حمل العدد الأخير من صحيفة "لوموند دبيلوماتيك" الفرنسية مقالة طويلة عن جان بول سارتر كتبها ادوارد سعيد وفيها تناول الفيلسوف الفرنسي في وجوهه المتعددة. ماذا قال سعيد في مقالته؟ انطلقت قراءة برنارد هنري ليفي لسارتر في كتابه "عصر سارتر" غراسيه 2000 من تمييزٍ كثير الالتباس بين ثلاثة "سارترات". الأوّل ستندالي - سبينوزي في آن، فرداني، فوضوي، صاحب "الغثيان" و"دروب الحرية". وسارتر الثاني قبيل الستينات وما بعدها، مثقف ملتزم متأرجح بين تيارات اليسار وقضايا التحرر والمهمّشين وصولاً الى مشاركة رئيسة في تحرير "قضية الشعب" الماوية بعد أيار مايو 1968. وسارتر الثالث العجوز الذي بدا وكأنه اكتشف اليهودية بتأثير طاغ من سكرتيره الحميم بيني ليفي، وهي قراءة أتاحت لبرنارد أن يبعث ذكرى "عرّاب" الوجودية من شبه رماد مثيراً عاصفة من غبار؟ ضربت على مدى شهور الوسط الثقافي الفرنسي ما انعكس ب"ظلاله" على صحافتنا العربية فاستعادت - على طريقتها - سيرة سارتر غالباً خارج بؤرة الجدل الذي أثاره ليفي، ولعل "الحياة" وحدها أجرت مقابلة معه تناول فيها الكتاب مباشرة، ونشر الملحق الأدبي ل"الأهرام" مقالتين حول زيارته لمصر مطلع عام 1967، وهذان قرأهما ادوارد سعيد فاستثارا ذاكرته حول لقائه بسارتر يومي 13 و14 آذار مارس من عام 1979 في باريس، وكتب انطباعاته أخيراً في "اللوموند ديبلوماتيك" عدد أيلول/ سبتمبر 2000. "اعترف أنني لم أقرأ الكتاب، ولا نية لديّ لأفعل"، يقول سعيد. فالمسألة ليست مساهمة في الهَمْرجة، انما استحضار لانطباع أليم يمكنه أن يلقي الضوء في محاولة الاستفسار عن سرّ الممانعة التي حجبت سارتر عن اتخاذ موقف لصالح حقوق الفلسطينيين، هو الذي طار صيته مدافعاً بشجاعةٍ عن حقوق الشعبين الجزائري والفيتنامي، وناشطاً في مؤازرة المهاجرين، ومنخرطاً في خدمة الماويّين، ومتمنعاً بأنفة عن قبول جائزة نوبل للآداب يوم تمّ الاعلان عن فوزه بها. يذكّر سعيد ان جيله كان يعتبر سارتر على الدوام واحداً من مثقفي القرن الأبطال حين بدت مواهبه الفكرية وكتاباته المتعمّقة متجهة الى خدمة كل القضايا التقدمية في عصرنا. "كنا نحترمه ... للجهود التي يبذلها في سبيل فهم موقف ما، وتأكيداته في دعم قضيّته من دون تملص أو تنازل... وكان يبدو دائماً أكبر من كاتب عادي. ان قارئاً من نوعي كان يجد ان كل ما يكتبه سارتر جدير بالاهتمام لجرأته وحريته واتّساع آفاق روحه". كانت تلك نظرة سعيد لسارتر حين تلقى في بداية عام 1979 - وكان في نيويورك - دعوة، بتوقيع كل من دوبوفوار وسارتر نفسه، لحضور مؤتمر حول السلام في الشرق الأوسط يُعقد في باريس. ولم يتوجّه المدعو الى العاصمة الفرنسية بعد أسابيع الا بعد أن تأكَّد من الأمر وقد ظنه في البداية "دعابة". وفي فندقه المتواضع في الحي اللاتيني وجد سعيد عند وصوله كلمة مقتضبة وغامضة "لأسباب أمنية، تعقد الاجتماعات عند ميشال فوكو". وفي اليوم التالي استدل على العنوان. انها شقة واسعة ضاجّة بالحضور. سارتر لم يكن هناك. وكانت دوبوفوار تتحدث عن رحلتها الى ايران واحتجاجها على التشادور. وجدها سعيد مزهوّة بنفسها وغير قابلة للنقاش في تلك اللحظة الى حين مغادرتها. كان فوكو حاضراً انما في غير استعداد للمشاركة في الحديث، وعلى الخصوص في السياسة الشرق الأوسطية. ويروي سعيد انه في نهاية الثمانينات اعترف دولوز أمامه أنه قطع علاقته مع فوكو بسبب خلافهما حول فلسطين. فوكو كان داعماً لإسرائيل ودولوز للفلسطينيين. تعرَّف سعيد الى بعض الوجوه من الفلسطينيين واليهود الحاضرين، ولاحظ تنوعاً في الباقين راوح بين التشدّد الديني من جهة الى العلمانية من جهة أخرى، انما يجمعهم قاسم مشترك هو التعاطف مع الصهيونية. "ذُهلت" قال، حين رأيت الى أي حدّ بدا سارتر عند ظهوره هشاً وعجوزاً. وتبدّى لي على الفور، وبكل