في مثل شهر ايلول سبتمبر قبل 39 عاماً، وبالتحديد يوم 28 ايلول 1961، تم اجهاض اول وحدة تتم في القرن العشرين بين دولتين عربيتين هما مصر وسورية، بعد ان انتعشت الآمال بان تتوسع هذه الوحدة لتضم دولاً عربية اخرى، سيما وانه قد سبق انشاء دولة الوحدة هذه ارهاصات كثيرة منها، تكاتف العرب، وخصوصاً سورية مع الشقيقة مصر، اثناء العدوان الثلاثي عليها، والدعم العربي الذي حظيت به ثورة المليون شهيد في الجزائر. وبعد انفصال سورية عن مصر تراجع المد الوحدوي العربي حتى وصلنا الى درجة ان الدول العربية، حالياً، عاجزة عن عقد اي قمة عربية، على رغم ان القمم العربية تضاءلت فاعليتها حتى غدت قمماً بروتوكولية. ومن دون الدخول في تفاصيل الاسباب التي ادت الى الانفصال اود ان انقل الى القارئ العربي السيناريو الذي تم فيه انفصال سورية عن مصر مأخوذاً مما تبقى في الذاكرة، ومن بعض شهود تلك المرحلة وخصوصاً ما كتبه الدكتور غسان حداد، وهو ضابط سوري وعضو مجلس انقلاب 8 آذار مارس 1963 الذي جاء بحزب البعث الى الحكم، في كتابه "اوراق شامية من تاريخ سورية المعاصر 1946 - 1966". الانقلابيون يسيطرون على المواقع الحساسة في دمشق: - تحرك اللواء الاول مشاة آلي من معسكرات قطنا تبعد عن دمشق 20 كلم، جنوب - غرب بقيادة رئيس اركان هذا اللواء، المقدم مهيب الهندي، حيث اي قائد اللواء العقيد جاسم علوان كان غائباً، وقام هذا اللواء باحتلال الإذاعة والتلفزيون والهاتف الآلي. - قام المقدم حيدر الكزبري، قائد قوات البادية المتمركزة في الضمير 40 كلم شرق شمالي دمشق، بمحاصرة دار المشير عبدالحكيم عامر - نائب رئيس الجمهورية والموجود في حينها في دمشق - في شارع ابي رمانة. - قام العميد موفق عصاصة، قائد القوى الجوية بتقييد حركة الطيران السوري حتى لا يستغل لضرب الانقلابيين. كما ان بعض الضباط الموالين للانقلابيين قاموا بالسيطرة على قطعات اخرى موجودة في دمشق وضمنوا تحييدها. هذا وقد تم للانقلابيين السيطرة على المواقع التي تحركوا اليها، وبدأت اذاعة دمشق تبث البلاغات العسكرية عن نجاح الانقلاب تباعاً. علم رئيس الشعبية الثانية في الجيش الاستخبارات العسكرية العقيد السوري محمد الاستنبولي بالحركة الانقلابية، فأبلغ المشير عبدالحكيم عامر الذي، بدوره اتصل بقائد الجيش الاول الفريق جمال فيصل سوري وبرؤساء شعب الاركان وبعض الوزراء، وتوافد الجميع الى رئاسة الاركان عند الفجر، وترأس المشير عامر الاجتماع حيث اتخذوا قرارين، الاول: يقضي بإرسال دوريات الى المحاور التي تتحرك عليها ارتال الوحدات التي تنفذ الانقلاب بقصد إعاقتها، وتأخير وصولها الى دمشق، ولكن هذه الدوريات كان يتم اعتقالها من قبل الانقلابيين من دون مقاومة تذكر. اما القرار الثاني: فقد عهد فيه الى الفريق جمال كي يطلب من الوحدات الفاعلة التي لم تشترك في الانقلاب والموجودة في القابون شمال دمشق، والجبهة، وحمص، وإزرع قرب درعا ان تتحرك الى دمشق لافشال الانقلاب. لكن هذه الوحدات لم تستجب لاوامر الفريق جمال فيصل، ولم يستجب الا لواء للمدفعية كان متمركزاً على