يعتبر هذا المسجد نموذجاً فنيا رائعا للعمارة في العصر الاسلامي. والمقصود بالمسجد الاقصى: المسجد البعيد، اي البعيد عن مكة. وقد ورد ذكره بهذا المعنى في القرآن الكريم والاحاديث النبوية الشريفة والكثير من المؤلفات العربية. اطلقت كلمة المسجد الاقصى آنذاك على البقعة التي يقع فيها المسجد ولم تطلق على المسجد ذاته لانه مكان العبادة. واطلاق المسجد الاقصى على المسجد المعروف حالياً هو اصطلاح حديث وقد اطلق جميع المؤرخين هذا الاصطلاح على الابنية المحاطة بالسور والتي تشمل المسجد الاقصى وقبة الصخرة. وأطلق عليها ايضاً اسم الحرم الشريف. المسجد قبل الفتح الاسلامي لقد اقيم المسجد الاقصى، وهو المسجد الاول في القدس، في البقعة التي يطلق عليها اسم تل موريا في سفر التكوين في التوراة. في القرن العاشر قبل الميلاد بنى سليمان بن داود فوق هذه البقعة هيكله كما جاء في سفر الملوك، الا ان السبي البابلي سنة 586 ق. م. دمر الهيكل بقيادة الملك نبوخذ نصر. وبعد عودة اليهود من السبي عام 538 ق. م. اعادوا بناء الهيكل. الا انه تعرض ايضا للتخريب وزالت معالمه حين بنى هيرودس، الذي حكم القدس بين 37 - 4 ق. م.، هيكلا ضخماً بحيث لم يبق شيء من هيكل سليمان والتفتيش عنه عديم الجدوى. واقصى ما اصاب القدس كان على يد الرومان اثر اعمال الشغب التي كانت تقوم بها الاقلية اليهودية. ففي سنة 70 م دمر الرومان الهيكل اليهودي حين استولى القائد تيتوس على المدينة وحول منطقة الهيكل الى انقاض وخرائب واضعاً بذلك نهاية لمدينة القدس كمركز قوة سياسية لليهود. وفي سنة 135 م بنى ادريانوس مدينة جديدة فوق خرائب القدس وبنى معبداً وثنياً وازال كل ما كان باقياً من معالم اثرية لليهود والمسيحيين. ومنذ ذلك التاريخ لم يبق لليهود في القدس اسم يذكر. وفي سنة 313 م جعل الامبراطور قسطنطين المسيحية دين الدولة الرسمي وهدم معبد ادريانوس وبنى كنيسته. وعندما زارت الملكة هيلانة القدس سنة 325 م بنت فيها كنيسة القيامة المشهورة. ومنذ القرن الخامس الميلادي بقيت منطقة الهيكل مهجورة والارض التي شيد عليها المسجد عند الفتح كانت خالية من البناء اذ ان المعبد كان قد اندثر، وهذا يدحض دعوى الاسرائىليين القائلة بان العرب خربوا المعبد اذ انهم لم يجدوا في منطقة الهيكل مبانٍ قائمة ليهدموها. وفي سنة 614 م دمر الفرس القدس وهدموا كنائسها ومن ضمنها كنيسة العذراء التي بناها ادريانوس. وأعاد هرقل البيزنطي مدينة القدس الى السيادة المسيحية الا ان حكمه عليها لم يستمر طويلاً اذ دخلت تحت السيادة الاسلامية سنة 638 م. المسجد في العصر الاسلامي الاول تعتبر حادثة الاسراء والمعراج من الاحداث الاسلامية الكبيرة التي خلدت اسم القدس والمسجد الاقصى ورفعت من شأنهما اذ أسرى بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم ليلاً الى هذا المسجد وعرج به منه الى السموات في ليلة السابع والعشرين من رجب قبل الهجرة النبوية الى المدينة. والى المسجد الاقصى كانت القبلة الاولى قبل ان تتحول الى الكعبة. كما ان الاحاديث النبوية الكثيرة كرمت هذا المسجد واشادت في فضله وفضل الصلاة فيه الذي جعل المسلمين يتعلقون ببيت المقدس ومسجدها. وبعد ان انتصر المسلمون على الروم، في معركة اليرموك فتحت الطريق امامهم الى بلاد الشام وسار ابو عبيدة بن الجراح