من أغرب طروحات وأقاويل بعض المسؤولين الاسرائيليين من حاخاميين وسياسيين وعلمانيين ما قرأناه مؤخّراً في مقال ياسر الزعاترة: "حمى "كامب ديفيد" تطارد الاقصى وتجعل احاديث هدمه عادية جداً"، الحياة، 26/8/2000. منها مثلاً: "طرح مبدأ "السيادة الرأسية" على الحرم الشريف، والقاضية بمنح الطرف الفلسطيني سيادة على الحرم وما فوقه، فيما تبقى السيادة على ما تحته من اختصاص الطرف الاسرائيلي" وهذا ربّما لتسهيل عمليات فتح الأنفاق التي سرعان ما تؤدّي الى تصديع وهدم مسجد قبّة الصخرة والمسجد الأقصى وغيرها من الأبنية في منطقة الحرم. وكأن القدس العتيقة نسيت عمليات الحفر لفتح نفق تحت الحرم الشريف التي جرت في التسعينات من القرن الماضي، وكانت نتائجها سلبية على جميع الأطراف. ومن الأقاويل او استعمال اللغة في غير مطارحها كما يؤكد الزعاترة هو رفض ايهود اولمرت، رئيس بلدية القدس، تعريف الموقع الاسلامي بالنسبة للحرم الشريف حتى ان صحيفة "هارتس" نقلت قوله: "ان الحرم ليس موقعاً اسلامياً، ان جزءاً منه فقط مرتبط بالاسلام، الحرم هو قبل كل شيء موقع يهودي واسمه يدل على ذلك - جبل الهيكل - بيت المقدس - المقدس اليهودي". ويصف الزعاترة، يوسي بيلين، وزير العدل الاسرائيلي ب"حمامة" حزب العمل و"العلماني المعتّق"، لأنه لم يجد في حديثه الحياة، 19/8/2000" حرجاً في إعلان موقفه من المسجد، اذ أصرَّ على تسميته ب"جبل الهيكل" الذي هو "اقدس الاماكن" بالنسبة الى اليهود وأقدس من حائط المبكى، ولذلك فلا بد من "منفذ غير مقيّد" اليه! كما يظن بيلين. هذه الطروحات والأقاويل لإخفاء اسم الحرم الشريف بغية تمويه حضوره في الخطاب السياسي الاسرائيلي ولغاية في نفس يعقوب تذكّرنا بالمثل الشعبي: "جحا كدّب وجحا صدّق". فلو غٌيّب الإسم عن موقعه فهل ستتبخّر 1300 سنة من جهود المسلمين في بناء منطقة حرم لها لغتها الخاصّة في الحيطان والبوابات والأدراج والقناطر والمساجد - في قببها ومحاريبها وأروقتها وفسيفسائها وشبابيكها الزجاجية المعشقة ونقوشها - والمنابر والأسبلة والأربطة والمدارس والخانقات؟ 1 وقد توَّجت جهود المسلمين هذه في العمارة بنظرة الإسلام في بناء منطقة حرم حيث لا يستحل فيها قتل الانسان او قلعه من ارضه، قطع الشجرة أو صيد الطير لذلك اشتهر المسلمون في القدس على مدى عمر المدينة العريق وفي لحظات تاريخيّة حسّاسة من حياتها في انسجامهم مع مفهوم منطقة "الحرم" هذه. ونقدّم على سبيل المثال سلوك المسلمين في الفتح العربي لبيت المقدس في القرن السابع الميلادي وما أعطى عمر بن الخطّاب في العهدة العمرية أهل ايلاء من الأمان إذ تُعدّ وثيقتها في حدّ ذاتها "ظاهرة مميّزة في العلاقات المتبادلة بين الأديان، وهي تُمثّل، لما يدور حول صحتها التاريخيّة وتفسيراتها تحدّياً شاسع الأبعاد". 2 ونقدّم على سبيل المثال أيضاً سلوك المسلمين في الفتح الإسلامي لبيت القدس في القرن الثاني عشر على يدّ صلاح الدّين الأيّوبي والذي قورن دخوله الحضاري للمدينة 1193م مع دخول الصليبيين الهمجي لها 1099م وقد أفرز سلوكه هذا أدباً أوروبيّاً ضخماً في الشهامة والفروسية و"المحافظة على الوعد" ما أدى بكلود كاهان المختصّ في العصور الوسطى الى الإعتراف بأن الشرق أكثر رحمة من الغرب في تعاطيه مع "الآخر". كيف تُُغيّب هذه الجهود الظاهرة للعيان في هذا الكم الهائل من التراث المعماري الذي جعل قبّة الصخرة تتوسّط الحرم الشريف وتبدو هي نفسها ايقونة مدينة القدس من دون منازع! أيُلغى هذا الوجود وتُلغى هذه الجهود مقابل إفتراضنا أو إعترافنا انه على منصّة هيرودس الرومانية قد يكون أقيم المعبد اليهودي ام ان القلق من جانب بعض الاسرائيليين هو قلق تجاه الهويّة العربية الاسلامية البارزة للحرم الشريف: عربية بسبب جهود الأمويّين بالأخص الخليفة عبدالملك بن مروان الذي كلّف المختصّين ببناء قبّة الصخرة 691م وبخاصّة الخليفة الوليد بن عبدالملك الذي فوّض المتخصّصين في بناء المسجد الأقصى 715م وأيضاً اسلامية بسبب جهود الفاطميين والأيّوبيين والمماليك والعثمانيين في بناء الإنشاءات الكثيرة وقيامهم بكثير من الترميمات والتصليحات في كل مناسبة كان يتضرّر بها الحرم الشريف. والمتعصّبون من الاسرائيليين في