كما "الجلد المسحور" في قصة اونوريه بلزاك الشهيرة يتقلص كلما مسته يد، فإن الجيش الروسي ينكمش باطراد منذ أن لامسته أصابع "الاصلاحيين" قبل عشر سنوات. وأعلن أخيراً ان تعداده سيتقلص من 1.2 مليون الى 850 ألف عنصر، أي انه سيكون مقارباً لتعداد الجيش التركي. وعند انهيار الاتحاد السوفياتي بلغ عدد منتسبي وزارة الدفاع الروسية قرابة ثلاثة ملايين هي "حصة" روسيا من الجيش السوفياتي، بيد أن العدد أخذ يتضاءل بسرعة بفعل الضائقة المالية ولأسباب "ايديولوجية" تتلخص في أن موسكو "لم يعد لها خصوم" كما قال الرئيس السابق بوريس يلتسن. لكن المشاكل الاقتصادية والنزاعات "الانسانية" لم تمنع الكرملين من زيادة الجهاز القمعي، فوزارة الداخلية غدت، عددياً على الأقل، أكبر من وزارة الدفاع وزاد عدد منتسبيها على المليونين، وتحت تصرفهم مدرعات وطائرات وأسلحة متطورة ل"مكافحة الشغب". وصار الجيش مطلوباً حينما أراد يلتسن توريطه في عملية قصف البرلمان ليضمن ولاءه أو على الأقل ليمنع انحياز الجنرالات الى مجلس السوفيات الأعلى الذي كان يمثل الشرعية الدستورية المستباحة. ونفض الغبار مرة أخرى عن القوات المسلحة حينما قرر الكرملين شن الحرب الشيشانية التي أريد لها ان تصبح "سياحة" سريعة تتكلل بالظفر، لكنها غدت مستنقعاً دموياً تردت فيه الدولة وجيشها الذي كان يعد من أقوى جيوش العالم. ولئن كان الراديكاليون الشيشانيون الذين هاجموا داغستان قدموا حجة لبدء الحملة القوقازية الثانية، فإن الحرب الأخيرة كانت في الوقت ذاته فرصة انتهزها الجنرالات اما للانتقام من الهزيمة في الحرب الأولى أو للاثراء السريع. وفي كلا الحالين فإن الرصاص يصيب الجنود وصغار الضباط والحرب كلها تصبح موقداً تلتهم نيرانه موارد الدولة وما تبقى من الجيش. وجاءت مأساة الغواصة "كورسك" لتكشف عيوباً لم تكن في الواقع مستورة، ولتدفع فلاديمير بوتين الى الحديث صراحة عن وضع كارثي تعاني منه القوات المسلحة. وبعدما كان الرئيس يتحدث بحماسة عن نيته استعادة مواقع روسيا كدولة عظمى، فإن الكرملين صار الآن ميالاً الى القبول بالأمر الواقع والموافقة على تقليص عشر فرق صاروخية استراتيجية و180 ألف عنصر من القوات البرية و50 ألفاً من البحرية و40 ألفاً من منسوبي سلاح الطيران. وهكذا ينكمش "الجيش المسحور" ليغدو في حجم الجيش التركي على رغم ان مساحة روسيا تعادل 2.5 مرة مساحة جارتها التي لا تخفي طموحاتها الاقليمية. وباستثناء السلاح النووي لم يبق لدى روسيا الكثير من مقومات القوى العسكرية الكبرى، وحتى هذه "القشة" لن تغدو طوق نجاة ما لم تعمد قيادة الكرملين الى "فك السحر" والتخلص من السحرة.