الى القدس وحاصرها اربعة اشهر سلمت المدينة امرها بعد ذلك الى الخليفة عمر بن الخطاب سنة 17 ه 638 م فدخلها. وعند دخوله قاده طريقها الى منطقة الهيكل المهجورة تحت كومة من الانقاض وجدوا الصخرة التي اشتق منها اسم قبة الصخرة وقرب هذه الصخرة بنى عمر مسجده وقال: "فانا لم نؤمر بالصخرة ولكنا امرنا بالكعبة - فجعل قبلته صدره". والروايات العربية تتفق جميعاً على ان عمر بنى مسجداً في منطقة الهيكل الا انها لم توضح طبيعة هذا البناء. والمسجد بني بالخشب واللبن كغيره من المساجد التي بنيت في العصر الاسلامي الاول وحتى العصر الاموي. وليس للمسجد محراب مجوّف يعين اتجاه القبلة لأن المحاريب المجوّفة لم تكن قد ابتدعت بعد، وكان يشار الى القبلة بحجر. وقد اطلق على المسجد الاقصى الحالي اسم مسجد عمر لانه بقية من الجامع الذي بناه حين دخل القدس وصلى فيه ويطلق هذا الاسم في الوقت الحاضر على مسجد مستطيل يقع داخل الاقصى الحالي في الزاوية الجنوبية الشرقية منه وبنايته حديثة نسبيا انشأت بعد صلاح الدين. والى جانب جامع عمر من جهة الشمال قاعة كبيرة داخل الاقصى يطلق عليها مقام عزير وايضاً مكان الاربعين شهيد. المسجد في العصر الأموي اختلفت الآراء في هوية باني هذا المسجد في العصر الأموي ويعود هذا الاختلاف الى عدم وجود كتابة تذكارية فوق هذا المبنى، كما ان المؤرخين والرحالة في القرون الوسطى لم يتحدثوا عنه بدقة، فيذكر البعض ان باني المسجد هو عبد الملك بن مروان بينما يذكر البعض الآخر الى انه الوليد بن عبد الملك. واستناداً الى اوراق البردى المحفوظة في المتحف البريطاني والتي يطلب فيها قره بن شريك والى الوليد على مصر من احد حكام المقاطعات ارسال الفنيين الى المسجد الاقصى، ويعتقد العالم كريزويل ان الوليد هو الذي بنى المسجد وليس عبد الملك الذي انتهى من بناء قبة الصخرة قبل مجيء الوليد الى الحكم بحوالي 18 سنة. ولكن الارجح هو ان اوراق البردى المذكورة تشير الى الاصلاح الذي قام به الوليد للمسجد اثر انهيار القسم الشرقي منه في زمنه. وبحلول عام 66 ه 685 م ابتدأ عبد الملك بناء الصخرة والمسجد الاقصى ومن المحتمل ان بقايا مسجد عمر بن الخطاب قد ادخلت في مسجد عبد الملك وان عبد الملك استخدم في بنائه المواد التي كانت متيسرة في خرائب الابنية القديمة التي هدمها الفرس سنة 614 م وجلب الفسيفساء والبنائين ومهرة الفنانين من القسطنطينية ولبس ابواب المسجد بالذهب والفضة. وبين المسجد الاقصى وقبة الصخرة حوض ماء للوضوء يسمى الكأس من المحتمل انه كان جزءاً من بناء عبد الملك. اما فيما يتعلق بالمآذن المتصلة بهذا المسجد فان المراجع الاولى أهملت ذكرها على الرغم من وجودها زمن عبد الملك. وكذلك الامر بالنسبة الى وجود منبر في هذا المسجد اذ لم يرد ذكره في المراجع رغم دخول المنبر الى المساجد منذ عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم. المسجد في العصر العباسي سنة 130 ه 747 م تهدم شرقي المسجد الاقصى وغربيه بفعل زلزال عنيف ضرب مدينة القدس فاعاد بناءه الخليفة المنصور سنة 154 ه 770 م عند زيارته القدس وصلاته في نفس المسجد. ويروى ان المنصور قام بالبناء بعد ان امر بقلع الذهب والفضة من ابوابه وضربها دنانير ودراهم صرفها على الترميم الذي اكمل سنة 155 ه 771 م. وحدث زلزال آخر دمر ما