"السيدة البيضاء في شهوتها الكحلية"، الصادرة حديثاً عن "دار رياض الريس للكتب والنشر"، للشاعر اللبناني جوزف حرب، ليست مجموعة شعرية بمقدار ما هي قصيدة حب طويلة، تدور في مناخ ميثولوجي، ولا تغادرها طقوسها المسيحية خاصة، في جميع فصولها، مهما تنوعت هذه الفصول، وظهر بعضها بمثابة نشيد في الإنشاد، أو انفرد كناي في أوركسترا. وهذا النَفَس الطويل في كتابة قصيد الحبّ، أو الحرب، ليس له أن يسبح إلا في بحر ميثولوجي، حيث تعمل الحكاية ذات الأصل الديني، أو حتى الوثني، عملها في توسيع المسرح الشعري، وتفريعه، وتعصمه من المكوث في مقام الوصف، حتى لو ورد هذا الوصف أو تكرر أحياناً في ثنايا القصيدة، كما تعصمه من التلاشي والذوبان في الإنشاد، والغنائية، التي تميل بالشعر الى التراخي كلما طال نَفَسُها أو ألحّ، علماً أن الإنشاد الغنائي في الديوان، سمة من سماته، لكنه إنشاد مكسور بالحوار والتأمل والالتفاف على المعاني، والوصف والتشبيه والاستعارة، كما هو مكسور بضديات متتالية، في مديح الجمال وهجائه، في تقديس المرأة وتدنيسها، في ما هو جَسَدي ترابي ظلامي شهواني، وما هو أيضاً هوائي مشتق من النور، ومتولّد من عذرية مريمية. وهذا الالتفاف للشيء على ضده، للمعنى على نقيضه، وللكائن على نفسه، يأتي في الديوان، نتيجة تأمّل ذاتي وتاريخي معاً، لكنه تأمّل طالع من لاوعي ديني، لم يستطع الوعيُ أن يقصيه عن التدخل ورسم لغة وطقوس القصائد، ورؤاها، وقيعانها، وظلالها... فلا إيراد "لينين" ولا الإشارة المفاجئة إليه، ونسبة حبرٍ ما أحمر ومادي له بقوله "متحدراً من حبر لينين إليها"، ولا الإشارة الى كومونة باريس بقوله "... أمام جنود باريس المحاصرة البيارق"، وهما إشارتان عابرتان في الديوان، ولا ذاك الحشد الأسطوري، الوثني بخاصة، الرامي بظلاله على الكثير من لغة القصائد ومعانيها، بقادرة على طمس القاع الديني، والأصل المسيحي للقصيدة، حيث نحن أمام ثنائية الخطيئة والغفران، المقدّس والمدنّس، المسيح والفريسيين، مريم العذراء الطاهرة والنساء البغايا... ولعل الفصل المسمى "ذبيحة البياض"، وهو حوار، أو أصوات مجموعة على مسرح، بين الكورس والنساء والراهب، هو الفصل الجنيني لهذا العمل الشعري، حيث ثمة مذبح في معبد قديم، ولباس طقسي طويل للصلاة، وكورس وإنشاد ديني وراهب يحمل شمعة في يده اليسرى ومبخرة في يده اليمنى، ونساء يرتلن. والفصل مجموعة من الأناشيد لا تخرج عن التراتيل الكنسية، وهي جميعها على اسم "مريم الياقوت". "النساء: المجد للأبيض في الأرض، ملاكاً تزهر الأرض، وأبراراً يصير الشجر، البحر رسولاً، والينابيع صحابَهْ". "الكورس: ربّي، لولاك هذا الكون قبراً كان، والعليق والصبار كانا نائحي موتاه، والليل غُرابه". "الراهب: مُبارك خبزك، صاف دمك القدسي، إني أُبعدُ النيران عني بهما، فلأستحق الدم والخبز، وأصبح طاهراً مثل الندى، حراً كعصفور، جميلاً كنهار لم يلامس وجهه عتم الخطيئة". "الكورس: الخطيئة...". والإمساك بالعصب اللاهوتي لعمل جوزف حرب الشعري، ليس أكثر من إشارة الى بيت القصيد، أو الجوهر الشعري لعمله. هو ما أسميه "المعنى" الذي من جعبته تنتشر سهام الشعر متنوعة في كل اتجاه. وهي ليست سهاماً ذات اتجاه أو وضوح تبشيري يدمغها، ويصادر منها الرموز والاحتمالات، وتداخل الرؤى والألوان... فولادة القصيدة لديه تبدأ حكائية ومضمخة بالعناصر والجنس، وترشح منها الخصوبة، فالرجل الذي كان في البدء، ولمَ لا يكون آدم؟ كان "عريساً من النخل"، والمرأة كانت "امرأة من العناقيد"، وهي المرأة الأصل، الأم، الزوجة... "أمي/ وفيها رقدت/ ولما أتاها مخاض النبيذ وُلِدت"، فكأنه يمثل ميلاد إله السكارى في الأسطورة الاغريقية... ويتابع رسم هذا الطقس الأسطوري الذي هو خليط من قصة الخلق الدينية والأساطير الوثنية معاً، حيث تحلّ العناصر وقواها في رموز تسمى آلهة، فيناجي من يسميها "ربة أيار"، هذه المناجاة التي ترشح منها المفردات الايروتيكية بطقوس حلولية، فيقول: "ألا باركي عضوه ببخور وزيت، ليعلو كغصن من اللوز شُرِّب حمرة عيد الغروب، فتغدو الأصابع فينا نسيماً وتغدو الفروج فضاء"... "ألا وليقم ملكاً قوسه النهد"... لكأنها ولادة الذكر الأول، السيد، البعل، هي التي تتقدم، وحوله المرأة - النساء / الشهيات الشبقات الخطايا، بجميع تفاصيل هذه الخطايا. وهنا يتمّ ارتداد شعري نحو قبح الجميل، في ثنائية البراءة - الخطيئة. "لأن بياض ملامحهن نحاس" كما يقول. وهنا أيضاً بذرة عنوان الديوان "السيدة البيضاء في شهوتها الكحلية"، حيث البياض رمز النقاء، والكحلي رمز الشهوة... والبياض مقدّس والشهوة مدنّسة... وهذه هي الثنائية الدينية بأصلها، في شعر جوزف حرب. يقول: "... وإني ملاك وهُنّ ذنوبي". فأيُّها الأصل: الخطيئة أم الطهارة؟... لا يكون الشاعر حاسماً في هذه المسألة، على امتداد فصول الديوان، وحتى في انحيازه للطهارة من خلال تمجيدها ايجاباً إلا أنه يولي نقيضها مساحات واسعة في الأسطورة والتشبيه. فهو يمتدح الفحولة، ويقيم رابطاً ما بين الذكورة والعناصر "أنا فاتح الشجر المارد الفحل في قبضتي الريح، فخذاي شهران من حجر، أضلعي أسطر نقشت فوقها خطبة العاصفة، وبي تستحم النساء"... ذلك سيكون، أحياناً في موازاة هجاء الأنوثة أو تهجينها... وفي طقس ميثولوجي وكأن الذكر حلّت فيه سمات مجمع الآلهة: "رام" قلّد ظهره استقامة الرمح، و"نارام" قلّد قلبه الخيانة، و"مردوك" قلّد صلبه البغاء المقدس في بابل، و"ليل" قلّد ريشته الشعر، و"نبتون" قلّده مركبة لفتوح النساء، مجاديفها من سيوف... فأية قسوة وجبروت للذكر، هنا، في موازاة النساء، الخيانات، اللينات، الهينات؟ يستتبع ذلك شبقاً نحو "تبديد النساء". وإشارة الى أن الأصل "ملائكي"، أما الفروع فخطايا. يقول "جذوري ملائكة، وثماري خطايا"... أما اتجاه سير القصيد، فيظهر وكأنه سعي لتصفية النص البشري من أدرانه المتراكمة عليه... من خلال فكرة ثنائية الخطيئة والمغفرة... وبأية طريقة يا ترى؟ أداة؟ - سيتمّ ذلك بما نسميه "لاهوت مريم". يقول الشاعر في آخر الديوان: "... وبرغم ذلك إن جزءاً منك فينا/ فخذي النصوص ونقحينا"، ويستنجد في نشيد الختام، بخلاص العناصر، من خلال رمز الخلاص: "يا شمس بكاء الجسد الخاطي، وسواد النفس / إنّا أصبحنا أشجارك، فلتبعد عنّا يدُك الخضراء الفأس/ وهبينا يا شمس وجوهاً من دوّار الشمس". وهي خلاصة مركّبة على كل حال. بل خلاصة لا يمكن الوصول اليها، إلا من خلال الخوض في مستنقعات وأهوال وأحوال كثيرة، بل لا يمكن الدخول فيها من دون الأكدار والأدران... حتى كأنها حليب الحكمة، لا يصنع للإنسان إلا من خواص الدم والرفث... فالذكر، الفحل، كما سبقت الإشارة، المشغوف، غريزياً، بتبديد النساء "أنا الفهدُ هُنَّ الغزالة"، كما يقول الشاعر، لا يلبث أن يقع في وحدة قاسية. إنه "آدم بين هلالي الحمام"، كما هو عنوان إحدى القصائد. وللخروج من وحدته القاسية، ينقسم اثنين، فتخرج منه المرأة تلميحاً للفكرة الدينية القائلة إن المرأة مخلوقة من ضلع الرجل... وهنا أيضاً، تظهر المرأة، كما الرجل، كتلة من عناصر، حتى لكأنها باقة من زرع، أو فواكه مجتمعة: "... كانت تقطف الخطو على الأعشاب نحوي، قدماها نقلة مسح جناح نقلة حفّ نسيم طالع بينهما بين مناديل ضباب قامة بل سنة ذات نهارات صبا مُرضى عليها ليلها، في خصرها الناحل أيلول وتمويج غمام من أصيل ذائب في لازورد البحر ردفاها ونهر ظهرها فيه الحصى أيام نيسان ذراعاها، كأني جملة من سُكّر بين هلالين من الماء، غناء عشقها التفّ على ناي، وصيفان بلون الصبح نهداها، وقوسا بطنها صينية ملأى خُزامى، فوق فخذين ربيعيين قد فتّح ما بينهما تسع تويجات، لفانوس إذا أشعلته شاهدت ديراً من نبيذ،،،،". فهذه المرأة، البستان، المتولّدة من شوق الرجل لذاته، وكسر سأمه، تظهر تارة ملاكاً، محباً، غزلاً بالرجل... تقول له "سكّر روحي يذوب بمرّك"، وتقول "اشتعلت فأحببت فيَّ رمادي لأنك ناري"، ولكنها، وبنقلة مفاجئة، وبلا تمهيد، وفي قصيدة "قامة من ماء"، تغدو مفترسة تمارس شهوتها "كافتراس الذئاب لغزلانها"، والرجل يقول "لم أكُن عاشقاً، عندها، كنت شيئاً من السلحفاة أو الظل". والمرأة المسوّاة، في جميع فصول الديوان، من العناصر، تغدو ما يشبه معادلة موضوعية تالية: الأصابع = نسيم الشعر = ناي الخصر = صيف الكتفان = موالان من زبد النهد = صناديق القرى العنق = أيلول ممحو الفخذ = دواة مزمار الكحل = ريشة عصفور والانتقال من هذا التشبيه الحسي للاستعارة، لا يغادر المحسوس، كثيراً، يقول "... وأجلست البنفسج قرب كرسيّ النبيذ" من قصيدة "نصّ قديم". لكنّ حركة هذه العناصر، في حالي الهجوم والتلقي، حركة عنيفة. ثمة ما يشبه تمجيداً لعنف الأخذ، ومديحاً للذكورة العاصفة: "أيها العاصف المستبد المتوّج بالبرق مثل ملوك الحصاد، أحبّك..." "فاعصعف عميقاً وخلّ بروقي تلمع/ ومائي يهطل/ وإن عدتُ للبحر فانقضّ صقراً عليّ/ وإن غصت في الأرض زلزل عليّ ترابي/ وإن صرت عشباً ظلالاً خزامى اقتلعني". والمعنى الجارح أيضاً، يتجه بدوره من الرجل للمرأة. يقول "دقَّ بابي خنجر منك/ له شكل امرأة". فالمرأة النسمة باقة الرحمة، أيضاً، خنجر وذئب. والرجل العاصف الفحل فاتح حقول المرأة، أيضاً، قاتل، أو ممسحة، سلحفاة أو ظل... وهو، تارة، يتباهى بجبروته، وطوراً يجلد نفسه جلداً قاسياً، يقول "أنا لا أستحق الطرد حتى لعذابات الجحيم"، ويصوّر نفسه كرجل يائس ويابس، ومحاصر داخل سجون كثيرة "أقسى سجوني جسدي/ حيث الذي يحرسني قبري" كما في قصيدة "الحصار". وهكذا، في هذه الترتيبات الملتبسة، للمرأة، ما هي؟ وللرجل، ما هو؟ وللذة ما هي؟ وللفضيلة والرذيلة، والجمال، والقبح، وللنعيم والجحيم، والقداسة والخطيئة... وكل ثنائيات الوجود، التي عليها تأسس الفكر الميثولوجي الثنوي، وهي في أساس الجوهر الديني للديوان، يلوح الخلاص شعرياً، ويمكن تلخيصه بجملة وردت في قصيدة "المجدليّ"، نقلاً عما يسميه ابتكاراً "إنجيل يوحنا المغني" "... يا دين العبادات التي بشّرَ فيها جسدي/ كوني غمام البدو لي وانهمري". ومن "مريم المريمات"، الى ما يشبه تصويراً لفصل في الجحيم، من خلال قصيدة "العقاب"، يتمّ انتقال من الناصري "الذي أفكّر فيه لأصلب لا لأصلي"، الى ما يشبه طقوس كهنة الديانات القديمة: طقوس كاهن "الشامان" الموكّل على الصراط، وكاهن "الآتاي"، وكاهن "المالي" كاهن النار، وقاضي الأكاديين، وقاضي مياه وادي النيل، وكأننا أمام طقوس دينونة أو محاكمة في الآخرة، للرجل الخاطئ، مرتكب الخطايا السبع... فثمة دينونة، بالتأكيد، لكن، ثمة أيضاً غفران من "كفّيها" لجسده. هذا هو الجوهر الشعري، أو المعنى الشعري، لديوان "السيدة البيضاء في شهوتها الكحلية". وهو مؤسس على طقوس دينية مسيحية بخاصة وميثولوجية عامة، إنما هي طقوس إحيائية، وحلولية أيضاً، وتُماهي بين الجسد البشري وعناصر العالم، كما تشقُّ وحدة الوجود الى ثنائيات وضديات، ليست دائماً متوازية أو متقابلة، بل هي أحياناً متداخلة لدرجة الالتباس... والديوان الطويل النفس، والمتعدد الفصول، يستند الى أسلوب حكائي سردي أحياناً، تتناسل فيه الجمل من ذاتها، وتنفتح على أفق فضفاض ينتقل به الشاعر من أسطورة لحكاية ومن طقس ديني لآخر وثني، ومن التاريخ والأمكنة للأوصاف غير المستندة الى تواريخها... ومن خلال إيقاعات شعرية وجمل منضبطة عروضياً على العموم، إلا أنها متنوعة، وكثيرة الاستطراد والتفريع، حتى لكأنّ الشاعر يولد المعنى أو الجملة، أو يولد الجملة من المعنى أو المعنى من الجملة، ابتداء، ثم يوغل في التتبع والملاحقة والتفريع، بما يشبه الوعي والتدبير الشعري... فجوزف حرب، كثيراً ما يتأمّل في شعره، أو يفكّر من خلال قصائده، ولديه ما نسمّيه "حساسية التأمّل" التي يضع الشاعر في خدمتها "حساسية الخيال"، وتأتي بعدها حساسية اللغة، حيث الكلمات ينهض بعضها بعضاً، أو ينعش بعضها بعضاً. وإذا خفّ معيار هذه الحساسيات واستتر أو اختفى وراء دفقة الإبداع، فإننا نحصل على قصائد جميلة بل أخّاذة، كما هو آخر قسم في الديوان، تحت عنوان "مقام السيدة البيضاء" فتتدفق الشعرية في تلقائية عذبة، وتتفرّع المعاني كما تتوزع حزمة من الشعاع، على أغصان شجرة... فيتوارى الترتيب المدبّر للمعاني واشتقاقاتها والكلمات وتناسلاتها، خلف الدفق الشعري الخلاّق. إلاّ أنّ ذلك يخون الشاعر أحياناً، خصوصاً حين تغدو الجملة الشعرية لديه تفسيرية، ويغلب التحليل الذهني، وترتيب المقدمات والنتائج، كأننا أمام جملة منطقية، يضعفها المنطق، منطقها، ولا ينقذها غموض الحال، ودفق الحدس الأوّل، كقوله في قصيدة "العقاب": "... لن أحبّ الخَلْقَ بي، إن هو باق وأنا فانٍ، وأقسى قَدَري أنّي إذا لم أرتد الصورة، لا شيء سيمضي بي إلا آتٍ، به وحدي أفنى وهي تبقى، ليست الصورة إلا أنا لكن في غيابي. ليست الصورة إلا أنا ميتٌ وهي حيّة"...