كشك مدبولي كان أحد ملامح الحياة الثقافية في مصر إبان الستينات. كان ملتقى لكل المثقفين والسياسيين يلتفون حوله ويناقشون قضايا الوطن وهمومه. ولأن صاحبه الحاج مدبولي دأب على ترجمة كل أنواع المعارف العالمية، أصبح الكشك أشبه بالجامعة التي ينهل من معارفها كبار الكتاب والحكام والسياسيين المصريين والعرب. وهذا ما دفع الرئيس الراحل أنور السادات إلى إصدار أمر في السر بإزالته. إلا أن مكتبة مدبولي تحتفظ بتاريخ الثقافة المصرية بين رفوفها المتلاصقة. يتحدث الحاج مدبولي عن بداية رحلته مع الكتاب، قائلاً إن والده كان متعهداً لبيع الجرائد والمجلات الأجنبية والعربية، وكان وشقيقه يوزعانها في الأحياء المختلفة، إلى أن اقترحت نقابة الصحافيين في عام 1951 إقامة أكشاك لعرض الصحف والمجلات، وحصل والده على كشك في ميدان طلعت حرب في وسط القاهرة، حيث المكتبة الحالية. ويتذكر الحاج مدبولي كيف كان يجوب أحياء الجلاء والدقي والسرايات التي كان يقطنها الأجانب من الأرمن والايطاليين، وحصلت الأسرة على توكيل من معظم الصحف العالمية لتباع في مصر. وبمرور السنوات بدأ مدبولي يفكر في خوض مجال بيع كتب من الأدب العالمي. وفي أوائل الستينات وقت ازدهار الحياة الثقافية خاض مجال الترجمة، واتفق وعدداً من المترجمين الذين كانوا يتجمعون حول الكشك ليترجموا روايات ومسرحيات وسيراً ذاتية لشخصيات عالمية مثل: ألبر كامي وجان بول سارتر اللذين لم يكونا معروفين آنذاك لدى المصريين. وكانت أسعار الكتب المترجمة تتفاوت بين قرش و40 قرشاً. وترجمت كذلك أعمال تشيكوف وديستوفيسكي. وعن أختيار الأعمال التي تتم ترجمتها، يقول: "المادة الجيدة في أي فرع من فروع المعرفة، تفرض نفسها، وأنا من المؤمنين بأن النقد البناء وسيلة لبناء المجتمع، فلنترك الباب مفتوحاً أمام الآراء الجيدة بحرية والعقل في النهاية هو سيد الموقف". ويتحدث مدبولي عن قصة إغلاق الكشك، قائلاً: "بعد تأسيس المكتبة الحالية حرصت على الحفاظ على الكشك القديم المقابل للمكتبة على الرصيف نفسه، وذلك لأنه رمز وشعار. فقد لعب الكشك دوراً أسياسياً في حياة المثقفين المطاردين من "البوليس السياسي". ويضيف أن الكشك ساهم في بلورة أفكار معظم الكتاب والرؤساء "وكثيرون منهم كانوا يشترون مني الكتب بنظام التقسيط". ويؤكد الحاج مدبولي أن الاستخبارات الاميركية ذكرت في أحد التقارير أن كشك مدبولي هو أخطر ظاهرة في مصر. "ففوجئت بإصرار المحافظ سعد مأمون على إزالة الكشك، وبعد تدخل عدد كبير من الكتاب أخبرني أن السادات وراء القرار لأهمية الكشك الثقافية والسياسية". ويتذكر الحاج مدبولي بتأثر بالغ نية عدد كبير من المثقفين الاعتصام في جوار الكشك يوم الإزالة لكنه رفض ذلك حرصاً على سلامة الجميع. وسألته "الحياة" عن علاقته بالراحل جمال حمدان صاحب موسوعة "شخصية مصر" فقال: "كان من العظماء، وعلاقتي به بدأت منذ أن نشرت له أول جزء من "شخصية مصر" وكان متابعاً جيداً للحركة الثقافية في مصر من خلال ذلك الكشك. وقد طلب مني كتابة قصة حياتي، إلا أنني رفضت، فقد كان ينجز ما هو أهم مني. كان يكتب من أجل مصر، وكان الرجل سابقاً لعصره، فيكفي أنه أول من تحدث عن تعمير توشكى في كتابه "شخصية مصر"، في عام 1968". ويتحدث الحاج مدبولي بصراحة عن رغبته في الماضي في نشر أعمال الأديب نجيب محفوظ، ويقول إن "محفوظ رفض ذلك بأدب لوجود ارتباط روحي بينه وبين سعيد السحار". وعن أشهر زبائنه الدائمين، يقول إنهم كثيرون، ومنهم اسامة الباز، ومصطفى الفقي، وبطرس غالي، ومن الفنانين نور الشريف ومحمود ياسين وصلاح السعدني. ويعود الحاج مدبولي مرة أخرى بذاكرته إلى الوراء، فيقول: "إن أزهى عصور الحركة الثقافية في مصر كان في الستينات". وأخيراً تسأله "الحياة" هل هناك قارئ جيد حالياً؟ يرد الحاج مدبولي بسرعة: "لا.. القارئ زمان كان لديه الاستعداد والوقت للقراءة، وكنت أبيع 500 نسخة من الكتاب في يوم واحد، أما حالياً فلا وقت ولا حب للقراءة".