رممه المنصور وذلك سنة 158 ه 774 م فأعاد بناءه الخليفة المهدي حوالى سنة 163 ه 779 م حين زار القدس وصلى في المسجد الاقصى وقد انقص طوله وزاد عرضه. ويتبين من وصف المقدسي ان سقف المسجد بعد ان رممه المهدي كان يستند على اعمدة واكتاف اسطوانية كما هو الوضع في المسجد الحالي وكانت بلاطة المحراب مغطاة بسقف جملوني ضخم يعلوه منور لادخال الضوء، وقبة خشبية جميلة والمعروف ان القباب الخشبية هذه نادرة في العصر الاسلامي كندرتها في الطرز الاخرى. ومما يسترعي الانتباه ان عدد الابواب في مسجد المهدي 15 باباً في الجهة الشمالية و11 بابا في الجهة الشرقية وهي تتفق مع عدد العقود في بوائك المسجد الحالي. ويستدل من وصف المقدسي ان المسجد الاقصى كان يشغل في هذه الفترة 985 م مستطيلا طول جدار القبلة فيه 130 م وطوله من الشمال الى الجنوب 69 م. ويدخل الى بلاطة المحراب من الباب الاوسط في الرواق الشمالي وهذا الباب مزخرف بالزخارف الجميلة ونقش بالفضة وكتب عليه اسم الخليفة المأمون. ويظهر ان الاعمدة التي استخدمت في المسجد ترجع الى عصر جوستنيان، نظراً لوحدة قواعدها والزخارف المسطحة التي عليها. كما ان بعض التيجان الكورنثية ترجع الى هذا العصر ايضاً اما بقية التيجان فهي في تقليد ضعيف ويحتمل انها ترجع الى زمن المهدي. وتتميز هذه الاعمدة بانها قصيرة وسميكة وقطرها حوالي 90 سم يجعلها قادرة على حمل صف آخر من الاعمدة يرتكز عليها السقف الخشبي. وسنة 406 ه 1016 م وسنة 425 ه 1033 م ضربت بلاد الشام زلازل مدمرة هدمت المسجد الاقصى والجدران المحيطة بالحرم وتضعضعت القبة فرممها الظاهر سنة 426 ه 1034 م وترك اثر هذا الترميم كتابة عليها. وفي سنة 458 ه 1065 م كان المسجد بحاجة الى ترميم فانجز العمل الخليفة الفاطمي المستنصر بالله وسجل ذلك كتابة فوق واجهة المسجد. والمرجح ان الجزء الاكبر من المسجد الحالي يعود الى عصر الظاهر الفاطمي، فعلى القوس الحامل للقبة كتابة قديمة باسم الخليفة الفاطمي الظاهر كما وجدت قطع خشبية في القبة نفسها عليها زخارف فاطمية الطرز. ورغم التجديدات التي طرأت على القبة فهي لا تزال تحتفظ بشكلها الاصلي، وترتفع قمتها عن الارض 70،17 م وهي قبة مزدوجة، والمسافة بينهما تتراوح بين 1-3 م مغلفة بصفائح الرصاص من الخارج ومزينة بالجبس من الداخل. احتل الصليبيون القدس سنة 493 ه 1099 م واستقر فرسانهم في الحرم الشريف واشتقوا اسمهم من قبة الصخرة فعرفوا ب "فرسان الهيكل". وقد حول هؤلاء الفرسان قبة الصخرة الى كنيسة وقاموا تغييرات واضافات. فقد حولوا قسماً من الاقصى الى كنيسة وجعلوا القسم الآخر مسكناً لفرسان الهيكل ومستودعاً لذخائرهم واطلقوا عليه اسم قصر سليمان. كما اضافوا اليه اضافات اخرى من بينها ما يعرف اليوم باسم مسجد النساء الذي يقع داخل الاقصى من جهة الغرب. ولما استعاد صلاح الدين القدس عام 583 ه 1187 م اعاد المسجد الاقصى الى ما كان عليه قبل الاحتلال الصليبي فبلط ارضيته بالرخام وغطى الجدران بالالواح الرخامية وزخرف الاجزاء العلوية بالفسيفساء المذهبة وكشف عن محراب المسجد بعد ان كان الصليبيون قد غطوه بجدار سميك ويقع هذا المحراب في الجدار الجنوبي من المسجد ومحاط بستة اعمدة جميلة. والجزء العلوي منه مزين بالفسيفساء. وقد سجل بالفسيفساء المذهبة في هذا الجزء تجديد