احتل برنامج الحوار السياسي "كلام الناس" الذي تبثه "المؤسسة اللبنانية للإرسال"، المرتبة الأولى بين البرامج المماثلة على مدى خمسة أعوام. واستطاع مقدمّه مارسيل غانم أن يعطيه هويّة "خاصة" به، باسلوبه الحواري الذي كسر جمود قوالب الأسئلة المعتادة، فكان أكثر جرأة وصراحة وأشد تعبيراً عن كلام الشارع، وأكثر التصاقاً بهموم الناس الفعلية. يجمع غانم شرطي الحوار الرئيسيين وهما: السلاسة والحزم. فهو يطلق سؤالاً بريئاً في ظاهره، ثم يصغي الى الاجابة، فإن راح الضيف يتهرب أو يراوغ، يطلق بحزمٍ ما عنده من "عبواتٍ" تنسف الظواهر وتسبر الخفايا وتفهم المشاهد حقيقة الأمور. واذا لم يسمح المناخ السياسي السائد بتوضيح الصورة جلياً يستعين غانم بابتسامته الساخرة التي يرسمها على طرف شفتيه، أو بضحكة مجلجلة تزعزع ثقة الضيف بنفسه، أو بنظرةٍ تحوي معاني غزيرة تفضح بمقدار ما يحاول الضيف الاختفاء. يتسلح غانم بتكتيك حواري ذي طابعٍ "حربي" يدمر القرارات المسبقة التي قد يتخذها ضيوف الحلقة. فقد يستقبل خصمين سياسيين يكونان قررا ضمنياً عدم المواجهة الساخنة، والتستر على خلافاتهما أو وجهات نظرهما المتناقضة، فيروح يرمي اسئلته الصغيرة ناصباً لهما أفخاخاً، فيدخل الاثنان في متاهة، ولا يريان نفسيهما إلا وقد وقعا في الشباك، ويشغل ويحتدم الحوار، فيروح غانم يمارس دور "الإطفائي" وكأن لا علاقة له بكل ما حصل! ثقافة واسعة الواقع ان مارسيل غانم ينطلق من ثقافةٍ واسعة وخبرة اكتسبها عبر أعوامٍ من الممارسة الاذاعية في اذاعة "لبنان الحر" منذ العام 1985 بعدما تخصص في الحقوق، والتلفزيونية إذ بدأ عام 1991 برنامج "كلام مسؤول" المشترك بين "لبنان الحر" و"المؤسسة اللبنانية للإرسال"، قبل انتقاله الى "كلام الناس" المستمر منذ العام 1995. لم يكن مسار غانم الإعلامي خالياً من الصعوبات بل واجه الكثير منها، أثناء صعوده سلمّ المهنة، وهو يعتز بها اليوم معتبراً ان "المطبات" أنضجته ومدته بالقوة وعلمته كيفي يواجه المشكلات. "كنت انفعالياً جداً في بداياتي لشدة مثاليتي التي تلازمني حتى اليوم. يرغمني الجو الملوث أحياناً على اقامة علاقاتٍ اجتماعية بائخة لا ترضي تطلعاتي العملية، لكن طبيعة العمل تفرض التعامل مع جميع الناس". ولا يزال غانم مؤمناً بأن لكلام الناس مطرحاً لدى المسؤولين على رغم كل الظروف: "لكلام الناس مكانه الدائم، وقد عانينا مشكلة تجاهله في مرحلة معينة، اذ لم يعد الضيف يهتم كثيراً لاتصالات الناس وآرائهم. هذا الأمر اشعرني بعقدة ذنب وما لبثنا ان عدنا الى الوتيرة السابقة وزدنا اتصالات المشاهدين وصار اهتمامنا أكبر بشؤونهم الحياتية". يستقطب برنامج غانم النسبة الأكبر من المشاهدين. وعما اضافه الى برامج الحوار الموجودة على الساحة الاعلامية يقول: "إن كلام