القدس وخارجها. وهم يعرفون جيّداً اسلمة الحرم الشريف منذ اتخذه الرسول صلى الله عليه وسلّم قبلته الاولى ومنذ ان تاق المسلمون في هجرتهم ووحشتهم في يثرب الى الخروج الى "المسجد الأقصى" "المسجد البعيد" الى "بيت الله الواحد الأحد". ومنذ ان جعل الأمويون منطقة الحرم الشريف نصّاً مقدّساً في العمارة - كما القرآن الكريم نص مقدس في اللغة - ونحن نعلم معرفة الاسرائيليين الجيّدة بكل هذه الحقائق لأن الباحثين والباحثات في الدراسات الاسلامية من اليهود خصوصاً النشيطين في الجامعة العبريّة في القدس أصبح جهدهم العلمي معترفاً به" انّما نخاف على المسلمين والمسلمات الذين لا يبحثون ولا يعرفون تاريخهم ولا يعرفون القدس ولا يدرون ان الحرم الشريف يعدّ أقدم تحفة معمارية ترمز الى عمق الاسلام وبعده الديني والحضاري في المنطقة. ويؤكّد أولغ غربار استاذ العمارة الاسلامية في جامعة هارفرد "ان أهميّة الحرم الشريف الدينيّة والرمزيّة مؤكّدة بسبب كل الادبيات التي نشأت حوله وبسبب إعمار قبّة الصخرة التي تعدّ النموذج الممتاز للعمارة الاسلامية وبسبب إغداق الخلفاء والأمراء والحرفيين العاديين المال والجهد في تجميلها". 3 لذلك نردّ على الاسرائيليين الذي يداورن في استعمال اسم الحرم الشريف بغرض تغييب هويته عند العّامة بلفت نظرهم الى واقع مفاده ان منطقة الحرم ومنذ بداية الاسلام 1421سنة لم يكن مقدّراً لها ان تكون معبداً يهوديّاً كما تشير الى ذلك الاستاذة انجيليكا نيوفورث. 4 وسأقدّم مثلين على ذلك: أوّلهما يتعلّق بموقع الحرم نفسه فيقول أولغ غرابار التالي: "إن حجم الحرم ممكن افتراضه بأنه حجم البناء الهيرودي الروماني للمعبد اليهودي انّما جميع الأرصفة والمنصّات وهندسة الحرم هي في الواقع اسلامية"، 5 هذا لو تكلّمنا فقط عن مقاس الموقع ولم نتكلّم عنه في الطوبوغرافيا المقدّسة اي موقعه بالنسبة الى الاشياء الاخرى مثل قبة الصخرة ومسجد الاقصى وجميع منشآت الحرم. وثانيهما يتعلّق بالأخصّ بالموقع الروحي للحرم والتي انتبه لها كل من الزنكيين والأيوبيين حين جيّشوا الوعي بأن كرامة بيت القدس هي في الحقيقية كرامة حرمها الشريف. هذا الموقع الروحي ليس أساسه فقط ان القرآن الكريم قد دمغ بيت المقدس في ذاكرة المسلمين والمسلمات انّما لأن اتخاذ قبلة بني اسرائيل قبلة المسلمين الأولى قد عزّزتها رحلة الإسراء حين رأى الرسول محمد صلى الله عليه وسلّم نفسه يخرج من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى ليقيم الصلاة بين أنبياء الله، أنبياء العهد القديم وأنبياء العهد الجديد. لذلك أخذ المسجد الاقصى بعداً روحيّاً جديداً يتعلّق بالصلاة حيث نرى حديث ابن مسعود يفسّر آية الإسراء كإشارة الى المعراج، معراج الرسول الى السماوات السبع لتأسيس بأمر من الله تعالى الصلوات الخمس. وهكذا استمرّت مكانة الحرم الشريف كمكان تشدّ الرحال اليه والحجّ اليه والزيارة اليه بغرض العبادة والمجاورة والتخلّص لله تعالى. ولا ننسى ان قبّة الصخرة المثمّنة تتّجه في بابها الجنوبي نحو المسجد الأقصى الذي بدوره تجد قبلته في اتّجاه مكّة المكرّمة ما يرينا كيف وجّه المسلمون حرمهم في بيت المقدس لا ليتحدّوا به بأهل الكتاب ولكن للحوار معهم في ارقى وجه حضاري ذلك ان القدس حافظت الى اليوم على وجود "الآخر" فيها لان الإسلام احترم فعلاً مفهوم "الحرم" و"الحرمات" فيها. 1- انظر الى اللائحة والصور لكل من قبّة الصخرة ومسجد الأقصى وقبّة السلسلة وغيرها من القبب والاسبلة والمنابر والمنارات Alistair Duncan, The Noble Sanctuary: Portrait of a Holy Place in Arab والأبواب والمزارات والقناطر في Jerusalem,London, 1972 2- دانيال ساهاس، "البطريرك صفرونيوس والخليفة عمر ابن الخطّاب وفتح القدس"، في الصراع الاسلامي - الفرنجي على فلسطين في القرون الوسطى، تحرير هادية شكيل وبرهان دجاني، بيروت، 1994، ص.68. 3- Oleg Grabar, "Al-Haram Al-Sharif", in Encyclopedia of Islam, Leiden, 1960 p.175 4- Angelica Neuwirth, "The Spiritual Meaning of Jerusalem in Islam, in City of the Great King, edited by Nitza Rosovsky, Massachusetts,1996 p.490 5- أولغ غرابار، نفس المرجع. * باحثة لبنانية.