بعد 40 كلم من دمشق، والذي كان يضم في فصائله اكثر من 18 ضابطاً مصرياً وعدداً قليلاً من الضباط السوريين كان معظمهم يبيتون في بيوتهم في دمشق. وعندما تحرك اللواء نحو دمشق، بإيعاز من الضباط المصريين، اتصل بعض الضباط السوريين بقائد اللواء، وكان غائباً عن اللواء، ما جعله يسرع بالعودة الى مكان تمركز اللواء، فلقي وحدات اللواء وقد تحركت نحو دمشق، فأصدر اوامره اليها بالعودة الى ثكناتها. وساعد وصول باقي الضباط السوريين من بيوتهم في اخماد التمرد الذي قام به الضباط المصريون، وتمت عودة اللواء الى ثكناته. صبيحة يوم الانقلاب اذيع البلاغ العسكري رقم 1 باسم "القيادة الثورية العربية العليا للقوات المسلحة" وجاء فيه: "إننا طرقنا كل باب للاصلاح قبل ان تنفجر الامور قلم نجد الا القوة سبيلاً للتحرر من المستغلين واتباع طريق الحرية، ولم نجد الا القوة سبيلاً لكي تعاد للشعب حريته وللجيش كرامته". وتوالت بعدها البلاغات تبين اهداف الانقلاب، ومطالبة السوريين بالمحافظة على ارواح وممتلكات الاخوة المصريين، ومنعت المظاهرات، واعلن عن إغلاق المطارات والموانئ والحدود. وفي هذه الاثناء كانت وحدات الانقلابيين قد احاطت بمبنى الاركان من دون مقاومة تذكر، فخرج الفريق جمال فيصل الى الشرفة. ونقل رغبة المشير عامر بتراجع الدبابات عن مبنى الاركان إثباتاً لحسن نية الانقلابيين. وجرت مفاوضات بين الطرفين، مثل فيها الانقلابيين كل من العميد موفق عصاصة والعميد زهير عقيل والمقدم عبدالكريم النحلاوي، وهو القائد الفعلي للانقلاب بحسب قناعة الدكتور غسان حداد الذي كان في حينه قائداً للمنطقة العسكرية الوسطى ومركزها في حمص. وبين الانقلابيون انهم لا يرغبون بالانفصال وكان من بين اهم مطالبهم: 1- الحد من تزايد الضباط المصريين في القطعات السورية كان هذا واضحاً من خلال ما رأيناه من وجود الضباط المصريين في لواء المدفعية حين حاولوا مقاومة الانقلابيين ونقل بعضهم الآخر الى قطعات الجيش الثاني في مصر، 2- تشكيل قيادة الجيش الاول من الضباط السوريين فقط، 3- إبعاد الوزراء العسكريين الذين كانوا يحضرون هذه المفاوضات الى مصر. وقد تم تنفيذ هذا المطلب فوراً حيث رحل جميع الوزراء العسكريين بطائرة خاصة الى مصر فوراً. إثر ذلك صدر البلاغ العسكري رقم 9 على شكل بيان مشترك، اعلن فيه نهاية حال العصيان، وأكد فيه ان الضباط الذين شاركوا بالانقلاب لا يشكلون خطراً على مكتسبات القومية العربية. وتم الاتفاق على المحافظة على وحدة القوات المسلحة في "الجمهورية العربية المتحدة". وقد أدى تأخر المشير عامر بالالتزام بما ورد في البلاغ رقم 9، ونشوب خلاف بين قيادات الانقلاب، الى ترحيل المشير عامر وقائد الجيش الاول جمال فيصل الى مصر. وصدر البلاغ 10 ملغياً البلاغ رقم 9 بسبب نقض المشير لبنود الاتفاق، ومعلناً خروج سورية من دولة الوحدة، وتوالت البلاغات العسكرية بالصدور حتى البلاغ السادس عشر حيث اعلن عن تشكيل اول قيادة عسكرية للجيش بقيادة اللواء عبدالكريم زهر الدين. بناءً على توصية من عضو قيادة الثورة في مصر العميد عبدالمحسن