الناس" كان أول برنامج سياسي مباشر فتح الباب لاتصالات المشاهدين وأحدث تواصلاً بين المسؤولين والمواطنين. وكان أول برنامج حواري يطل بعد انتهاء الحرب مواكبة مع "فخامة الرئيس" الذي قدمه جبران تويني، فشكل منبراً للنقاش وحرية التعبير وأحدث ثغراً في أماكن عدة وأوصل الى نتائج كثيرة تصب في مصلحة الناس". وينفي غانم وجود شروطٍ تضعها المحطة التلفزيونية على الحوار، لكنه يعترف بوجود "تنسيق" بينه وبين ادارة "المؤسسة اللبنانية للارسال". ويقول "أدرك تماماً طريق تعاطي ادارة المؤسسة مع الحدث، وأعلم أن الظروف السياسية السائدة لا تخدم دوماً تطلعاتها، لكننا نحاول تخطي المطبات والصعوبات قدر الامكان". وفي المقابل يرى ان الرقابة الذاتية أمر مفروض على كل صحافي واعلامي. ويسأل "من لا يعرف المناخ السياسي الذي نعيشه في لبنان؟ فنحن كإعلاميين، لا نزال نمارس هذه الرقابة الذاتية حفاظاً على مصلحتنا ومصلحة المشاهد والمؤسسة الاعلامية. وعلى رغم ان هذه الرقابة أصبحت أقل تشدداً فأنا لا أؤمن بها، بل أؤيد الحرية المطلقة". وهل ثمة زعامات يتم تحييدها من المواجهة مع الحقيقة؟ يجيب غانم بالنفي ويستطرد "ثمة ظروف في البلد تحتم علينا الحذر كي لا نتهم يوماً بأننا شوهنا المسيرة القائمة". وهل تلقى أي تحذيرٍ هاتفي أو تهديد؟ يرد بصراحة: "لم يحصل الأمر في شكلٍ مباشر، ولا أدعي انني بطل اتلقى تهديدات، ولكن اشعر أحياناً ببعض الرسائل والاشارات". لا "معزة خاصة" يرفض غانم مقولة ان بعض ضيوفه لديهم "معزة خاصة" تجنبهم اتصالات المشاهدين وتضعهم في منأى من الأسئلة الحرجة. "ليس مهماً" احراج الضيف بسؤال، لأن الهدف سحب معلومات أو مواقف معينة، وليس من الضروري ان يقيم المقدم محاكمة "لضيفه على الهواء"،أما المعايير التي يتم على أساسها اختيار الضيوف فتنطلق من "موضوعٍ ساخنٍ يكون مدار بحث طول الأسبوع، أو نقطة قد تتحول موضوعاً شائكاً لبنانياً أو عربياً". ويضيف: "في المرحلة المقبلة سيحصل توازن أكبر بين الضيوف اللبنانيين والعرب، ونحن نعمل على صيغةٍ جديدة تطرح مواضيع عربية قريباً، لكننا من جهةٍ أخرى لا نريد أن نخسر الجمهور المحلي، خصوصاً أن ثمة شريحة معينة منه لا تتابع شؤون العالم العربي". يؤخذ على غانم أحياناً أنه يدع ضيوفه يتواجهون ويترك الحوار محتدماً من دون أن يتدخل. ويرد على هذا "الاتهام" معتبراً أن "ثمة نوعية من المشاهدين تحب الحوار الصاخب. وتؤكد الإحصاءات أن الحلقات التي يدور فيها نقاش حاد تجمع نسبةً أعلى من المشاهدين ولكن حين أشعر ان هذا الحوار عقيم لا نتيجة ترجى منه، أو انه تحول الى محور آخر أو أصبح تجريحاً شخصياً، فإنني أقطعه فوراً". ويضيف: "أحب في طبيعتي الجمع في الحوار بين الصخب والهدوء، قدر الإمكان، والحوار الصاخب يطلع مواقف أكثر خصوصاً عند وجود وجهتي نظر متباينتين". بعد مرور خمسة أعوام على بث برنامجه، هل يشعر مارسيل غانم بنوع من الملل خصوصاً أنه معده ومقدمه؟ يجيب: "ينتابني احياناً شعور بالملل، ولكن حين أبدأ بإعداد الحلقة يعاودني النشاط كما لو كنت أعد الحلقة الأولى، أحضر ملفاتي في شكلٍ جيدٍ إذ أخاف ان يخذلني الميكروفون أو تخونني الذاكرة، وأحرص دوماً على التجدد، أسمع انتقاداتٍ أحياناً عن التكرار في استضافة بعض الشخصيات، لكن الحدث يولّد دوماً مواقف جديدة". يهتم غانم كثيراً بالنقد ويعتبره دافعاً له الى النجاح، وإن أراد أن يتخذ موقع الناقد لبرنامجه ولنفسه يقول: "لدي انتقادات من قلة الاتصالات التي تبث على الهواء على رغم كثافة المتصلين، بسبب ضيق الوقت وكثرة كلام المسؤولين الذي يدفعنا الى اختصار المكالمات، قدر الإمكان. أما في ما يتعلق بي، فإنني أزج في بعض الأحيان بمشكلاتي الخاصة في البرنامج فيظهر علي التعب مثلاً من موضوع معين، وفي بعض الأحيان أطلق ملاحظاتٍ على ضحكتي لكنني لا ألبث أن أتراجع لأنها عفوية وغير مفتعلة". أبرز الضيوف الذين أعجب غانم بقدرتهم على التفلت من الأسئلة الحرجة الأمين العام ل"حزب الله" السيد حسن نصرالله. ويلفته صدق الزعيم الدرزي وليد جنبلاط الذي تتطلب حلقته تحضير 400 سؤال، لأن اجاباته قصيرة ومختصرة. ويتحفظ عن ذكر الضيوف المزعجين مكتفياً بتعداد مواصفاتهم وهم "من يحاولون التذاكي علي وعلى المشاهدين عبر الالتفاف على الموضوع الأساسي ورمي شعاراتٍ كبيرة أعلم جيداً أنهم غير مؤمنين بها". هكذا يحافظ غانم دوماً على حسه النقدي ولا ينجرف كلياً بكلام المسؤول، يساعده في ذلك ابتعاده عن ارساء صداقاتٍ وطيدة مع السياسيين على رغم معارفه الكثيرة، حفاظاً على نزاهته، "وخوفاً من ان اجنح في بعض الأماكن في شعورٍ شخصي. أما من استقبلهم من اصدقائي فأقسو عليهم أكثر من سواهم اثباتاً لصدقيتي". الحوار... ايجابي يرى غانم من جهةٍ اخرى أن انتشار برامج الحوار على الفضائيات العربية أمر ايجابي لأنه يتيح حرية التعبير ويسهم في عملية تطوير الأنظمة السياسية، ويعترف بأن هذه المنابر كان يمكن ان تأخذ دور لبنان "لو لم يتنبه بعض المسؤولين عن المحطات الاعلامية الى ان بعض التدخلات تمس جوهر رسالة لبنان ودوره المتمثل بتصدير الحريات الاعلامية الى الجميع". ويحمل مارسيل غانم في حياته الاعلامية قضية الانسان أينما وجد ولا يكتفي بإدارة الحوارات الساخنة، لأن امنيته البعيدة "الذهاب الى نقاطٍ ساخنة في العالم وإجراء تحقيقاتٍ ميدانية عن بؤر الحروب والفقر والإيدز والمآسي الاجتماعية والإضطهاد العرقي، لأن الصحافة كما أراها ليست في الجلوس وراء المكتب وإدارة الأخبار أو إعداد البرامج السياسية بل قمة العمل الصحافي تتوّج بالاختلاط بمشكلات الناس وهمومهم".