وضوح انه كان على الدوام محاطاً ومسنوداً ومشمولاً بالرعاية من قبل حاشية صغيرة يعتمد عليها بشكل كامل. كان منها ابنته المتبنّاة يهودية جزائرية، وبيار فكتور الماوي القديم الذي عاد يهودياً متديّناً بعمق وأصولياً على الأرجح سيعبّر سعيد عن دهشته حين يعلم ان فكتور هذا هو يهودي مصري يُدعى بيني ليفي، وهيلين فون بيلوي التي كانت تتولى بالهمس الترجمة لسارتر عن الانكليزية أمام خيبة سعيد الذي علم للتو ان سارتر الذي أقام في المانيا كتب عن هايدجر وفولكنر ودوس باسوس لم يكن على معرفة باللغتين الألمانية والإنكليزية. وتعمّقت خيبة سعيد أمام صمت سارتر طيلة اليوم الأول من المؤتمر وعدم مشاركته في النقاش. بسخرية لاحظ ان "حفلة" الغداء تطابقت مع أسلوب فرنسي وبدت كأنها "مسألة كبرى" استغرقت ثلاث ساعات ونصف. منذ اللحظة الأولى شعر سعيد ان فكتور هو صاحب الأمر، مدعوماً بعلاقة مميزة مع سارتر وثقة في النفس الى حد العجرفة، فهو الذي عرض موضوعات النقاش من دون استشارة أحد وكانت حول معاهدة السلام بين مصر واسرائيل حقبة كامب دايفيد... الأول، والسلام بين اسرائيل والعالم العربي، وشروط التعايش بينهما. أُغفِلت المسألة الفلسطينية كما لاحظ سعيد بأسف، وكان منذ العام 1977 عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني يمنّي النفس بالاستحصال على تصريح داعم للفلسطينيين من قبل سارتر، الأمر الذي كان يُعتبر نجاحاً لافتاً لما يتحلّى به فيلسوف الوجودية من سمعة عالمية والذي بدا يومذاك مرهقاً، منغلقاً على نفسه وأشبه ما يكون بشبح أصمّ. كان عربة في جملة قطارات، في محطة سكة حديد يتولى ادارتها فكتور. وتبدّى بوضوح ان الموضوع الحقيقي للقاء كان الدعم لإسرائيل ما يُسمى اليوم بالتطبيع. وبإزاء الإحساس بالخديعة والتعب من النقاشات الرتيبة والفارغة قاطع سعيد السياق "بوقاحة" ملحّاً على سماع سارتر مباشرة ما أثار احتجاج أتباعه. أوقفت حلقة النقاش وبدأ التشاور. بدا المشهد لسعيد خليطاً من الهزل والمأساة. وخلُص فكتور الى القول، بزهوِ سيناتور روماني وادعائه: "غداً، يتكلم سارتر". في اليوم التالي كان لسارتر ما قدّمه: نصّاً مضروباً بالآلة الكاتبة من صفحتين، أسوأ الكلمات التافهة في امتداح شجاعة السادات. ما من ذِكر للفلسطينيين أو ماضيهم المأسوي أو أراضيهم المحتلة أو أية اشارة الى الاستيطان الإسرائيلي. المثقف البطل ينوء تحت صورة مُرشِد رجعيّ في سنواته الأخيرة ولا يجد ازاء قضية أساسية سوى كلمات المديح ثم العودة الى الصمت طيلة ما تبقّى من النهار... وحين نُشرت المداخلات لاحقاً في كتاب، وجد سعيد ان كلمة سارتر تلك قد تمّ تعديلها أيضاً اختصاراً واعادة تحرير. وشعر كأنّه فابريس في واترلو: فشل واحباط. ويتساءل سعيد عن سرّ ثبات سارتر في محبّته للصيهونية: أهو الخوف من اعتباره عدواً للسامية، أم الشعور بالذنب أمام المحرقة، أم النفور من فكرة اعتبار الفلسطينيين ضحايا في الصراع ضد الظلم الإسرائيلي، أم هي أسباب أخرى؟ لقد أحبّ سارتر صديقه القديم جان جينيه بشغف. لكنه اختلف عنه جذرياً في الموقف تجاه عدالة القضية العربية. فهذا الأخير عبّر بغرابة عن تعاطفه مع الفلسطينيين فأقام بينهم لمدة طويلة، بل وكتب أيضاً "أربع ساعات في صبرا وشاتيلا" و"الأسير العاشق"، حين ان سارتر كان - كما يستنتج سعيد - كالرجال الكبار في شيخوختهم الذين يرزحون مرَّةً تحت خُدعِ الأحدث سناً منهم، ومرة تحت ضربٍ من الصرامة التي تقف عليهم في قناعة سياسية لا يمسّها رأي. بكى ادوارد سعيد بتعاسة غياب سارتر بعد عامٍ من لقائه القصير والمخيِّب معه في باريس. كأنّها دموع المرارة يذرفها مثقف كبير يُدرك الى أيّ مدى بعيد يمكن للثقافة أن تذهب اليه بعيداً عن التباساتها المراوغة حين يكون البريق كثير التوهّج، سريع الأفول. اعداد: غسان. خ الحلب