي فلا يغدرك عتمه. الليل هو الوحدة، حيث انت الاكثر، وان مع الاكثر، مع الجميع. الوجوه التي تبقى في الذاكرة، تمتحنها الذاكرة في الليل. النهار لا ذاكرة له. الليل هو الوقت على الجدار، امامك، نقطة نقطة، تروح حياتك امامك، تعدّها او بالعكس تلهو عنها، تغرق في اشيائك ونجومك. الليل هو الداخل، هو الداخلي، وهو المجانية، واللامحدّد، المبهم، والغوص في المجهول، حيث لا نفاق في العيون. الليل هو انعتاق الباطن. هو الحرية. الليل هو التحضير لشيء، وهو ايضاً اللامبالاة، لا مبالاة الليل التي تُعفيك من كل حرج، وتقول لك: خذني على هواك! الليل هو الليل والنهار، هو احشاء الارض وباطن السماء. وهو الهروب من الليل ومن النهار. وبعد ذلك، وقبل ذلك، الليل هو ابو الهول والطفل الذي يلاعب السؤال المميت، لا يستطيع ان يهرب منه، ولا يريد ان يجيب عنه، حتى لا تنتهي اللعبة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.