ابو النور الذي كان نائباً للفريق جمال فيصل حتى حزيران يوليو عام 1960 تم الاتصال بين الرئيس عبدالناصر والعقيد كاظم زيتونة، قائد القوات البحرية في اللاذقية، فأخبره ان القوات البحرية في اللاذقية ما زالت على ولائها لدولة الوحدة، وطلب إرسال تعزيزات من القوات المصرية لتشد من أزر المقاومين للانفصال. فأُرسلت طائرتان محملتان بقوات من المظليين بقيادة جلال هريدي، وتم انزال حمولة احدى الطائرتين في مطار اللاذقية، فتم اعتقال جميع الجنود الذين كانوا على متنها، بمن فيهم جلال هريدي، فأمرت الطائرة الثانية بالعودة الى مصر قبل ان تهبط في مطار اللاذقية انظر مذكرات عبدالمحسن ابو النور التي نشرتها "الحياة". اما في مدينة حلب، العاصمة التجارية في شمال سورية كانت حلب دائماً تبادر الى الاعلان عن موقف مغاير لموقف دمشق أثناء الانقلابات، كما حدث عندما تمردت قوات الجيش ضد الشيشكلي عام 1954، فقد اعلنت إذاعتها تنديدها بالانقلاب، وبدأت تذيع الموسيقى العسكرية وبرقيات التأييد للوحدة والشجب للانقلابيين. ولكن هذا الوضع لم يستمر طويلاً، وقام العميد جورج محصل، قائد المنطقة الشمالية بتطويق مبنى الإذاعة واعلن تأييده للانقلاب يذكر في هذه المناسبة ان المشير عبدالحكيم عامر كان في زيارة للجبهة الجنوبية في سورية وقد قُدم له العميد جورج محصل، فلما سمع باسمه ابدى استغرابه وقال: جورج وعلى الحدود؟ فحفظها له حتى كافأه بها عندما اعلن تأييده للانفصال". - عندما أذيعت البلاغات العسكرية صبيحة يوم الانقلاب قامت مجموعة من المواطنين السوريين بمظاهرة في مدينة دمشق تأييداً للانفصال، وكانوا يحملون صور عبدالناصر وهي منكسة، ويهتفون بشعارات معادية لعبدالناصر، وعندما اذيع البلاغ رقم 9 معلناً انتهاء التمرد، قامت المجموعة نفسها من المتظاهرين برفع صور عبدالناصر التي كانت منكسة، ورددوا هتافات التأييد لدولة الوحدة. - قامت بعض التظاهرات المتفرقة في مدينة حلب وخصوصاً في حي الكلاّسة الشعبي، ولم تستمر سوى ايام قليلة. - كان الانفصال الذي حصل في 28 ايلول اول نكسة كبيرة تصيب عبدالناصر، وتوالت عليه بعد ذلك النكسات والهزائم، فقد هزم الجيش المصري في حرب اليمن، وكانت الهزيمة الكبرى يوم 5 حزيران. - من المفارقات العجيبة ان وفاة عبدالناصر كانت يوم 28 ايلول 1970 التي تصادف الذكرى التاسعة لانفصال سورية عن مصر وقد كنت يومها في مدينة حلب التي كان يشاع انها معقل الناصريين، وخرج بعض من الجمتهم مصيبة الموت في حلب بمظاهرة حداداً على موت عبدالناصر، ولم يكن يتجاوز عدد المشاركين مئة شخص. - قال الدكتور غسان حداد صاحب كتاب "أوراق شامية"، تعليقاً على انقلاب 28 ايلول: "في ساعة مبكرة من صباح 28 ايلول وقعت جريمة الانفصال بانقلاب عسكري ضد دولة الوحدة". ونسي ان يقول ان كل الانقلابات التي قامت في سورية كانت جرائم فظيعة في حق سورية. ولو كان الذين قاموا بالانقلابات مخلصين حقاً لعملوا على قيام انتخابات نيابية حرة، وسلموا الحكم الى الحكومة المنتخبة وانسحبوا الى ثكناتهم كما فعل المشير سوار الذهب في السودان.