صلاح الدين للمسجد ومحرابه عند استعادته القدس. وجلب صلاح الدين الى المسجد ايضاً منبراً جميلا وضعه في صدر المسجد وهو مصنوع من الخشب المطعم بالعاج والانبوس، وتشهد الكتابة المحفورة عليه بانه صنع في حلب بأمر من نورالدين زنكي سنة 564 ه 1168 م. وأمام منبر نورالدين توجد دكة المؤذّنين على اعمدة صغيرة فوقها تيجان بيزنطية في غاية الجمال. واستطاع صلاح الدين بزمن قصير اصلاح كل ما غيره الصليبيون وكتب فوق باب المسجد آية من القرآن الكريم. ونتيجة لهذه الاصلاحات فقد اصاب المسجد تغييرات جذرية وادخل فيه بعض العناصر الجديدة. شرع المماليك في اجراء التحسينات على المسجد الاقصى فاستبدل الملك المنصور سيف الدين قلاوة جزءاً من السقف في القسم الجنوبي الغربي من المسجد. كما اجرى ابنه الملك الناصر محمد قلاون ترميمات اخرى فيه اذ زخرف القبة سنة 728 ه 1327 م وفتح شبابيك في الجدار القبلي الى يمين ويسار المحراب، وسجل اعماله فوق القوس الاوسط في الجانب الغربي من المسجد وتعود الى سنة 740 ه 1339 م وهناك كتابات اخرى كثيرة سجلت الاصلاحات والترميمات التي اجراها السلاطين والمماليك. وأهم الاصلاحات في الفترة المملوكية حدثت بعد خلل في اقواس الرواق الشمالي اذ رممها السلطان الملك الكامل بن الملك الناصر بن قلاون في سنتي 746 ه 1345 م و751 ه 1350 م وذلك باشراف عزالدين ايبك المصري. اما الشرفات التي تعلو هذا الرواق فقد جددها السلطان قايتباي سنة 879 ه 1474 م كما هو مدون في كتابة مثبتة في الواجهة. ويفهم من الكتابات التي سجلت على جدران المسجد ان الاقصى قد حافظ على شكله الحالي منذ اواسط القرن الرابع عشر للميلاد. المسجد في العصور المتأخرة حصلت في المسجد ترميمات عديدة في زمن سلاطين بني عثمان الذين حكموا حوالي 400 سنة 1517-1917م وصرفوا الاموال الضخمة للحفاظ على الاماكن المقدسة ومنها المسجد الاقصى فرمم وزخرف بالفسيفساء الا انه لم يطرأ عليه تغيير ملحوض في مخططه العام كما حرصوا على التحلي باللقب الذي يشعرهم انهم خدم للمساجد الثلاثة الاولى خادم الحرمين الشريفين والمسجد الاقصى اولى القبلتين. وقد اهمل المسجد منذ سقوط السلطان العثماني عبدالحميد حتى الاحتلال البريطاني. وفي الربع الاول من القرن العشرين حدثت زلازل اخرى اثرت في عمارته فوجه المجلس الاسلامي الاعلى في القدس عنايته اليه واستعان بالمهندس التركي المشهور كمال الدين وجمعت التبرعات واستقر الرأي على ابقاء العتبة وترميم وتجديد الاجزاء الاخرى. وسجلت هذه التجديدات فوق المحراب 1346 ه 1927 م وقد ظلت الاجزاء المجددة محافظة على طابعه الذي كان عليه ايام العباسيين والفاطميين. ونتيجة لزلازل اخرى ضربت المنطقة فقد تصدع المسجد وبدأ المجلس الاسلامي بإصلاحه سنة 1938 وانتهى العمل سنة 1943. ولم يسلم المسجد من القنابل الاسرائىلية اثناء حرب 1948 فقد سقطت قنابل عدة في منطقة الحرم الشريف اصاب بعضها اجزاء من بناء المسجد فاعيد اصلاحه بمساهمة من بعض الدول الاسلامية. وفي عدوان 1967 اصيب المسجد مرة اخرى بقنابل الاسرائيليين الذين عمدوا الى اشعال النار فيه صباح يوم 21 آب أغسطس 1969 فانهار جانب من سطح المسجد واتت النار على الجناح الجنوبي باكمله بما في ذلك منبر نورالدين زنكي كذلك محراب المسجد وقبته وكثير من النقوش والزخارف الفسيفسائية